كنت بريئًا جدًّا، تلاحق عيناي ضوء الشمعة، وبعد تكرار المشهد سنوات، أدركت أنهم يحتفلون بعيد ميلادي، لحظات، يغادرني الجميع، فتعود الوحدة والملل، أنتظر العُطَلَ والأعياد كي أخرج، وأركض تحت الشمس، وحين انطلقَ لساني صرتُ ألاحقهم؛ لأتعلم منهم الأشياء والكلمات، أهدوني جهازًا وسماعةً؛ ليرتاحوا من صوتي وأسئلتي، سررت به، وجدت فيه رفاقًا من كل العالم، أتعلم منهم العادات والكلمات والحركات، أشاهد ما يحلو لي، ولا أشعر بالضيق إلا حين يقتحم صراخ الأهل عالمي الخاص، وأحضُرُ لسماع أوامرهم.
تارةً سأصبح طبيبًا كي تتباهى أمي، وتارةً سأصبح مهندسًا كي يرضى والدي، وتارةً سأصبح شرطيًّا كي يبتسم جَدِّي...
أحيانًا يريدونني عبدًا مطيعًا صامتًا، وأحيانًا يريدونني حرًّا عظيمًا قائدًا! تعلمت منهم الغضب، والتمارض، والصوت العاليَ، والكذب الأبيض، لكنني حين كبرت أدركت أن ما تعلمته كان حرامًا حتى عيد ميلادي.
في البيت حيث يتقن أبواي فنَّ الجدل وأسلوب الأمر والتوبيخ لا أحدَ يصغي إليَّ، أجدني مشتَّت الذهن، مخلوط اللغة والثقافة، محاطًا بالتفاهة، كل هذا ويطالبني الجميع بالفصاحة والنباهة والتقوى.
كبرت أكثر، نعم كبرت، وتحررت من قفص البيت إلى سور المدرسة، نقضي ساعات في غرف صغيرة مزدحمة، وجوه جديدة مختلفة الظروف والعادات واللهجات، هنا بين الجموع وفوضى القناعات أفتش عن ذاتي، وشخص أرافقه، بينما كوادر المدرسة مشغولة بشكل الحصة، ومراسم الزيارة، وتسجيل أخطائي وعثراتي!تحركت في المكان، وكان عليَّ أن أجمُدَ خلف المقعد الخشبي الصغير، ليُقال عني: طالب مهذب!تنفَّست بصوت عالٍ، وكان عليَّ أن أكتم أنفاسي؛ ليفتخروا في مجالسهم بسماع رنين الإبرة على الأرض!
جعلوني أحفظ آيات العلم، وأحاديث الغش، وقيم المثابرة، ولكنني فرحت وفرحوا بنتائج لم أصنعها، وبأبحاث لم أكتبها، تعلمت من الكتب والمعلم وإذاعة المدرسة أن العدالة ملك القيم، وأن الجميع متساوون في الفرص كأسنان المشط، ولا فرقَ بين طالب وطالب إلا بالخُلُق والاجتهاد، وبعد حين أدركت أن قائمة الفروق طويلة جدًّا، تبدأ من حق دخول المدرسة، وتنتهي بحق اختيار الجامعة، مرورًا بحق اقتناء الكتب، وركوب الحافلة، والاستمتاع بطعم الرحلة، فعجزت عن فهم تلك الكلمات الغامضة (الانتماء، الهُوِيَّة...)، رغم المواعظ والشرح، وترديدي النشيد كل صباح.سأكبر أكثر، وأجدني ذات يوم فتًى يافعًا، ضخم الجثة، ضعيف الإرادة والمناعة، أحمل شهادةً ملونةً منزوعة المهارات، أتقن من الفنون التبرير والتسويف والتصفيق، ومن الرياضة الهتاف والأخبار، ومن السياسة المماطلة والدوران، ومن الوطنية ألوان الأعلام، ومن الثقافة معلومة أننا نقبع في ذيل قوائم القراءة في العالم، ويطالبني الجميع أن أكون عبدًا لمن علمني حرفًا!
سأخبئ كلماتي؛ كي لا يحزن بها أبواي أو تغضب مدرستي، وأهمس باستحياء بأننا أمانة، فهل أنتظر دفئًا أسريًّا يلملم شتات الضحية، وضميرًا حيًّا يعلمني القيم سلوكًا، فأكبر بهم ويكبروا بي؟





رابط الموضوع:
https://www.alukah.net/literature_language/0/158317/%D8%B5%D9%81%D8%AD%D8%A9-%D9%85%D8%B3%D8%B1%D8%A8%D8%A9-%D9%85%D9%86-%D8%B0%D8%A7%D9%83%D8%B1%D8%A9-%D8%B7%D8%A7%D9%84%D8%A8/#ixzz7jOycyIak