أمير الأندلس الذي وصل بالفتح الى أقرب بلدة من باريس


. أحمد الظرافي




كان الأمير عبد الرحمن الغافقي، الذي قاد عملية انسحاب المسلمين ببراعة إثر استشهاد السمح بن مالك الخولاني في معركة طولوشة (تولوز) في يوم عرفة سنة 102هـ، والرجل البارز في الجيش، هو الأجدر بخلافة السمح، لولاية الأندلس، والتي تشمل فيما تشمل تبوأ منصب القيادة العامة للجيش، وذلك بعد أن مارس الغافقي هذا المنصب فعليًا نحو شهرين، بموافقة كبار القادة والزعماء.


وقد أنفق عنبسة فترة تقارب الثلاث السنوات، في إعادة الأمن، وتنظيم الإدارة، وإعداد العدة للجهاد وراء جبال البرت، فاستقام الحال في الأندلس، وضبط أمورها أتم ضبط. وبعد ذلك تحرك على رأس جمع كبير من مسلمي الأندلس، نحو الشمال، وعبر بهم جبال البرتات، أواخر سنة 105هـ / ربيع 724م

بيد أن بشر بن صفوان الكلبي، والي أفريقية، والذي كانت الأندلس قد عادت تابعة له إداريًا، منذ مطلع خلافة يزيد بن عبدالملك (101-105هـ)، رأى غير ذلك، فاختار رجلاً آخر، وهو عنبسة بن سحيم الكلبي، نسبة لقبيلة كلب اليمنية، التي عُرفت بولائها للأمويين منذ خلافة معاوية.

وكان وصول عنبسة إلى مركز عمله في قرطبة، في صفر سنة 103هـ، أي بعد أقل من ثلاثة أشهر فقط، من استشهاد الوالي السابق ومن أول هزيمة للمسلمين في غالة "فرنسة"، بل أول نكسة في تاريخهم العسكري، منذ وطأت أقدامهم، في البر الأوروبي.

وكان عنبسة، برغم صلة القرابة، التي قد تكون فرضته واليًا على الأندلس، على غرار سلفه، أي السمح، كفاءة وقدرة من الناحيتين العسكرية والإدارية، ورعًا وصلاحًا وأمانة على الدولة الإسلامية وأهلها، وشغفًا بالجهاد وحرصًا على مواصلة الفتوحات لنشر الإسلام، وتوسيع رقعته، وكان من الولاة الشجعان والأعلام الكبار، والقادة البارزين، الذين عرفتهم الأندلس في عصر الولاة، حتى أن البعض يشبهه بالقائد الكبير الخالد عقبة بن نافع بطل فتح أفريقية والمغرب، وذلك كما ظهر من جهوده وأعماله وخلاله.

وقد أنفق عنبسة فترة تقارب الثلاث السنوات، في إعادة الأمن، وتنظيم الإدارة، وإعداد العدة للجهاد وراء جبال البرت، فاستقام الحال في الأندلس، وضبط أمورها أتم ضبط. وبعد ذلك تحرك على رأس جمع كبير من مسلمي الأندلس، نحو الشمال، وعبر بهم جبال البرتات، أواخر سنة 105هـ / ربيع 724م، من المعبر الشرقي، وهو نفس المعبر الذي سلكه السمح بن مالك الخولاني وجيشه من قبله، وأفضى إلى ولاية سبتمانيا، فبدأ بتفقد أحوال المسلمين، في أربونة، وتوطيد فتوحات سلفه في هذا الإقليم. ثم قصد استعادة القواعد، التي خرجت عن طاعة المسلمين، بعد هزيمتهم في طولوشة، وعلى رأسها مدينتي قرقشونة ونيمة.

فتذكر المصادر، أن عنبسه، بدأ جهده العسكري، بحصار قرقشونة، وضيق الخناق على من كان بها من مقاتلة القوط، حتى أجبرهم على الخضوع، والقبول بشروط الصلح التي اشترطها عليهم، وهي:

1. الإفراج عمن كانوا يحتجزونهم من أسرى المسلمين في قلعة المدينة، وإعادة ما سلبوه منهم.

2. النزول عن البلد، ودفع حاصل نصف أراضي الإقليم المحيط بها للمسلمين.

3. أن يعطوا الجزية عن رءوسهم، وأن يلتزموا بأحكام أهل الذمة.

4. أن يكونوا عونا للمسلمين، ضد العدو المشترك وهم الفرنحة.


ويرجع نجاح عنبسة في هذه الفتوحات، بحسب رأي إيزيدور الباجي المعاصر لهذه الفتوحات، إلى الجرأة والحذق والمهارة، أكثر منه إلى القوة والبطش والكثرة، وكان لينه ورفقه، وحسن معاملته للسكان، عاملاً في تقوية سلطان الإسلام في جنوبي فرنسا.

وبعد أن فرض عنبسة الأمن في هذه المدينة، ورتب أمر حاميتها، وجعلها قاعدة ثانية للمسلمين في غالة، تدعيمًا لخط الدفاع الشمالي الغربي، لمدينة أربونة، عاصمة ولاية الثغر، والقاعدة الساحلية الإسلامية الأولى، فيما وراء البرت، وللتصدي لأي هجوم قد يستهدفها، من ناحية مدينة طولوشة، ومن سائر أنحاء مقاطعة أقطانية.

