الإسلام دعوة العلم والعمل
الدعوة السلفية هي دعوة الرجوع إلى مصادر الإسلام الأصيلة، والتمسك بالأحكام الشرعية التي أنزلها الله -تعالى- على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -، وهو الإسلام النقي الصافي الخالي من الانحرافات العقدية والعبادية والشركيات والضلالات والبدع، وغير ذلك مما أُلصق بهذه الدعوة المباركة، وهذا الإسلام الصحيح على التاريخ؛ فالدعوة السلفية التي هي دعوة للعودة إلى الإسلام، ليست بدعا من القول، وليست أمرا محدثا، إنما هي دعوة للعودة إلى الإسلام الصحيح الذي أنزله الله -عز وجل.
وهذا الإسلام انتسب إليه أناس كُثر، كلهم يدّعي أنه على المنهج الصحيح، وأنه هو الرؤية الصحيحة لهذا الدين؛ لذا فالدعوة السلفية تُمثل الرجوع إلى هذا الإسلام الصحيح وإلى المصادر الأصيلة لكن وفق منهج السلف من الصحابة والتابعين وأئمة الدين المعتبرين؛ لهذا فإن منهج السلف وطريقتهم في تلقي الدين وفهمه والعمل به والدعوة إليه، منهج متميز له أسس وقواعد ومميزات وآثار مباركة على مر التاريخ.
المنهج السلفي والعلم
وسنسلط الضوء على جانب من جوانب المنهج السلفي، ألا وهو جانب العلم، لكن قبل ذلك أذكر مقولة من خلالها ينطلق الحديث والمدارسة إن شاء الله، وهذه المقولة وهذا الأثر ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في عديد من كتبه، وهو يُنسب إلى عمر - رضي الله عنه - أنه قال: «إنما تُنقض عُرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية»، وأخرج الحاكم والبيهقي وابن أبي شيبة أن عمر خطب في إحدى مواقفه وقال: «قد علمت -ورب الكعبة- متى تهلك العرب! فقال قائل: متى تهلك العرب يا أمير المؤمنين؟ قال: حين يسوس أمرهم من لم يعالج أمر الجاهلية، ولم يصحب الرسول - صلى الله عليه وسلم ».
نظرة في أعماق التاريخ
إذًا حتى نعرف أن الدعوة السلفية أو الإسلام هو دعوة العلم والعمل، لابد من العودة إلى أعماق التاريخ حتى نعرف ما كان عليه الناس قبل الإسلام.
الجاهلية مصطلح ورد في القرآن الكريم في الآيات المدنية، كما في قوله -عز وجل-: {ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِّنكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ }، وقال -سبحانه وتعالى-: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ}، وقال -سبحانه وتعالى-: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى}، وقال -عز وجل-: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ }، فهذا المصطلح ورد في السور المدنية، ويُعبّر عن مرحلة زمنية كانت قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم-، وأخرج الترمذي عن عمران بن حصين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب في حديث طويل، الشاهد فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «فإنها لم تكن نبوة قط إلا كان بين يديها جاهلية».
أحوال الناس قبل البعثة
فإذًا الجاهلية مصطلح يطلق على ما كان عليه الناس قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم-، ما كانوا عليه في الاعتقادات والعبادات والأحوال الأسرية والأحوال الاجتماعية وغير ذلك، وسُمي هذا المصطلح (جاهلية) نسبة إلى الجهل. والذي ينظر في أحوال الناس قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم -، يجد أنهم كانوا في حالة من الجهل المدقع، والظلم، والبعد عن أدنى درجات الإنسانية، فضلا عن درجات العلم.
وقد وصفهم القرآن بذلك وصفًا بليغا دقيقا فقال -سبحانه وتعالى-: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا}، وقال -سبحانه وتعالى-: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ}، هذا المثل ليس للراعي، إنما مثل الذين كفروا كمثل الغنم -أعزكم الله- تسمع صوت الراعي يناديها تأتيه وهي لا تفهم ما يقول.
جهل كامل وظلام محيط
وقال -عز وجل- عن أصحاب النار-: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ}، جهل كامل وظلام محيط، حتى أهل الكتاب المثقفون في ذلك الوقت قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم-، قال -عز وجل-: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا}؛ فالجاهلية وصف لمرحلة زمنية قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم- يصف حال الناس، ما كان عليه العرب الأميين وأهل الكتاب من اليهود والنصارى، وفي حديث مسلم عن عياض بن حمار في خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم في حديث طويل قال في موضع الشاهد-: «إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب»، وهذا يبين ما كان عليه الناس في ذلك الوقت من الضلال والانحراف والجهل الكامل والظلام المحيط في نواحي الحياة كلها.
