تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 3 من 3

الموضوع: علاقة الأدب بالدين والأخلاق

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    46,724

    افتراضي علاقة الأدب بالدين والأخلاق

    علاقة الأدب بالدين والأخلاق

    د. إبراهيم عوض







    لا يتعلق الذَّوق الأدبي إذًا بالشكل الفني فحسب، بل به وبالمضمون معًا؛ إذ هما مرتبطان، بل ملتحمان، بحيث لا يمكن الفصل بينهما، اللهم إلا على المستوى النظري فقط، أما في الواقع فالفصل غير ممكن، والذين يظنون أن التذوق الأدبي لا علاقة له إلا بالجانب الفني في القصيدة أو المقال أو المسرحية... هم ناسٌ يَهيمون في الفراغ أو يجْرُون وراء الأوهام؛ إذ أين يمكن أن نجد الشكل الفني منفصلًا عن مضمونه؟
    إننا لو عملنا على مسايرة هؤلاء النقاد وحاولنا التوصل إلى شكل قصيدة من القصائد، فأين يا ترى نجد الوزن دون الكلمات التي وُزنت عليه؟ وأين نجد البناء بعيدًا عما احتوته من أغراض أو أفكار أو أحداث أو مشاعر أو ما إلى ذلك؟ وأين نجد حرف السين مثلًا الذي يكثر في البيت الفلاني للإيحاء بجو الهمس والإسرار إلا إذا أوردنا الألفاظ التي يظهر فيها هذا الحرف؟ الواقع أن هناك من البشر مَن رُزقوا القدرة على الجدال في البدهيات وإثبات المستحيلات دون أن يطرف لهم جَفن!


    والعجيب أن أمثال هؤلاء النقاد كثيرًا ما تجرُّهم تحليلاتهم التي يحاولون أن يثبتوا بها دعاواهم إلى عتبات الحقيقة الساطعة سطوع الشمس في رائعة النهار، فيظن القارئ الطيب أنهم بسبيلهم إلى الإفاقة من غاشيتهم والتسليم بالحق الذي كانوا من قبل يكابرون فيه، لكنه لدهشته الشديدة يفاجأ بهم وقد استداروا على أعقابهم يَعْدُون بأقصى ما يستطيعون من قوة عائدين من حيث أتوا، أو يراهم وقد أغلقوا عيونهم كيلا يروا ما هو ماثل أمامهم، ثم زادوا فعصبوا تلك العيون بأغطية تحول تمامًا بينها وبين الشعور بأن هناك بالخارج ضوءًا!


    وللأسف فإن بين هؤلاء السابحين وراء الوهم في الفراغ كتَّابًا كِبارًا؛ كالدكتور زكي نجيب محمود، خذ مثلًا ما يقوله من أن "مادة الشعر الكلمات، والكلمات في نشأتها الأولى رموز تواضَع عليها أبناء الجماعة الواحدة لترمز إلى شيء سواها حتى ليستطيع المتكلم أن يُنِيب كلمة عن مسماها، فإذا أراد أن يحدِّث سامعه عن "شجرة" لم تكن به ضرورة أن يذهبا معاً إلى حيث يريان شجرة ماثلة أمام بصريهما، بل تكفيه الكلمة بديلًا عن مسماها... ومن ثَمَّ كانت اللغة في نشأتها الأولى أداة اجتماعية بالضرورة، فما خُلقت إلا لأن أكثر من شخص واحد قد اجتمعوا على أهداف مشتركة: فمنهم المتكلم، ومنهم السامع، ولو نشأ إنسان واحد بمفرده في جزيرة معزولة ما تكلمَ، لكن هذه الأداة اللغوية سرعان ما تحولت عن طبيعتها تلك الأولى إلى طبيعة ثانية، فأصبحت لها طبيعتان، ولمن يستخدمها من الناس حق اختيار إحدى الطبيعتين وَفْق الغاية التي يريد تحقيقها، فأما هذه الطبيعة الثانية فهي أن نقف عند حد الأداة اللغوية لا ننفُذ منها إلى شيء وراءها، فليست هي في هذه الحالة مستخدمة لتنوب عن أشياء أخرى، بل هي عندئذ تُطلب لذاتها، أرأيت طفلًا يهُم بفتح باب مغلق، فيدير مقبضه فتعجبه حركة المقبض في يده، فيتحول عن غايته الأولى إلى غاية ثانية لا يكون فيها المقبض وسيلة إلى ما عداه، بل يُطلب لذاته وللنشوة المتولدة عنه؟ فهكذا اللغة: فإما استخدمتها لما خُلقت له أول الأمر، وهو أن تشير إلى أشياء، وإما استخدمتها غايةً في حد ذاتها يمتعك سماعها بغض النظر عن دلالتها الخارجية، والشِّعر هو هذه الحالة الثانية، فلئن كانت مادة الشعر كلمات، إلا أنها كلمات نُسقت على نحو يُمتع السمع؛ لِما فيها من صفات ليس بينها صفة كونها مطابقة للأشياء والحوادث كما هي واقعة فعلًا في دنيانا التي نعيش فيها، فإذا كان بين الشِّعر من جهة وأشياء الواقع من جهة أخرى تطابق فهو تطابق غير مباشر، وليس هو كالتطابق الذي يكون بين اللغة والأشياء في أحاديث التفاهُم التي نألفها في حياتنا اليومية الجارية"[1].


    وهذا النص للأسف مملوء بالمغالطات: فهو يقول مثلًا: إن اللغة إنما خُلقت للتفاهم بين الناس بحيث لو نشأ إنسان بمفرده في جزيرة منعزلة ما تكلم، ثم يعود رغم ذلك فيؤكد أن الشعر، وإن كانت مادته اللغة والكلمات، لا يُقصد به توصيل شيء ما، بل مجرد التلذذ بالكلمات ذاتها، وهي الوظيفة التي تحوَّلت إليها اللغة فحادت بها عن مهمتها التي كانت لها في البداية، وكان ينبغي أن يبين لنا متى حدث هذا التحول، وكيف؛ كي يكون كلامه مقنعًا، لكنه لم يفعل، ولا أظنه هو أو غيره يستطيع شيئًا من هذا؛ إذ الكلام هنا عن ماضي البشرية السحيق الذي انطوى في غمار الزمن، وليس لعودته من سبيل، اللهم إلا إذا استطاع التقدمُ العلمي يومًا أن يستعيد لنا ما مضى في غياهب التاريخ، وإذًا فعلينا أن ننتظر، وإن كنت أخشى أن يطول الانتظار، وربما إلى الأبد! إن هذا الكلام لا معنى له إلا أن اللغة العادية التي ليست بشعر ولا أدب تخلو مما يمتع ويسر الأذن والعقل والخيال، فهل هذا صحيح؟ إن كثيرًا من كلامنا العادي مملوء بالصور الفنية والتنغيمات الموسيقية، حتى النساء في الأحياء الشعبية يستخدمن في مشاجراتهن عبارات ممتعة في تصويرها وتنغيمها وتركيبها ومفرداتها، وفي ذات الوقت تعبر عما تكنُّه الواحدة منهن لغريمتها من حقد أو احتقار أو ما تنوي أن تفعله بها من ضرب أو طرد أو جر إلى قسم الشرطة... إلخ، فكيف يقال: إن اللغة كانت لها في البداية وظيفة واحدة فقط، هي توصيل الأفكار والمشاعر وما إلى ذلك، ثم طرأت لها وظيفة أخرى لا تلتقي بالأولى ولا علاقة لها بها هي مجرد التلذذ بالكلمات والانتشاء بها؟


