ما الأدب؟


عمر السنوي الخالدي






إنَّ كلمةَ (الأدب) من المصطلحاتِ التي دار حولها الجدلُ، وتعدَّدت وتباينت فيها الأنظارُ، وتجاذبتها الأطرافُ، وما زالت موضع دراسة وبحث حتى يومنا هذا.

وقد تَتَبَّع بعضُهم الأحوال التاريخية لإطلاق هذه الكلمة، فوجدوها تمرُّ بالأطوار التالية[1]:
ففي الجاهليةِ وصدر الإسلام: كان أولُ استعمالٍ لها في كلامهم شعرًا ونثرًا بمعنى الدعوة إلى الطعام، فإنهم يقولون[2]: (أدبَ القومَ يأدبُهم أدبًا)، إذا دعاهُم إلى طعامٍ يَتَّخِذُه. كما اشتقُّوا كلمة (المأدبة) وهي الوليمة[3]. وقد تحوَّل هذا المعنى الحسِّيُّ إلى معنًى نفسيٍّ ينطوي فيه وزن الأخلاق وتقويم الطباع والمناسبة بين أجزاء النفس في استوائها على الجملة. ومن ذلك ما رُوِيَ في الحديث[4]: ((أَدَّبَنِي ربِّي فَأَحْسَنَ تَأْدِيبِي))[5].

وفي العصر الأُمويِّ ظلَّت لفظةُ الأدب بالمعنى الخلقي والتهذيبي، ولكنها تحمل معنًى آخَرَ وهو معنى تعليميٌّ، فقد ظهرت طائفة من المعلِّمين تسمى "المؤدِّبين" كانوا يعلِّمون أولاد الخلفاء فيلقنونهم الشعر والخطب وأخبار العرب وأنسابهم وأيامهم في الجاهلية والإسلام، وأتاح هذا الاستخدام لكلمة أدب أن تكون مقابلةً لكلمة العلم الذي يطلق حينئذ على الشريعة الإسلامية وما يتَّصل بها[6].

وفي العصر العباسيِّ استفاضَ استعمال كلمة أدب، وكانت مادة التعليم الأدبيِّ قائمة بالرِّواية من الخبر والنسب والشعر واللغة... ونحوها، فأُطلِقت على كل هذا، وأُنزلت منزلة الحقائق العرفية اصطلاحًا، وبهذا المعنى نقلَ ابن خلدون عن الأدباء في حدِّ الأدب أنَّه: "حِفظ أشعار العرب وأخبارها والأخذ من كل علمٍ بطرف"[7].

وقد صارت الآدابُ تُطلق على فنون المُنادمة وأصولها التي جاءتها عن طريق الغناء؛ إذ كانت تُطلق عليه في القرن الثالث الهجري؛ لأنه بلغ الغاية من إحكامه، وكانوا يعدُّون معرفة النغم وعلل الأغاني من أرقى فنون الآداب، وفيها وضع عبيدالله بن طاهر - من ندماء الخليفة المعتضد بالله - كتابَه "الآداب الرفيعة"[8].
ولم ينتصف القرن الرابع حتى كان لفظُ الأدباء قد زال عن العلماء جملةً وانفرد بمزيته الشعراء والكتَّاب في الشهرة المستفيضة؛ لاستقلال العلوم يومئذٍ وتخصص الطبقات بها[9].

أما الأدب بمعناه العامِّ:
فإنه يشمل كلَّ ما أنتجه عقل الإنسان، وكان له أثر من آثار تفكيره، وهو يرادف لفظ الثقافة، فالعلوم الفلسفية والرياضية والطبيعية والاجتماعية واللسانية، وكلُّ فن من الفنون الجميلة كالشعر والكتابة، وكلُّ ما يدعو إلى تثقيف العقل يدخل في باب الأدبِ بمعناه العامِّ، وقد استدلُّوا على المعنى العامِّ للأدب بتعريف الحسن بن سهل (ت 236هـ) إيَّاه بقوله: "الآداب عشَرة: فثلاثة شهرجانية، وثلاثة أنوشروانية، وثلاثة عربية، وواحدة أربَت عليهنَّ، فأما الشهرجانية، فضربُ العود ولعب الشطرنج ولعب الصوالج، وأما الأنوشروانية، فالطبُّ والهندسة والفروسية، وأما العربية، فالشعر والنسب وأيام العرب، وأما الواحدة التي أربت عليهن، فمقطَّعات الحديث والسمر وما يتلقّاه الناس بينهم في المجالس"، كما أُلِّفت كتبٌ كثيرة في الأدب بمعناه العامِّ منذ أواسط القرن الثالث حتى أواسط القرن الخامس الهجريِّ، ومنها الأدب الكبير والأدب الصغير لابن المقفع[10].