أقول إن عنبسة، بعد أن فعل ما فعل في قرقشونة، انعطف شرقًا، على رأس كتائبه الخفيفة والسريعة الحركة، لإعادة إفتتاح مدينة نيمة، فافتتحها، من دون مقاومة تذكر، وأخذ من أبناء زعماء نيمة عددا من الرهائن، وأرسلهم إلى برشلونة، في شمال شرقي الأندلس، لضمان طاعتهم، وعدم تمردهم، على السيادة الإسلامية، وللحيلولة دون عودتهم لمحالفة الفرنج.

ثم بعد ذلك تابع عنبسه زحفه شرقًا، سالكًا طريقًا جديدة بمحاذاة البحر المتوسط، يعبرها المسلمون لأول مرة، حتى بلغ مصب نهر الرون، وفتح إقليم بروفانس الواقع في جنوب شرقي فرنسا، وعلى رأسه مدينة آرل الواقعة عند مصب ذلك النهر، مما أتاح له حرية التحرك شمالاً، فصعد على طول مجرى النهر، حتى مدينة ليون، فافتتحها، وافتتح ما قبلها من مدن ، بأقل قدر من الجهد والخسائر، ثم توغل في الإقليم المعروف باسم برغنديًا الواقع غربي نهر الرون، وقطع نهر الساءون، حتى أدرك مدينة أوتون في أعالي نهر الرون، فافتتحها، وذلك في أغسطس سنة 725م/ 107هـ، واستطاعت سرايا المسلمين في هذه الغزوة الوصول إلى لوكسيل القريبة من حدود سويسرا، بل يشير بعض المؤرخين الغربيين، إلى أن عنبسة بعد أن اجتاح حوض نهر الرون كله، تغلغل حتى بلغ مدينة صانص، الواقعة على مسافة 70 كم من باريس. وهي أبعد مسافة وصل إليها قائد مسلم في أوروبا. وهي تبعد نحو 800 كيلو مترًا شمال جبال البرت.

ويرجع نجاح عنبسة في هذه الفتوحات، بحسب رأي إيزيدور الباجي المعاصر لهذه الفتوحات، إلى الجرأة والحذق والمهارة، أكثر منه إلى القوة والبطش والكثرة، وكان لينه ورفقه، وحسن

معاملته للسكان، عاملاً في تقوية سلطان الإسلام في جنوبي فرنسا.

وكيفما كان الأمر، فإنه بفضل هذه الانتصارات المذهلة، والإنجازات العظيمة التي حققها عنسبة وجيشه، في هذه الغزوة، والتي لم تستغرق سوى القليل من الوقت، بسط المسلمون سلطانهم قويًا في جنوب شرقي فرنسا، حتى وسطها.

أما لماذا لم يتوجه عنبسة إلى طولوشة في غربي فرنسا؟، بعد أن افتتح قرقشونة، مع أنها كانت الأقرب إليه؟ فسبب ذلك غير معروف، لكننا لا نعتقد أن ذلك كان خوفا من مواجهة غير مأمونة العواقب مع الدوق أودو، كما زعم أحد المؤرخين، إنما لأن هذا الدوق، كان قد هادن المسلمين، ونأى بنفسه عن الانغماس في حرب معهم، بعد أن جرّب قوتهم، لاسيما وأنه كان يخشى أيضًا بأس خصمه القوي شارل رئيس بلاط المملكة الفرنجية في الشمال.

وقد يكون هذا هو السبب الأكثر قبولاً من الناحية المنطقية، ولولا ذلك، ما كانوا ليتركوه وهم على أطراف بلاده وينحرفوا باتجاه الشرق، لاسيما، وأن أودو هذا، لم يسر لمهاجمة المسلمين، عند توغلهم شمالاً، في حوض نهر الرون، ولم تصدر منه أية حركة ضدهم، ولاسيما أيضًا، أن الحوليات الكنسية، تنسب إلى أودو هذا القيام باستدعاء المسلمين لغزو بلاد الغال، والتعاون معهم ضد خصمه القوي، وعدوه اللدود، أقصد شارل رئيس بلاط الدولة الفرنجية.

والجدير بالذكر أن هذه المناطق لم تمكث طويلاً تحت سيطرة المسلمين نظرًا لنقص العامل البشري لديهم وإنعدام التعزيزات، آنذاك، ثم أن عنبسة حين عودته المظفرة إلى الجنوب، مع حلول فصل الشتاء، داهمته، جموع كبيرة من الفرنج، وقطعت عليه خط رجعته، عند عبوره لأحد الأنهار فاشتبك معها بمن كان في رفقته من جنود، في معركة طاحنة، انتهت باستشهاده، وعدد من أصحابه، وكان ذلك في شعبان 107هـ/ ديسمبر 725م، فاضطر باقي الجيش، إلى العودة، إلى قواعده في سبتمانيا، وبخاصة أربونة وذلك تحت قيادة الأمير عذرة بن عبد الله الفهري، الذي تطلق عليه إحدى الحوليات الكنسية Hodera، ويكون عذرة بذلك قد قام بنفس الدور الذي قام به الغافقي بعد مقتل السمح، وهزيمة المسلمين تحت أسوار طولوشة يوم عرفة سنة 102هـ.