    إن هذه الوظيفة الثانية المدَّعاة لا يمكن أن تتحقق إلا إذا كان هِجِّيرَى الشاعر الانقطاع إلى الألفاظ والعكوف عليها يعبث بها كما يحلو لهواه دونما التفات إلى القواعد التي تحكم صياغتها في ذاتها وفي تركيبها بعضها مع بعض بغية الحصول على عبارات وصور، وكل ما سوف نحصل عليه في هذه الحالة هو مجردُ تتابع أصوات لا معنى لها، أصوات قد يكون فيها جرس موسيقا، لكنها لا تدل على شيء البتة، فهل هناك شاعر أو أديب يفعل هذا، اللهم إلا أن يكون ملتاثًا أو عابثًا أو مستهترًا؟ لكن أحدًا لا يأخذ العابث أو الملتاث على محمل الجِد، فضلًا عن أن يقول عنه: إنه شاعر أو أديب! ثم إذا كان الأمر كذلك فمعناه أن ما يقوله الأستاذ الدكتور من أن الإنسان إذا نشأ وحده في جزيرة منعزلة لم يُقدر له أن يتكلم هو قول باطل؛ إذ ما دامت اللغة تتحول إلى غاية في ذاتها يتلذذ الإنسان باللعب بها وبالنشوة المتولدة عن هذا اللعب، فليس شرطًا أن يكون هناك طرف آخر يسمع، بل يكفي وجود مستعمل اللغة فحسب، أرأيت أيها القارئ إلى هذا التناقض العاري؟!


    ولقد أغنانا د. زكي نجيب عن أن يتصدى لنا مَن يدَّعي أنه لم يقصد إلى هذا؛ إذ ضرب لنا هو نفسه مثال الصبي ومقبض الباب، فمن الواضح أن الصبي هنا يلعب ويعبث، ولا أحد يسميه "فنانًا" بأي معنى من معاني الفن، ولسوف يسارع أبوه أو أمه بنهيه عما يفعل وصرفه إلى شيء يفيده، أو على الأقل يجنبهما ما يُحدثه من ضجة، أو ما يمكن أن يؤدي إليه هذا العبث من تلف المقبض أو الباب! ومقطع الصواب في هذا، إذا أردنا أن نُبقي على المثال الذي ضربه الدكتور أو نبقى على الأقل قريبين منه، أن نقول: إن هناك طريقتين للاستئذان على من بداخل الغرفة: فإما أن ننقر الباب النقر الذي ينقره الناس عادة إلى أن نسمع الإذن لنا بالدخول فندخل، وإما أن ننقره نقرًا منغمًا فنؤدي بذلك وظيفتين: إمتاع مَن بالداخل، واستمتاعنا نحن الناقرين، وكذلك الأدب والشعر في واقع الأمر وحقيقته، إنه يهدف إلى توصيل شيء ما لقارئه أو مستمعه، لكن بطريقة فنية ممتعة، أما أن يقال: إنه بطبيعته لا يعني شيئًا، فذلك ضرب من السفسطة العجيبة!


    ولقد شعَر كاتبنا أن قدمه ستنزلق إلى الاعتراف بالواقع الذي يفقأ عين المكابرين، بل لقد أوشك أن يتراجع، بَيْدَ أنه، مثل أي معاند ينكر سطوع الشمس في ضحى الصيف، قد سارع فأغمض عينيه ووضع يديه عليهما ظنًّا منه أنه ما دام لا يرى في هذه الحالة ضوء الشمس فإنها لن تكون مِن ثَم مضيئة! لقد أنكر إنكارًا تامًّا في البداية وجود أية دلالة للكلمات في القصيدة على أي شيء وراءها، لكنه عندما كرر هذه الفكرة بعد قليل نافيًا وجود أي تطابق بين الكلمات وبين الأشياء والحوادث ضيَّق الكلام بعض التضييق قائلًا: إنها "كلمات نُسقت على نحو يمتع السمع؛ لما فيه من صفات ليس بينها صفة كونها مطابقة للأشياء والحوادث كما هي واقعة في دنيانا التي نعيش فيها"، بل إن رجله قد انجرت خطوة أخرى نحو الحق الذي يأبى الاعتراف به؛ إذ أضاف عقيب هذا أنه "إذا كان بين الشعر من جهة وأشياء الواقع من جهة أخرى تطابق، فهو تطابق غير مباشر، وليس هو كالتطابق الذي يكون بين اللغة والأشياء في أحاديث التفاهم التي نألفها في حياتنا اليومية"[2]، وأحسب أن التراجع في كلامه واضح غاية الوضوح، ومع ذلك فهو يصر على أن الشعر لا يُقصد به توصيل أي شيء إلى السامع أو القارئ، وبالمناسبة فهناك خطأ آخر كبير وقع فيه ناقدنا، ألا وهو قصره متعة الشعر على الأذن والسمع، كما هو واضح من السطور الماضية، مع أن الشعر ليس أنغامًا فقط، بل هو أنغام وصور وتعبيرات وأفكار ومشاعر وبناء فني، وفي كل شيء من هذا مِن المتعة ما فيه.


    إلا أن تراجع الأستاذ الدكتور لم يقف عند هذا الحد؛ إذ ذكر بصريح العبارة أنه ليست هناك أية مشاحة في أن الشعر المسرحي، وكذلك شعر المديح والهجاء والاستنهاض، إنما قيل لتوصيل معنى إلى جمهور المشاهدين والمستمعين، لكنه، رغم ذلك، يأبى إلا الاستمرار على مكابرته قائلًا: إن هناك لونًا آخر من الشعر يناجي فيه الشاعرُ نفسه، وإن هذا هو الشعر الذي يقصده، رغم اعترافه أن معظم شعرنا العربي قديمه وحديثه قد قيل في المدح والهجاء والاستنهاض وما إلى ذلك، بل إنه ليُخرج من الشعر الذي يعنيه شعر الغزل بشبهة أن الشاعر لا يناجي فيه نفسه بل حبيبته، فهو يتجه بالخطاب إليها ولو نظريًّا على الأقل، ولا يُعقل أنه يخاطب فيه الهواء[3]، وبالمثل نقول نحن: وحتى عندما ينظم الشاعر قصيدة يناجي فيها ذاته فإنه إنما يخاطب الآخرين عارضًا عليهم أفراح نفسه وأشجانها، وآمالها وآلامها، وطماحها ويأسها... إلخ، خضوعًا منه لطبيعته البشرية التي لا يستطيع التنكر لها في هُفُوِّها للتواصل مع الآخرين بحثًا عن التعاطف والسلوى من جهة، وتطلعًا إلى تقديرهم لإنجازه الأدبي من جهة أخرى، وإلا فلماذا تحفى أقدام الأدباء والشعراء لينشروا ما يكتبون ولا يكتفون بالإبداع في ذاته فيحبسوه في الأدراج ويريحوا أنفسهم من تعب النشر وما يُنفق فيه من مال، وما قد يُبتذل أيضًا من كرامة؟ وعلى أية حال فإن الشعر، حتى في هذه الحالة، يعني بكل يقين شيئًا، بل أشياء، وليس مجرد أصوات تلَذُّها الأذن كما يزعم الأستاذ الدكتور!


