خطبة المسجد النبوي - الفــوز بالنعيم باتبـــاع الصــراط المستقيم


مجلة الفرقان

جاءت خطبة المسجد النبوي بتاريخ 23 ذي الحجة 1443 الموافق 22 يوليو 2022 للشيخ: أسامة بن عبدالله الخياط، بعنوان: (الفوز بالنعيم باتباع الصراط المستقيم)، واشتملت الخطبة عددًا من العناصر منها: حُسن اتباع أوامر الله سبيل الفلاح والفوز، وموقف الناس من زينة الحياة الدنيا، وعظمة نعيم الجنة وتفرده عن كل نعيم، ويقين أهل الإيمان بنعيم الآخرة وعملهم لذلك، وضلال من يركنون لنعيم الدنيا ويفضلونه، والنجاة في القناعة وسلوك الصراط المستقيم.


في بداية الخطبة أكد الشيخ الخياط ضرورة أن نجعل لنا من مرور الأيام، وتصرُّم الأعوام، حُسْن الاعتبار، واعلموا أن الأوقات خزائن، فلينظر كل امرئ ماذا يضع في خزائنه التي لا غناء له عنها، في يوم تشخص فيه الأبصار، يقوم الناس لرب العالمين.
اتباع وصايا القرآن


وأشار الشيخ الخياط إلى أنَّ اتباع وصايا القرآن، والاتعاظ بعظاته، والاعتبار بعبره، نهج أُولي الألباب، وطريق أُولي النُّهى، وسبيل أُولي الأبصار، يبتغون به الوسيلة إلى إدراك المنى، وبلوغ الآمال في العاجلة، والحظوة بالرضوان ونزول أعالي الجنان في الآجلة، ولقد جاء ضرب الأمثال للناس من تقريب المعاني وإيضاح الحقائق ما يبعث على حُسن القَبول والإيمان، وكمال التسليم والإذعان، لبراعة التصوير، وبلاغة التشبيه، من ذلك فنون القول البليغ الذي أمَر اللهُ به نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - بقوله: {وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} (النِّسَاءِ: 63)، فحين أراد -عليه الصلاة والسلام- أن يوجه الأنظار إلى حقيقة الدنيا وانشغال النفوس بها، وافتنان الناس بزهرتها وزينتها وزخرفها قال - صلى الله عليه وسلم -: «إن الدنيا حُلوة خَضِرة، وإنَّ اللهَ مُستخلِفُكم فيها فينظر كيف تعملون» الحديث... (أخرجه مسلم في صحيحه، والنسائي في سننه)، ولا ريب أن للحلاوة والخضرة مقامهما في النفوس؛ إذ هما موضع أُنس لها، وسبب إمتاع تَبلُغ به من السرور ما يحملها على دوام الإقبال عليه، والانصراف إليه.
للناس موقفان


وللناس في هذا الإقبال والانصراف موقفان، موقف أُولِي الألباب الذين هداهم الله، فسلكوا أصوبَ المسالك، واهتدَوْا إلى أشرف غاية، فعلموا أنهم وإن كان لهم أن يأخذوا بحظهم ويصيبوا لهم ما قدر لهم من نعيم العاجلة، فإنَّ عليهم الحذر أن يشغلهم هذا النعيمُ ببهجته ونضرته وبريق سحره، عن ذلك النعيم المقيم، والبهجة الباقية، والمتاع الذي لا يفنى؛ ذلك المتاع الذي أعدَّه الله للصالحين من عباده، وأخبر عنه بقوله -عز اسمه-: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا} (الْكَهْفِ: 30-31)، وأخبَر عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله في الحديث الذي أخرجه الشيخان في صحيحهما، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «قال الله -عز وجل-: أَعدَدْتُ لعبادي الصالحينَ ما لا عينٌ رأت، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خطَر على قلب بشر، واقرؤوا إن شئتُم: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}(الس َّجْدَةِ: 17)».
والذي وصفه أيضًا بقوله -عليه الصلاة والسلام-: «إذا دخَل أهلُ الجنةِ الجنةَ يُنادي منادٍ: إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدًا، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدًا، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدًا؛ وذلك قول الله -عز وجل-: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (الْأَعْرَافِ: 43}»، (أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، والترمذي في جامعه، من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه ).
عِظَم قَدر النعيم وعلو منزلته