صفات العرب
ينقل أهل التاريخ أن العرب كانت لهم صفات محمودة، كالشجاعة، والكرم، وغيرها، لكن في المقابل كانت لهم صفات ذميمة، وبُعِث في العرب أنبياء، فهود كان عربيًا، وصالح كان عربيًا، وأهل مكة كانوا على دين إبراهيم الحنيف -عليه السلام-، كانوا يعرفون إبراهيم واسماعيل وأن هذا بيت الله، لكن انحرفوا عن ملة التوحيد، فعمرو بن لحي ذهب إلى الشام، ووجدهم يعبدون الأصنام فاستحسن هذا الأمر، فرجع بالأصنام وتبعه الناس؛ لأنه ذو مكانة وذو مال وذو وجاهة، ومن هنا صُدِّرَت الأصنام إلى الجزيرة العربية، في مكة حول الكعبة 360 صنما تُعبد من دون الله -عز وجل-، ويقول التاريخ: إن عمرو بن لحي كان له قرين من الجن، أعلمه أين دُفنت الأصنام التي كان يعبدها قوم نوح، فاستخرجها وأصبح لها مكانة عند العرب، {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا}، وكان لكل قبيلة صنم يعبدونه من دون الله -عز وجل- كاللات والعزى ومناة كانوا ينسبونها أنها بنات الله، -تعالى- الله عن ذلك علوا كبيرا!.
الانحراف العقدي
هذا الانحراف العقدي يبين لنا القرآن الكريم كيف أن ما يعبدون من دون الله -عز وجل- لا ينفع ولا يضر ولا يغني عنهم ولا يملك لهم موتا ولا حياة ولا نشورا، وذكر الصحابة والتابعون أحوالا من جهالة العرب وانعدام عقولهم، أخرج البخاري عن أبي رجاء العطارجي قال: كنا نعبد الحجر، فإذا وجدنا حَجَرًا هو أخير ألقيناه وأخذنا الآخر، فإذا لم نجد حجرا جمعنا جذوة من تراب ثم جئنا بالشاة فحلبناها عليه ثم طفنا به.
يقول مجاهد: حدثني مولاي أن أهله بَعَثوا معه بزبد ولبن إلى آلهتهم، فما منعني أن آكل الزبد واللبن إلا خوف الآلهة، فوضعتها عند الآلهة، فجاء كلب أكل الزبد وشرب اللبن وبال على الصنم.
قال هارون: كان الرجل في الجاهلية يسافر معه أربعة أحجار، ثلاثة لقِدْرِه والرابع يعبده، ونقل الحافظ بن حجر عن القرطبي أن بعض الجاهلية كانوا يعملون الأصنام من كل شيء: خشب وحديد، حتى من التمر، كان يصنع إلهه الذي يعبد من التمر فإذا جاع أكله.
هذه بعض مظاهر الانحراف؛ لذلك الشيخ محمد بن عبدالوهاب -رحمه الله- عقد كتابا سماه (مسائل الجاهلية)، وهي المسائل التي خالف فيها النبي - صلى الله عليه وسلم- أهل الجاهلية من العرب الأميين، ومن أهل الكتاب اليهود والنصارى، وذكر فيها 131 مسألة كلها تدور حول قضايا الإيمان، وقال: إن هذه لو عرفها الإنسان فإنه يعرف حقيقة الإسلام، وبضدها تتمايز الأشياء.
من مظاهر الجاهلية قتل الأولاد
ذكر الهيثم بن عدي المؤرخ أن قتل الأولاد كان منتشرا في قبائل العرب، وليس بالضرورة أن كل واحد يقتل ابنه، إنما من كل عشرة واحد يقتل ابنه أو ابنته، والسبب في ذلك كما يقولون أن أول من وأد البنات هو قيس بن عاصم التميمي، والسبب أن النعمان بن المنذر غزا قبيلته وسبى النساء والذرية، وقام بتخيير البنات والنساء، فمن اختارت أباها أو زوجها ذهبت معه، إلا زوجة قيس بن عاصم اختارت الذي أسرها، فأقسم قيس بن عاصم ألا يترك ابنة حية، فوأد ثماني بنات، ومنه انتشر في قبائل العرب.
يقول ابن عباس - رضي الله عنه - كما أخرجه البخاري قال: إذا أردت أن تعرف جهل العرب فاقرأ ما بعد المئة وثلاثين من سورة الأنعام في قوله -تعالى-: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ}، وقبل هذا قوله -تعالى-: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ}، يقول ابن كثير -نقلا عن مجاهد وغيره-: إنه كما زينت الشياطين للعرب {فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا} وكما قسّموا المخلوقات والأنعام بينهم وبين الله -عز وجل-، كذلك زينوا للعرب قتل الأولاد، فمنهم من كان يقتل خشية الفقر، ومنهم من كان ليس له حجة إلا خشية العار كما قال -عز وجل-: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالْأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ}.
وكان العرب إذا جاءته بنت يقول لامرأته: أنت عليّ كظهر أمي إن لم تئديها، فتحفر لها حفرة وتدفنها فيها. فأين الإنسانية فضلا عن العقل؟ وقال -عز وجل-: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ}. وقال -تعالى في سورة الإسراء-: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا}؛ ولهذا جاء في الصحيح سأل ابن مسعود النبي - صلى الله عليه وسلم- أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندًا وهو خلقك، إن ذلك لعظيم. قال: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك. فكان بعضهم يقتل ولده خشية الفقر. ومنهم من يقتل خشية أن تُسّود البنت وجهه في يوم من الأيام، أو أن يأخذها إنسان غير كفء؛ ولهذا يقدمون على قتل أولادهم سفها بغير علم.
منقول