    ويستمر انزلاق قدم كاتبنا فيعترف أن الشاعر الذي ينظم شعر المناجاة الذاتية هو أيضًا يفكر في الآخرين وفي توصيل شعره إليهم، لكنه يظل على مكابرته قائلًا: إن هذا إنما يتم فيما بعد؛ إذ هو لا يفكر في شيء من هذا أثناء النظم، أما بعد الفراغ من القصيدة فالأمر يختلف؛ إذ "يرد الناس الآخرون إلى خاطره فينشر فيهم قصيدته ليقرأها من هو في مثل حالته فينفس بها عن كربه، ولينقدها ناقد فيعلم الشاعر من خلال نقده كيف جاءت نفثته"[4]، إذًا فالشاعر حين ينظم شعره، ومثله الأديب عمومًا في سائر إبداعات الأدب، إنما يريد توصيل شيء للآخرين، وليس يهمنا أهو يعي ذلك منذ بداية إقباله على إبداع القصيدة أم يطرأ له هذا فيما بعد، فهذه مسألة ثانوية لا تقدم ولا تؤخر، ولقد كررها كاتبنا بمنتهى الوضوح في قوله: إن "الشعر، كائنة ما كانت صورته، يجاوز حدود الشاعر إلى سواه"، الله أكبر! ففيم إذًا كل هذا الجدال والعناد ومحاولة إنكار البدهيات؟ لكن صبرًا أيها القارئ؛ فالدكتور لا يزال قادرًا بل مصرًّا على الجدال والعناد إلى آخر لحظة؛ فـ: "الشعر إذ ينقل شيئًا من قارئه إلى سامعه، فهو لا ينقل خبرًا معينًا عن شيء أو عن فرد معين، بل ينقل حالة من الحالات الخالدة التي ما تنفك تتكرر كأنها قانون سرمدي في الكون وفي الناس من الأزل إلى الأبد"[5]، يقصد أن الشاعر إذا تحدث مثلًا عما يحس به من سأم فهو لا يتحدث حينئذ عن سأمه هو فلان الفلاني، بل عن السأم البشري الذي يحسه الناس جميعًا، وسيظلون يحسونه إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها، ثم يعقِّب قائلًا: إنها "حقيقة خالدة ندركها عن طريق موقف جزئي"، ليختم حديثه بقوله: "فليتغنَّ الشاعر لنفسه أو لغيره"، فهو في كلتا الحالتين يُنشد للناس أناشيد الحقائق الخالدة؟[6].


    هكذا ينقُضُ الكاتب كل ما قال، لكن دون أن يقر بأنه قد تراجع عن رأيه، فهو حتى آخر لحظة لا يكف عن افتعال الاستدراكات والاشتراطات واختراع القيود والحدود التي لا وجود لها إلا على لسانه فقط؛ إذ من الواضح أنه غير مقتنع بما يقول، أو إذا أحسَنَّا به الظن قد بدأ مقاله بفكرة حسبها صحيحة، لكنه كلما مضى معها خطوة بدا له شيء من عوارها حتى تبخرت تمامًا في النهاية، إلا أنه عز عليه أن يعترف بأنها فكرة متهافتة، بل ظل يدافع عنها في سفسطة عجيبة أستغرب أن يكون صاحبها هو الدكتور زكي نجيب نفسه! ومِن الطريف أن ينكر مع ذلك أن الشاعر، حين يتحدث في شعره عن سأَمِه أو حيرته أو قلقه مثلًا، إنما يخبرنا عن شيء، بل ينقل لنا حالة من الحالات النفسية... إلى آخر ما قال، لكن ماذا بالله نسمي صنيع الشاعر هذا؟ إنه، والله العظيم ثلاثًا، إخبار لنا عن هذه الحالة، سواء قلنا: إنها حالته هو الخاصة، أو قلنا: إنها حالة البشر بوجه عام، إن الشاعر هنا إنما يريد أن يوصل لنا ما يقوله، وليست اللغة في يديه مجرد كلمات لا يشير بها إلى شيء ولا يبغي من ورائها سوى إمتاع أذنه بجرسها الموسيقي كما يدعي كاتبنا.


    ليس هذا فحسب؛ فالدكتور زكي في كل نقده التطبيقي ينسى ما قاله من أن اللغة في يد الشعراء تكف عن أن تكون أداة تهبهم النشوة من خلال ما تُحدثه من جرس موسيقي تلَذُّه آذانهم، ينسى هذا كله ويُقبل على القصيدة التي ينقدها إقبال من يؤمن أنها إنما نظمت لتوصل لنا شيئًا، بل هو يقول ذلك بنفسه ولا يتركه لنا نستشفه استشفافًا، إن له مثلًا مقالًا عنوانه "فلسفة العقاد من شعره"[7]، ولا أظن إلا أن العنوان واضح تمام الوضوح في أن العقاد قد نظم شعره ليوصل إلينا آراءه ومواقفه من الكون والحياة والناس، فهو إذًا يقول شيئًا، وليس الأمر مجرد كلمات يقوم بتقليبها وتركيبها على نحو تلَذُّه أذناه، كما أن لكاتبنا مقالًا آخر عن "شكسبير في عصره وفي كل عصر"، يؤكد فيه أن رسالة ذلك الشاعر "هي تحليل هذا التعارض العجيب الذي كأنه لازمة من لوازم النفس البشرية بين دواعي النجاح العملي من جهة ومقتضيات الأخلاق من جهة أخرى"[8]، وكذلك له مقال ثالث عن شعر صلاح عبدالصبور في ديوانه "الناس في بلادي" عنوانه "ما هكذا الناس في بلادي"[9] يؤكد فيه أن ما يقوله الشاعر في ذلك الديوان عن مواطنيه غير صحيح، وأن الصورة التي رسمها لهم هي صورة زائفة، فما معنى هذا يا تُرى؟ معناه، بالخط العريض، أن الشاعر إنما ينظم شعره ليقول لنا شيئًا ويوصل إلينا معنى وشعورًا وموقفًا وصورة لشيء وراءه، وليس مجرد كلمات يعكف عليها لا يبغي من ورائها سوى التلذذ بما تُحدثه في أذنه من رنين، وفي مقال رابع عن ديوان لأحمد عبدالمعطي حجازي يكتب ناقدنا عن القصيدة التي عنون بها الديوان قائلًا: "في القصيدة صوت واحد مسموع هو صوت الشاعر نفسه، يصف ويروي ويوجه الخطاب إلى غائبة لا تجيب"[10]، وفي مقال خامس نراه يشكك في أن يبقى لشعر أدونيس قوته وتأثيره بعد أن تمر عليه القرون ولا يجد الناس حولهم ما يضيء لهم ظلمات غموضه وإلغازه[11]، ومعنى هذا إقراره ضمنيًّا بأن وظيفة الشعر، أو من وظيفته على الأقل، توصيل شيء من الشاعر للناس، وإلا فما الذي يضير في ألا يبقى لقصائد أدونيس أثرها وقوتها بعد قرون أو عقود ما دام الشعر عنده لا يخرج عن كونه كلمات لا تشير إلى شيء وراءها، وليس لها من فائدة سوى أن يعكف الشاعر على تشكيلها بما يمتع أذنه؟
    يتبع
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    46,724