وبيَّن عِظَم قَدرِه وعلو منزلته على كل نعيم في الدنيا بقوله -في الحديث الذي أخرجه الإمام البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لَقَابُ قوسِ أحدِكم في الجنة خيرٌ ممَّا تَطلُع عليه الشمسُ أو تَغرُب»، وفي صحيح الإمام البخاري أيضًا من حديث سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه - أنَّه قال: «قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: موضعُ سوطٍ في الجنة خيرٌ من الدنيا وما فيها».
نعيمٌ لا مُكافئَ له ولا مساويَ


إنَّه نعيمٌ لا مُكافئَ له ولا مساويَ، فضلًا عن أن يفوقه أو يزيد عليه، فلا عجب أن يكون لهم في كل باب من أبواب الخير نصيب وافر، بالقيام بأوامر ربهم -سبحانه-؛ أداء للفرائض، وكفًّا عن المحارم، وازدلافًا إليه بالنوافل، واشتغالًا بكل نافع يمكث في الأرض، وإعراضًا عن الفضول والزَّبَد الذي يذهب جُفاءً، مستيقنينَ أنهم حين يتخذون من أعمالهم المحدودة طريقًا إلى رضوان ربهم بما يستغرقونها من الأعمال، وما يودعونها من الصالحات إنما يزرعون اليوم ليحصدوا ثمار غرسهم غدًا؛ مستحضرينَ على الدوام، قولَ ربهم العلَّام: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ}(الشُّو رَى: 20)، وقوله -سبحانه: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا}(الْإ ِسْرَاءِ:19)؛ فكانوا بهذا النهج السديد، وهذا المسلك الرشيد، خير من امتثل الأمر الرباني الكريم: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} (الْقَصَصِ: 77)، فأحسِنوا إلى أنفسهم غايةَ الإحسان؛ باتخاذهم الحياة الدنيا سُلَّمًا وسبيلًا مُوصِلًا إلى رضوان الله، وإلى نزول الجنة دار النعيم المقيم، وكانوا بذلك أحكم الخلق، وأعقل العباد، وأكرمهم على الله، وعلى العكس منهم موقف أولئك الذين أغفل الله قلوبهم عن ذكره، واتبعوا أهواءهم، وكان أمرهم فرطًا؛ فإنهم جنحوا إلى سبل الضلال، وحادوا عن الجادَّة، فقعدوا عن أداء الفرائض، ووقعوا في محارم الله، واستكثَرُوا من أكل الحرام، وقام الشُّحُّ عندهم مقامَ البذل، فتقطعت بينهم الأسبابُ، ووهت الوشائجُ وانفصمت العُرَى، وأضحى التمتُّع بالنعيم الفاني منتهى قصدهم، وغايةَ سعيهم، وأكبرَ همِّهم، ومبلغَ عِلمِهم، جمعوا لدنياهم، ونسوا أخراهم، فلم يرفعوا بثوابها العظيم رأسًا، فكان جزاؤهم كما قال -سبحانه-: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا}(الْإ ِسْرَاءِ: 18)، وحق عليهم ذم الله وتوعده لهم في قوله -عز من قائل-: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}(التَ ّكَاثُرِ: 1-8).
فاتقوا الله وكونوا مع الذين ابتغوا فيما آتاهم الله الدار الآخرة، ولم ينسوا نصيبهم من الدنيا؛ {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ}(ال زُّمَرِ: 18)، ولا تغرنكم الحياة الدنيا بزخرفها وزينتها؛ فقد بيَّن لكم ربُّكم -سبحانه- حقيقتَها وواقعَها بأوضح بيان، فقال وهو أصدق القائلين: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}(الْح َدِيدِ: 20).
توجيه نبوي ما أحكَمَه وما أعظَمَه!


جاء في الحديث الذي أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، والترمذي في جامعه، عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - أنَّه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «قد أفلح مَنْ أسلَم وزُرِقَ كفافًا وقنَّعَه اللهُ بما آتاه»، وفي الحديث الذي أخرجه الشيخان في صحيحهما، عن أبي هريرة - رضي اللهعنه - أنَّه قال: «سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا، وفي رواية: كفافًا»، وهو توجيه نبوي ما أحكَمَه وما أعظَمَه! وما أجمَل العقبى في الأخذ به! بانتهاج نهج القناعة التي تسكن بها النفس، ويطمئن بها القلب، وتطيب الحياة، فإنما هي دار انتقال وممر، لا يصحب المرء منها إلا ما قدم لنفسه، فاتقوا الله وليكن هذا النهج السديد خير ما تعتدونه في سيركم إلى الله والدار الآخرة، تكونوا من المفلحين الفائزين بمغفرة من ربكم، وجنة عرضها السماوات والأرض، أعدت للمتقين.