وأما الأدب بمعناه الخاصِّ:
فيمكن تلخيصه بتعريف جامع شامل يحاول التوفيق بين تعريفات المُحْدَثين[11]، فيكون: هو كل ما يؤثِّر في النفس من نثـرٍ رائع وشعرٍ جميلٍ، يُراد به التعبير عن مكنون العواطف والضمائر وسوانح الخواطر بأسلوب إنشائيٍّ أنيق، يُطلَق على الشعر والنثر الفنيِّ فحسْب.

وأما مفهوم الأدب حديثًا:
فما زالت كلمة (أدب) تثير الجدل والتساؤلات عند أصحاب "نظرية الأدب" في العصر الحديث، وهم غالبًا لا يراجعون المفاهيم التي طرحها النقاد القدامى ليبحثوا عن بديل آخر يشرح الكلمة أو يوضِّح معناها، لكنهم يكتفون بإثارة التساؤلات حول المفاهيم السابقة.

ومن هذه المفاهيم:
1 - تعريف الأدب بأنه "هو كلُّ شيء قيد الطبع".
2 - وهناك تعريف ثانٍ للأدب يقصره على الكتب العظيمة.

3 - وهناك من يقصر الأدب على فنِّ الأدب التخييلي الابتداعي. والكتابة التخييلية - بحسبهم - هي التي تصدر من الخيال فلا تطابق الواقع.
4 - وهناك من يعرِّف الأدب بأنه كل كتابة تستخدم اللغة استخدامًا خاصًّا تختلف عن استخدامها في الحياة اليومية والعلمية.

5 - وهناك من يعرِّف الأدب بأنواعِه التي يتضمنها، ووَفقًا لهذا التعريف يصبح الأدب هو كلَّ كتابة تنتمي إلى الشعر والرواية والخطبة والمسرحية والقصة القصيرة والتراجيديا والحكمة. أما الكتابات الأخرى كالتاريخ والفلسفة وغيرها من العلوم فهي خارج إطار الأدب[12].
وهكذا نرى أن مصطلح الأدب لم يتحدد، وليس له تعريف متفق عليه في الغرب ولا في الشرق.

مفهوم الأدب حديثًا عند العرب:
من أبرز من عرَّف الأدب من المحْدَثين العرب الذي عرَّفه بأنه "فن جميل يتوسل بلغة"[13]، وقد دارَ حولَ تعريفِه شيءٌ من الجدل، ولكن يظهر من نظرته أنها شبيهة بنظرة أرسطو للشِّعر حيث رأى أن الأدب فنٌّ من الفنون، وهي نظرة تُوَسِّع من دائرة فهم الأدب وتذوُّقه؛ لأنها تربطه بالفنون غير القولية التي يمكن الإفادة منها، فالفنون نوعان: فن يستعين بالكلمة، وفن لا يستعين بالكلمة وهو علم الجمال. ولهذا فإن طه حسين لا يقدم نظرة جديدة للأدب؛ لأن الفلاسفة القدامى كانوا يربطون بين الأدب والفنون الأخرى، فأرسطو قال: "إن الفنون كلَّها تخرُج من بذرة واحدة، وهي المحاكاة"[14].

والنظرة الجديدة قد حرَّرَت الأدب، فلمْ يعُد مقصورًا على الكلمة المكتوبة ولم يعُد مرتبطًا بأنماط السلوك، بل أصبح فنًّا جميلًا - مكتوبًا أو شفهيًّا - يتوسل باللغة؛ أي: إنه يشترك في جوهره مع سائر الفنون التشكيليَّة والغنائيَّة والتمثيليَّة[15].