    افتراضي رد: علاقة الأدب بالدين والأخلاق

    علاقة الأدب بالدين والأخلاق



    د. إبراهيم عوض



    وقد شرح الأستاذ الدكتور في مقال له عنوانه "تحليل الذَّوق الفني" المذهب الذي يجري عليه في نقد الأدب، وهو مذهب "مؤدَّاه أن ينصبَّ تحليل الناقد الأدبي على العمل الفني نفسه لا لننفُذَ خلاله إلى نفس الفنان ولا إلى العالم الخارجي بماضيه وحاضره، بل لنقف عنده هو ذاته فنرى كيف تأتلف عناصره مما قد أدَّى إلى حسن وقعه على ذوق المتذوق، نعم نحصر أنفسنا في العمل الفني نفسه فلا نسمح لأي عامل خارجي أن يتدخل في حكمنا كنفس الفنان ومشاعره أو حوادث التاريخ أو الأساطير الدينية[12] وغير الدينية أو المبادئ الخلقية أو الأفكار الفلسفية أو المذاهب السياسية، فلا يجوز للناقد... أن يسأل عن لوحة مثلًا قائلًا: ما مغزاها؟ أو ما معناها؟ لأنه لا مغزى ولا معنى في الفنون؛ إذ الفن "خلق" لكائن جديد، هل نسأل عن جبل أو عن نهر أو عن شرق أو غرب قائلين: ما مغزى؟ وما معنى؟ أو هل ترانا ننظر إلى التكوين وحده معجبين أو نافرين؟... وهكذا ينبغي أن يكون موقفنا إزاء العمل الفني؛ لأنه خَلْق وإنشاء، وليس كشفًا عن أي شيء كان موجودًا بالفعل ثم جاء الفن ليصوره، العمل الفني... معياره هو الفن نفسه: فمعيار الشعر هو الشعر، ومعيار الموسيقا هو الموسيقا، ومعيار التصوير هو التصوير... وهكذا، أعني أن تقاليد كل نوع من أنواع الفنون وقواعده الخاصة به هي السَّند في أحكامنا النقدية، ولا يجوز لناقد اللوحة التصويرية مثلًا أن يقومها على أساس من موقعة حربية أو من أسطورة أو من كلمة فلسفية أو من مبدأ خلقي، كل هذه أشياء لها قيمتها في مضمارها، لكنها ليست من فن التصوير ذاته، فمادة التصوير لون، أعني أن مادته هي الضوء، كما أن مادة الموسيقا هي الصوت، ولا بد أن نحاسب الفنان على الطريقة التي وزع بها هذا اللون أو هذا الضوء على لوحته بغض النظر عن الشيء المرسوم؛ لأن هذا الشيء لا يزيد عن كونه تكأة اتخذها الفنان اتفاقًا ليرتكز عليها في تكوين الكُتَل الضوئية على اللوحة"[13].


    هذا هو مذهب الأستاذ الدكتور في النقد عرضناه من خلال ما كتبه هو نفسه بقلمه وبيَّنا ما فيه من مغالطات وتناقضات وأخطاء، وأرَيْنا القارئ فوق هذا كيف أنه، في نقده التطبيقي، لم يجرِ البتة على ما دعا إليه، بل كان يردد ما نقوله ونرى أنه الحق الذي لا مرية فيه، ألا وهو أن الشاعر، بل الأديب بوجه عام، حينما ينظم قصيدة أو يؤلف رواية مثلًا إنما يريد أن يعبر عن شيء ما وأن يوصله إلينا، وهذا الشيء قد يكون فكرة أو شعورًا أو صورة لشيء في الطبيعة من حوله أو في داخل نفسه أو خيالًا تخيله... إلى آخر ما يمكن أن تقوله لنا القصيدة أو الرواية أو المقال أو الخطبة، أما الزعم بأن الشاعر مثلًا إنما يقف عند الكلمات لا يعدوها إلى شيء وراءها؛ إذ كل غايته من شعره العكوف على الكلمات وما يمكن أن تنطوي عليه من أنغام موسيقية تلَذُّها الأذن، فقد بان لنا خطؤه وخَطَلُه، وظهَر مملوءًا بالثقوب الفاغرة، بل لقد رأينا الأستاذ الناقد نفسه وهو يحاول سدَّ هذه الثغرات دون جدوى، ولست أدري في الواقع ما الذي يحدو بكاتب كبير، كالدكتور زكي نجيب، إلى هذه المكابرة وتلك السفسطة في الدفاع عن مذهب في النقد متهافت كالمذهب الذي يدعو إليه ويُعلي من شأنه ويزعم أنه هو وحده المذهب الصحيح!


    والآن، وبعد أن فرغنا من مناقشة الأستاذ الدكتور وأظهرنا ما في رأيه من ثغرات واسعة لا يمكن رتقها، لا نجد لزامًا أن نقف بهذا التريث إزاء ما يقوله د. عبدالمنعم تليمة، وبخاصة أنه لا يقول جديدًا، بل يردد ما سمعناه لدى د. زكي نجيب محمود من أن مهمة الشاعر إنما هي مهمة "تشكيل" لا "توصيل"، فهو "لا يتوجه بمعنى مسبق يسعى إلى توصيله، كما أنه لا يتوجه إلى غرض يسعى إلى التعبير عنه، ولكن توجهه إنما إلى أن يثير اللغة نشاطها الخالق حتى يكتمل له التشكيل الجمالي الذي يوازي به رمزيًّا واقعه النفسي والفكري والروحي والاجتماعي"[14]، وأرجو من القارئ أن يلاحظ هذه الموازاة التي يشير إليها الكاتب؛ فهي تومئ إلى ما لا يريد أن يُقر به صراحة أولئك الذين يزعمون أن الشاعر ليس عنده شيء يريد توصيله للآخرين، إنهم يدورون ويلفون حول أنفسهم محاولين شغل القارئ بهذه الحركة الدائرية عن تهافت موقفهم وفهاهة فكرتهم، ولو أنصَفوا لأراحونا واستراحوا معنا وأقروا بالحق الذي يعلو ولا يُعلى عليه، لكنه العناد والمكابرة!


    وسوف يقول الباحث بعد ذلك: إن التشكيل اللغوي في الشعر يرتبط بأدوار دلالية، وهذه الأدوار الدلالية تمثل الجانب الثاني في السياق الشعري، وكذلك سوف يتكلم عن معنى القصيدة وبنائها الفكري[15]، ولهذا وذاك دلالته التي لا تخفى، وفي موضع آخر نراه يقول: إن الشاعر إنما "ينتج ... شكلًا معرفيًّا خاصًّا، هذا الشكل المعرفي هو نفسه ثمرة لتعرُّف خاص على الواقع؛ أي: إن الشاعر يتعرف على واقعه تعرُّفًا خاصًّا وينتج ضربًا من المعرفة بهذا الواقع... إن ماهية هذا الضرب الخاص من المعرفة ماهيةٌ جماليةٌ، ومادته الطبيعة والمجتمع بمظاهرهما وظواهرهما، ومجاله الحياة النفسية العاطفية الروحية، وأداته القوة المدركة والطاقات الذائقة"[16]، ويلاحظ القارئ هنا أيضًا نفس الحيرة والتخبط اللذين شاهدناهما لدى د. زكي نجيب محمود، ونفس المحاولة الفاشلة لإقناع القارئ بما ليس فيه مقنع، لكن دون أن يكون هناك الأسلوب المحكَم الأنيق أو الشرح الواضح والأمثلة المضيئة التي تتميز بها كتابات الأستاذ الدكتور!


    العمل الأدبي إذًا، شعرًا كان أو نثرًا، هو شكل ومضمون، والتذوق إنما ينصبُّ عليهما جميعًا، وهذا أشبه بطبق من الطعام وُضِع أمامي لأتذوقه وأقول رأيي فيه، فلا أظن أن هناك من يمكن أن يجادل في أن عملية التذوق لا تقتصر على إلمامي بالطريقة التي أُعد بها، بل لا بد أن أمد يدي للطبق وأذكر اسم الله عليه وأغمس اللقمة وآكل، وعندئذ (وعندئذ فقط) أستطيع أن أقول: إنني قد تذوقته، وأن أصدر حكمي عليه داعيًا لمن طبخته أن يسلِّم الله يدها، أو مقطبًا جبيني ومشيحًا بوجهي عنه وعمَّن أعدَّتْه، ونفس الشيء يصدُقُ على العمل الأدبي؛ إذ لا يمكن اقتصار التذوق فيه على الشكل الفني، وإلا فالسؤال هو: أين ذلك الشكل الفني منفصلًا عن الموضوع؟ وسرعان ما يأتي الجواب باترًا كالسيف: أن الشكل الفني بهذا الوضع لا وجود له، إنه رابع المستحيلات، بل هو في الحقيقة أولها، كما أن موضوع العمل الأدبي ليس مجرد مادة تاحت للأديب فأظهر من خلالها الشكل الفني الذي كان في ذهنه طبقًا لما يريد منا د. زكي نجيب أن نسلم به، إن ثمة تلاحمًا بين الشكل والمضمون لا يمكن انفصامه، وهذا التلاحم قد أرَّق الأديب وعذَّبه زمنًا إلى أن خرج إلى نور الوجود فأحس عندئذ براحة الخلاص من هذا العناء الثقيل المبرِّح، فكيف تسوِّل لكاتبنا نفسه أن يتجاهل ذلك كله ويزعم أن الأمر برُمته في التذوق الأدبي إنما مردُّه إلى الشكل الفني ليس غير؟


    ولقد يسأل سائل: ولماذا هذا الخلاف كله؟ وما الذي سيترتب على أخذنا بهذا الرأي أو ذاك؟ الواقع أن لكل من الرأيين نتائجه التي لا تخطر على بال المتعجلين؛ ذلك أننا إذا قلنا: إن العمل الأدبي ليس إلا مجرد شكل فني، وإن التذوق من ثم لا يتعلق إلا بهذا الشكل الفني، ولا علاقة له بمضمون العمل، فإننا نحصر أنفسنا في مسألة الشكل، الذي قلنا: إنه لا وجود له مستقل عن ذلك المضمون، ولا نبالي حينئذ بأي شيء يتضمنه العمل الأدبي أيًّا كانت مصادمته للعقيدة التي نعتقدها، أو للأخلاق التي نتمسك بها ونرى أنها هي السبيل لسعادتنا وسعادة الأمة التي ننتمي إليها، وأيًّا كانت إساءته للتاريخ الذي نتشرف بالاعتزاء إليه، أو للرموز الدينية والوطنية والإنسانية التي نضعها دائمًا نُصْب أعيننا، ونتخذ منها مثلنا العليا... إلخ.


    تُرى كيف يمكن مثلًا أن يسكت مسلم على الصورة التي رسمها جرجي زيدان لمحمد بن أبي بكر الصديق المشهور بالزهد والورع في روايته "عذراء قريش"، وهي صورة العاشق الذي يتدلَّه في هوى فتاة تدلُّهًا يدفعه إلى الثورة على عثمان، ويدخل من ثَمَّ في منافسة مع الحسين بن علي على حبها وتقع بينهما الغيرة العنيفة بسببها، مع أن ذلك كله لا حقيقة له باعتراف المؤلف نفسه الذي قال: إنه قد أدخل في كل رواية من رواياته الإسلامية حكاية غرامية كي يغريَ القراء بمطالعتها؟ أم ترى كيف يقبَل المسلم النهاية الغريبة التي يزعم زيدان في روايته "شارل وعبدالرحمن" أن قائد الفرسان المسلمين في معركة بواتييه جنوب فرنسا قد وضعها لحياته؛ إذ قام بإغراق نفسه في النهر يأسًا بعد هزيمة المسلمين أمام شارل مارتل؟[17]، إن ذلك لهو المستحيل بعينه؛ لأنه بكل بساطة لم يقع! ومثل هذه الحادثة ليست من التفاهة وهوان الشأن بحيث يمكن للضمير المسلم أن يمر عليها مر الكرام فلا ينبس ببنت شَفَة!


    لقد هاج صنيعُ زيدان في رواياته عن تاريخ الإسلام الغيارى على هذا التاريخ، فانتقدوه وأظهروا أخطاءه، بل خطاياه، وعبثًا يحاول كاتب مادة "زيدان" في "The Encyclopaedia" أن يعزو هذا النقد إلى تعصب المسلمين المحافظين الذين ضايقهم، كما يقول، تناول أحد المؤلفين النصارى لموضوعات إسلامية[18]، وهو رد متهافت؛ فإن أولئك النقاد قد ساقوا الأسباب التي حَدَتْ بهم إلى انتقاد زيدان، وهي أسبابٌ جدُّ مقنعة على ما فصلت في الفصل الرابع من كتابي "نقد القصة في مصر: 1888 - 1980م"[19]، ثم إنهم لم ينهَوه عن الكتابة في تاريخ الإسلام، بل كل ما طالبوه به هو ألا يفتئت على الحقيقة التاريخية، أو يفتري عليها بالأحرى، أما حكاية "المحافظين" و"الثوريين" فهي لعبة مكشوفة لا تجوز عندنا، فنحن نعرف أن المستشرقين والمبشرين ومَن يلوذ بهم من الذيول في بلادنا من كل من تورَّم قلبه بغضًا لدين محمد يتهمون كل مَن يغار على دينه منا بأنه "محافظ"؛ أي: رجعي متخلف، أما من يشايعهم على كراهية الإسلام وتاريخه ورجاله فإنه من العباقرة المتنورين.


    وفصل القول في هذه القضية أن الإنسان لا يمكن أن ينقسم على نفسه فيمدح عملًا أدبيًّا يسيء إلى ما يؤمن به من دين أو يستمسك به من خُلُق، وإن لم يعنِ هذا بالضرورة أن عليه مدح أي عمل يعلي من شأن هذا أو ذاك حتى لو كان مستواه رديئًا، ليس من المعقول أن أومن بالإسلام وأن محمدًا رسول من رب العالمين وأنه كان على خُلق عظيم ثم أتلقى بعصَبٍ باردٍ الهجومَ عليه أو على دينه بحجة أني أطالع عملًا أدبيًّا، وأن كل ما يهم في العمل الأدبي هو جانبه الفني ليس إلا، كذلك ليس من المعقول أن ينفر المسلم بطبيعة دينه من الزنا وشرب الخمر ثم لا يبالي بمسرحية تدعو إلى حرية الفاحشة أو تزين أم الخبائث، إن من يفعل ذلك إما أن يكون مصابًا بانفصام في شخصيته، أو ضعيف الوازع الديني لا يجد حرجًا في مقارفة المعصية وتزيينها، أو منافقًا يُظهِر الإسلام ويُبْطن خلافه.


    ومن المناسب أن أذكر في سياقنا هذا ما قاله د. محمد حسين هيكل في كتابه "ولدي" عن مسلم ومسلمة كانا يشاهدان في الكوميدي فرانسيز في عشرينيات القرن الماضي مسرحية تاريخية تدور حول الحروب بين مسلمي الأندلس ونصارى أوربا، ويقوم بدور شارلمان فيها ممثل فرنسي يسبُّ المسلمين ودينهم واصفًا إياهم بالكفار وداعيًا إلى قتالهم، فبلغ من إعجابهما بالممثل وأدائه أن أخذا يصفقان رغم كل الإهانات والشتائم الموجهة لدينهما، وكان تعليق الدكتور هيكل على ذلك أن "سمو فن الكاتب وعظمة الممثل وبراعته قد أنسَتِ السامعين كل ما سوى الفن والإعجاب به؛ ذلك بأنه أخذ بالمشاعر جميعًا فأنساها الحياة الوضيعة، وسما بها إلى حيث لا يقدِّر شيئًا غيره كائنة ما كانت المعاني التي يعبر عنها والصور التي يجلوها والعواطف التي يُجيشها"[20].