وفي هذا الصدد يمكن تلخيص ماهية الأدب في تعريفٍ أدبيٍّ هادف:
إنّ مَعْنَى "الأدَب" فِي الأصْل اللُّغَويِّ مَأخُوذٌ مِن "مَأدُبَة" أيِ: الطَّعام الّذي يُدْعَى إلَيه الناسُ.. ولِذلكَ كانَ مَعْناهُ فِي الاصْطِلاح يشْمَل: التَثْقِيفَ والتَهْذيب فِي العَقْلِ والشُعُورِ، فَكَمَا أنَّ الطَّعَامَ يُغذِّي الأبْدانَ؛ فإنَّ الأدَبَ يُغذِّي الوِجْدانَ.

والإنسانُ مَهْمَا بَلَغَ في الِعلْمِ، إذَا لَمْ يَتعلّم الأدَب، فَلَسَوْفَ يَبقَى ناقِصًا!
والشافِعيُّ - وهوَ العالِمُ الأدِيبُ - كانَ يَقول: (مَن نظَرَ في العرَبيَّةِ وحَفِظَ الشِعْر؛ رَقَّ طَبْعُه)[16]، فهذهِ هيَ مادَّةُ الأدَبِ الَّتِي في دِراسَتِها تَتَفَتَّحُ آفاقُ التفْكِير.



[1] لخصتها وعرضتها عرضًا حسنًا الباحثةُ الدرعميةُ إيمان صِدِّيق، في بحثها الموسوم بـ: "مفهوم الأدب في النظرية الأدبية الحديثة"، نُشِر في مجلة أقلام الثقافية، الأحد 25 ديسمبر 2011م.

[2] يُراجَع - مثلًا - معجم الصحاح، مادة أدب.

[3] مصطفى صادق الرافعي: تاريخ آداب العرب. دار الكتاب العربي، لبنان، ط1، 2003، (ج1/ص21).

[4] قال ابن تيمية عن هذا الحديث: "المعنى صحيح، لكن لا يُعرف له إسناد ثابت"، مجموع الفتاوى، تحقيق: عبدالرحمن القاسم، السعودية، 1398هـ، (ج18/ص375).

[5] يُنظَر: شوقي ضيف: تاريخ الأدب العربي (العصر الجاهلي)، دار المعارف، ط1، (ص8).

[6] المرجع السابق.

[7] عبدالرحمن بن خلدون: مقدمة ابن خلدون. دار القلم، بيروت، ط4، 1981، (ص553).

[8] الرافعي: تاريخ آداب العرب. مرجع سابق، (ج1/ص24).

[9] المرجع السابق.

[10] يُنظَر: إيمان صدِّيق: مفهوم الأدب في النظرية الأدبية الحديثة. مرجع سابق.
و شوقي ضيف: تاريخ الأدب العربي. مرجع سابق.

[11] ينظر - مثلًا - في مقالة عبدالله السويكت، بعنوان: تطور مفهوم الأدب العربي، وهي منشورة في موقعه الشخصي التابع لموقع جامعة المجمعة.

[12] التعريفات المثبتة هنا نقلًا عن: إيمان صدِّيق: مرجع سابق.

[13] بحثتُ عن هذا التعريف - الذي شاع تداوله بين الكتَّاب -، فلم أظفر بنصِّه، ولكن وجدتُ ما يؤدي معناه في كتابه: حديث الأربعاء، مؤسسة هنداوي، القاهرة، 2014م، (ص148). وأيضًا ما يشير إلى ذلك في كتابه: في الشعر الجاهلي. مؤسسة هنداوي، القاهرة، 2014، (ص27).

[14] يُراجَع في ذلك كتاب أرسطو: فنُّ الشعر. وقد عُني بترجمته وتحقيقه وإعادة نشره غيرُ واحدٍ من النقاد المعاصرين.

[15] إيمان صدِّيق: مفهوم الأدب في النظرية الأدبية الحديثة. مرجع سابق.

[16] القاضي عياض: ترتيب المدارك وتقريب المسالك. مطبعة فضالة، المغرب، ط1، (ج3/ص191).