    هذا تعليق كاتبنا على سلوك هذا المسلم وتلك المسلمة اللذين أرجو من الله سبحانه ألا يكونا هما هيكل وزوجته، التي كانت ترافقه في هذه الرحلة، أما تعليقي أنا فهو (بالفم الملآن) أن هذا كلام فارغ؛ إذ لا يمكن أن يطغى الشعور الفني لدى المسلم الحق على شعوره الديني أبدًا، إن مثل هذين الشخصين لا يمكن أن يكونا مسلمين صادقين، وعجيب أن يفسر هيكل سلوكهما ذاك بأنه سموٌّ عن الحياة الوضيعة! أية حياة وضيعة تلك التي يشير إليها، وإنما هو الدين والغَيرة عليه عند كل مسلم ينبض قلبه بحرارة الإيمان؟ أهذه هي الحياة الوضيعة في نظره؟ حَرِيٌّ بالذكر أن هيكل في ذلك الوقت كان بعيدًا عن الإسلام، يدعو بدعوة الفرعونية قبل أن تعود جذوات الإيمان التي كانت مطمورة تحت الرماد في أعماق قلبه إلى الاشتعال من جديد بعد أعوام قلائل، فينتضي قلمه ويشرع في الكتابة مدافعًا عن الإسلام ونبيِّه، مسفِّهًا ما يزعمه بشأنه المستشرقون والمبشرون[21].


    وعلى ضوء ما قلناه الآن نستطيع أن نفهم موقف أولئك المنتسبين إلى الإسلام، الذين وقفوا إلى جانب سلمان رشدي في روايته "الآيات الشيطانية"، وحيدر حيدر في روايته "وليمة لأعشاب البحر" بشبهة الانتصار لحرية الإبداع الأدبي رغم أن الروايتينِ مفعمتانِ بالإساءات البذيئة المتجاوزة لكل الحدود إلى ربنا ورسولنا والقرآن الذي أُنزل عليه والدِّين الذي جاء به والقيم الخُلقية التي نغار عليها ونؤمن أنْ لا نجاة لنا في الدنيا والآخرة إلا بالتزامها، إنهم يزعمون أن دفاعهم عن هذين العملين إنما هو دفاع عن حرية التعبير، وأن العبرة بالجانب الفني في المسألة، وهذا كذب وتدجيل، والحقيقة أنهم يبتهجون بكل ما يسيء إلى الإسلام ويرحبون بكل من يتطاول عليه، هذه هي القضية في وضعها الحقيقي، ولو كانت الرواية تهاجم شيئًا مما يؤمنون به لانهالوا عليهما وعلى صاحبيهما تمزيقًا، ولقد غَبَرَ على كثير منهم زمن كانوا يلحون على الأدباء والشعراء أن يهاجموا الإقطاعيين والرأسماليين وعلماء الدين المسلمين، أما من يشتمُّون في كتاباته رائحة الخروج على اتجاهاتهم التخريبية فكانوا يسلقونه سلقًا! أما في مواجهة الإسلام فيرفعون لافتة "الحرية الإبداعية"، مع أن الأمر لا يخرج عن كونه اختلافًا بين ما نؤمن به نحن أو نعتنقه من قِيَم وما يؤمنون به هم أو يعتنقونه من قِيَم، إن كان لأمثالهم قِيَم! هذه هي خلاصة الموضوع برُمته دون لف أو دوران مفضوح!


    وتحضرني هنا رواية "حين تركنا الجسر" لعبدالرحمن المنيف وما فيها من تطاولات على الذات الإلهية من صياد ينفق وقته سعيًا وراء إسقاط طائر من طيور الليل، وهي تطاولات لا مسوغ لها؛ إذ ليس الصيد بالميدان المناسب لمثل هذا التجديف الوقح، كما أن حياة الصياد تخلو تمامًا مما يمكن أن يدفعه إلى تلك السفاهة، فضلًا عن أنه لم يحدث على مدى الرواية ما نستطيع أن نقول: إن الصياد قد فقد بسببه عقله وحياءه على هذا النحو[22]، ومعروف أن أبطال الرواية شيء، ومعتقدات كاتبها شيء مختلف، والخلط بين الأمرين هو علامة على الركاكة الفنية قبل أن يكون علامة على أي شيء آخر!


    ولقد سبق أن درستُ هذه القضية بشيء غير قليل من التفصيل في كتابي "وليمة لأعشاب البحر بين قيم الإسلام وحرية الإبداع - قراءة نقدية"، ويستطيع القارئ الرجوع إلى ما كتبته هناك، ولكني أود أن أضيف هنا ملخصًا سريعًا للفصل الذي كتبه جيروم ستولنتز في كتابه "النقد الفني - دراسة جمالية وفلسفية" بعنوان "النقد والأخلاق"، رغبة مني في إلقاء مزيد من الضوء على هذه القضية مستعينًا بناقد أمريكي معاصر؛ كيلا يظن من ليسوا ملمين بالموضوع أن ما قلناه في الصفحات الماضية إنما يعكس كلام المتحمسين للإسلام لا غير، وهذا الفصل يستغرق زهاء خمسين صفحة من القطع الكبير، يستعرض فيها الكاتب هذه المسألة النقدية منذ أيام أفلاطون حتى عصرنا، مع التوقف بوجه خاص أمام ثلاثة من أعلام الفلسفة والنقد الذين يغلِّبون الأخلاق على اعتبارات الجمال الفني، وهم أفلاطون الفيلسوف الإغريقي، وليو تولستوي الروائي الروسي، ورالف بارتون الكاتب الأمريكي، عارضًا أفكارهم ومناقشًا وجهة نظرهم في أناة، ونستطيع نحن بدورنا أن نضم ستولنتز إلى القائمة التي ترى أنه لا بد من وضع الاعتبارات الأخلاقية في الحسبان، وإن لم يتشدد تشدُّد أفلاطون وتولستوي مثلًا[23]، وهو يصور القضية على أنها صراع بين الذين يُعلون من شأن القيم الأخلاقية ويخشون من تأثير الأعمال الفنية التي لا تبالي بتلك القيم، وبين أولئك الذين لا يهتمون إلا بأن يعيشوا حياتهم بتلذُّذ وامتلاء غير ملقين بالًا إلى ما يسمَّى: "الأخلاق"، ولا إلى ما يمكن أن يؤدي إليه ذلك من مشاكل فردية واجتماعية[24]، وفي رأيه أنه لا بد، في أمور الفن والأدب، من مراعاة الجانب الجمالي والجانب الخُلقي معًا، على ألا يكون هناك تشدد من قِبَل الأخلاقيين أكثر مما ينبغي، ورغم هذا فهو يرد على دعاة الحرية المطلقة في الفن بأنه ليس من حق الفن المطالبة بوضع متميز، بل تنبغي معاملته كأي نشاط بشري آخر، ومن ثَمَّ فلا بد من خضوعه للرقابة إذا جر وراءه ضررًا، لكنه يشترط في الرقيب مع ذلك أن يجمع بين احترام الحرية والحساسية المرهفة لقيم الجمال الفني وبين التقدير الواعي لمصلحة المجتمع[25].


    ومن قبلُ كتبتُ في هذا الموضوع أن "بعض الناس ينادون بالحرية المطلقة للإبداع والمبدعين، لكن ليس هناك في الحقيقة حرية مطلقة في أي ميدان من ميادين الحياة؛ إذ ما من إنسان إلا وتحيط بمعصمه القيود من كل لون، مع قدر لا بأس به من الحرية، والعاقل هو الذي لا يتجاهل هذا أو ذاك، والذين ينادون بحرية الإبداع المطلقة إما يقصدون أنهم لا ينبغي أن يطالبوا بالخضوع لمبادئ وقواعد أخلاقية معينة؛ لأنهم يعتنقون مبادئ وقواعد أخرى، هذا كل ما هنالك دون لف أو دوران ودون مماحكات لفظية زائفة"[26]، ويمكن ترجمة كلام ستولنتز في رفضه المطالبة بإعطاء الفن وضعًا متميزًا، ودعوته إلى معاملة الإبداع الفني مثل أي نشاط بشري، بما نقوله في حياتنا اليومية من أنه "ليس على رأسه ريشة"! والواقع أن الدعوة إلى معاملة الأدب على أنه فوق الدين والقانون والأخلاق هي، في حقيقتها، دعوة إلى تأليهه، مع أنه لا يوجد إلا إله واحد! أما بالنسبة للرقابة الرسمية على الأعمال الأدبية فقد اكتفيتُ في كلامي المومأ إليه بعرض جهتي النظر المتعارضتين فيها[27].


    وبالمناسبة فكاتب هذه السطور لا يذهب مع المتشددين إلى المدى الذي يوجبون فيه على الأدباء أن يطرقوا موضوعات بعينها ويتجنبوا موضوعات بعينها أخرى، بل أقول: إن من حق الأديب أن يتناول أي موضوع يحلو له، بشرط واحد هو أن يبتعد عن التطاول على الله ودينه ورسوله، وعن تزيين الفجور والشذوذ وخيانة الوطن والأمة وما إلى ذلك، من حقه مثلًا أن يعالج موضوع الإيمان والإلحاد أو الخيانة الزوجية، لكن دون أن يدفع شخصياته إلى التجديف في حق الله، أو يغرق في تفصيلات الفواحش بما يهيج الشهوات، فيصبح بذلك من الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا[28].


    إننا نعرف جيدًا أن في الإنسان ضعفًا فطريًّا، وأن المجتمع، مهما تكن درجة تمسُّكه بالخُلق الكريم، لن يكون أبدًا مجتمعًا من الملائكة، وأن الشر كان ولا يزال وسيظل موجودًا في كل مكان يوجد فيه بشر، بيْدَ أن هذه الحقيقة لا يمكن أن تكون مسوغًا للعمل على تحويل الناس إلى شياطين من خلال تجريئهم على مقام الألوهية أو النفخ في جمرات غرائزهم حتى تستحيل نارًا تتلظى وتأتي على الأخضر واليابس، إن القضاء على الشر قضاءً مبرمًا وإلى الأبد لهو أمر مستحيل، لكن هذا لا ينبغي أن يدفعنا إلى ترك الحبل له على الغارب، بل لا بد من العمل على محاصرته في أضيق نطاق ممكن: فعشرة في المائة شرًّا خيرٌ من خمسة عشر، وهذه أفضل من عشرين، وعشرون أفضل من خمسة وعشرين... وهلم جرًّا.

    يتبع
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    46,724

    افتراضي رد: علاقة الأدب بالدين والأخلاق

    علاقة الأدب بالدين والأخلاق



    د. إبراهيم عوض








    ولعل مِن المناسب أن نشير هنا إلى مقال للدكتور زكي نجيب محمود عن "طبيعة الشعر وصلتها بالأخلاق" يؤكد فيه أن مجال الفن والأدب غير مجال الأخلاق، وأنه ليس من وظيفة الشعر الحث على الفضائل، وإن كان من الممكن مع هذا أن يساعد عرَضًا في تقويم المعوج من السلوك البشري، يؤكد سيادته هذا رغم قوله قبل ذلك بقليل: إن قيم الحق والخير والجمال "تلتقي كلها في الإنسان"، وفي أنها "معايير نلجأ إليها طلبًا للهدى"[29]، وهذا ما أحبُّ أن نحاكمه إليه فنقول: إنه ما دامت هذه القيم تلتقي كلها على هذا النحو في الإنسان، فلماذا نعمل على المباعدة بينها بحجة أن مجال كل منها مختلف؟ فليكن الأمر كذلك، أفينبغي أن يكون اختلاف مجالاتها ذريعةً للتغاضي عما يمكن يقع بينها من تناقض يُفسِد حياة الإنسان؟ إن لكل من الإدارات الحكومية مثلًا مجالها الذي يختلف عن مجالات الإدارات الأخرى، بَيْدَ أن هذه الإدارات يجب أن تعمَلَ متناغمة متعاونة رغم ذلك، وإلا اضطرب نظام العمل ولم يعطنا الثمرة المرجوة، بل ربما أدى إلى تفكيك الجهاز الحكومي ومؤسسات المجتمع كلها ونتج عن ذلك ما لا تُحْمَد عقباه، وقُلِ الشيء نفسه في أجهزة الجسم التي تختلف أيضًا وظائفها، والتي لا بد من تضافرها جميعًا رغم هذا، وإلا فسدت صحة الإنسان، بل حياته كلها.



    ولقد يقول قائل: ولكن إذا كان هناك تعارض بين الخير والجمال (أو فلنقل: بين الدين والأخلاق من جهة، والأدب والفن من جهة أخرى)، فلماذا ينبغي أن تكون الأولوية للأخلاق على الأدب؟ والإجابة سهلة، وهي أن الشر يسمِّم الحياة ولا يبقى معه مجال للاستمتاع بأي شيء، ترى ما الذي يستفيده المظلوم مثلًا إذا قلنا له: دونك هذه الأعمال الأدبية المغرية بالشر والفساد، فاستعِضْ بما فيها من فن عما وقع عليك من غبن؟ وشيء آخر مهم، وهو أن الأديب، إذا طُلِب منه الإقلاع عن الترويج للشر والفساد في عمله، يستطيع أن يجد موضوعات أخرى لا تُحصى يبدع فيها أدبًا يستمتع القراء به، فلا هو إذًا ولا القراء سيفوتهم ما ينشدونه من متعة، أما إذا تركنا الأدباء المنحلين يُغرون بالفاحشة، ويعملون على نشر الإباحية... إلخ، فلن يمكن تدارك الأمر بحال، ثم شيء ثالث، وهو أن تماسك الأمم وقوتها أهم مليارات المرات من متعة فنية تجلب وراءها التفكك الخُلقي والانحرافات النفسية والآفات الاجتماعية.


    إن غضَّ البصر عن الأدب المنحرف هو بمثابة من ينشئ مستشفى للأمراض الصدرية مثلًا، ثم لا يكف مع ذلك عن تلويث الهواء وتوفير لفائف التبغ والطباق بوفرة والدعاية الواسعة لها وتشجيع المدخنين وإعطائهم الجوائز، غير واجد شيئًا في هذا التناقض! إنه كمن ينفخ في قِربة مقطوعة، أو من يحاول ملء غربال بالماء! وهذا هو المستحيل بعينه والجنون! لكن هذا كله شيء، والقول بأن العمل الأدبي لا بد أن يدعو إلى التدين والتمسك بالأخلاق الكريمة شيء آخر مختلف تمام الاختلاف؛ إذ كل ما نطلبه هو ألا يعادي الدِّين أو القيم الأخلاقية الرفيعة المنبثقة منه، فالقاعدة التي نريد إرساءها هنا، كما ترى، هي قاعدة سلبية، بمعنى ألا يكون هناك تناقض بين الإبداع الأدبي وما نؤمن به من دين أو نعتز به من خُلُق، فلا يتحول الأدب إلى الدعوة للكفر والانحلال الخلقي والإغراء به... وهكذا، لا أن يكون بوقًا للوعظ والإرشاد المباشر، على أهمية الدروس الدينية في مجالها مع ذلك؛ إذ ليست هذه مهمة الأديب، ونحن مع د. زكي نجيب محمود في تلك النقطة[30]، وإن لم يمنع هذا من التنبيه إلى أن الخُطب الدينية، مثلها مثل الخطب السياسية والاجتماعية.... تشكل فنًّا من فنون الأدب، إننا لا نُلزم الأديب بشيء معين، لكننا لا نستطيع أن نسكت عن هجومه على ما نستمسك به ونعتز من دين ومبادئ وقيم عظيمة، هذا كل ما هنالك!


    بيد أن الأمر لا يقف عند هذا الحد، فمضمون العمل الأدبي لا ينحصر في مسائل الدين والخلق، بل يتسع لأشياء أخرى يمكن أن تكون موضع انتقاد: منها المعلومات الخاطئة، وتصوير العادات والتقاليد تصويرًا زائفًا، وعرض الإجراءات الفنية في بعض الحِرَف كالمحاماة والطب مثلًا على غير حقيقتها، ونسبة الأفكار والآراء إلى غير زمانها أو أصحابها، وغير ذلك مما يمكن أن يقع فيه الأديب في الغلط ويفسد على القارئ أو السامع تذوقه، ولست محتاجًا إلى القول بأن مثل هذه الأخطاء لن تعكِّر على متلقي الأدب صفو تذوقه إلا إذا تنبه لها، ولا يقولن أحد مرة أخرى: إن مثل هذه الأغلاط إنما تتعلق بالمضمون لا بالشكل الفني، ومن ثمَّ فلا دخل لها في مسألة التذوق، فقد رأينا موضوع العلاقة بين الشكل والمضمون على حقيقته، وتبين لنا أنهما مُلتحمان التحامًا لا يسمح بفصلهما إلا لأغراض الدرس، وعلى المستوى النظري فحسب، ومضيًّا مع مثال طبق الطعام الذي ضربناه قبلًا نقول: إن الأخطاء التي نتحدث عنها هنا هي بمثابة القذى الذي يقع في الطعام، إنه، بطبيعة الحال، لا علاقة له بالطريقة التي أُعد بها، وهي الجانب الفني في عملية الطبخ كما قلنا، لكنه كفيل رغم ذلك بتنفير الآكل من الطعام، وربما تقيأ ما ابتلعه منه، أو على الأقل لم يستطع أن يمضي فيه قبل أن ينفي عنه ما أصابه من قذى، وحتى إذا كان هناك من لا يبالي بمثل هذا القذى ولا بنفيه عن الطعام بل يستمر في الأكل بذات الشهية، فتلك حالة شاذة، والشاذ المنحرف لا يمكن أن يُتَّخَذ مقياسًا لأصحاب الذَّوق السليم، بَلْهَ الرهيف!


    ولْنضرِبْ بعض الأمثلة على كلامنا هذا: ففي مسرحية "عنترة" لأحمد شوقي يُعَبِّر ضرغام (منافس عنترة) عن حبه لعبلة قائلًا: "أحبها حُبي العُزَّى، وأعبدها عبادة اللات"[31]، ولست أظن أن التعبير عن شدة حب الرجل للمرأة بالعبادة كان مما يجري على ألسنة شعراء الجاهلية، وبالمثل لا أظن أن عبلة كانت من المعرفة بتاريخ بني إسرائيل ودور أنبيائهم في الحفاظ على كيانهم وهويتهم بحيث تتمنى في أحد مشاهد المسرحية أن يتاح للعرب بطل يلتفون حوله ليحررهم من التبعية للفرس كما التف بنو إسرائيل حول موسى معتقهم من ربقة الرِّق لفرعون، وهذا هو كلامها كما ورد في المسرحية:
    ألا بطل نلتقي حوله
    كإسرال حول لواء الرُّسُلْ؟[32]


    يفك من الرق أعناقنا
    كما فكَّ موسى رقابَ الأُوَلْ



    ليس ذلك فقط، بل إنها لتردُّ على أبيها، وقد توتر الجو بينهما حين تقدم لخطبتها صخر فرفضته، وتحمَّس أخوها له أشد التحمس، قائلة: إن من الممكن تزويجه بأخيها ما دام متحمسًا له على هذا النحو، وهو جواب قاسٍ ومهين بحيث لا يمكن أن ينحصر رد فعل أبيها في قوله:
    أُزوج الرجال بالرجال؟ ♦♦♦ ذاك لعمري منتهى الخبال
    أو أن يكون كل ما أجابها به أخوها هو: "استهترت أختي فما تبالي"[33].


    أهذا كل ما يمكن أن يكون من رد فعل شيخ قبيلة عربية في الجاهلية على كلام ابنته الذي تطعن به أخاها في صميم رجولته، فضلًا عن أن يكون جواب الأخ هو ذلك الكلام اللين الذي لا يليق بالرجال؟


    وفي مسرحية "السلطان الحائر" لتوفيق الحكيم يستغرب الإنسان أشد الاستغراب اختزالها المجتمع الإسلامي في العصر المملوكي الذي تدور أحداثها فيه إلى عاهرة وخمار وإسكاف ونخاس ومؤذن لا قداسة عنده للمسجد ولا للأذان، وبالمثل يفاجئنا أبطال المسرحية، وكذلك جموع المشاهدين المحتشدين في الميدان انتظارًا لتنفيذ حكم الإعدام في النخاس، بأنهم جميعًا يشربون الخمر! وفوق هذا فقد جرت على ألسنة أبطال المسرحية بعض المصطلحات التي لم تكن معروفة قبل العصر الحديث، مثل: "المواطن" و"الهدف الوطني" و"الغاية القومية" و"الأغلبية" و"الرأي العام"، إن هذه الأخطاء من شأنها أن تفسد الجو التاريخي الذي أراد المؤلف إضفاءه على عمله، وتكدر على قارئ المسرحية ومشاهدها صفو متعة التذوق.


    وفي مسرحية "الزهرة والجنزير" يقترف محمد سلماوي أخطاء سمجة سخيفة لا تُغتفر، فهو يدَّعِى مثلًا على لسان إحدى المصريات اللاتي يعملن في السعودية أن النساء هناك، إذا أردن أن يشربن في مكان عام، لا يرفعن النقاب عن أفواههن، بل يشربن من فوقه[34]، والواقع أن المسرحية من أولها إلى آخرها تَعِجُّ بهذا السخف الذي لا يدانيه سخف، فضلا عن ركاكتها الشنيعة في الأسلوب والبناء والتشخيص، ومرجع سخفها وركاكتها هو هذه الأخطاء التي تنم عن الجهل الفادح بعادات المجتمعات وتقاليدها، وبالطبيعة البشرية ومنطق الحياة... إلخ، هي كلها، كما يلاحظ القارئ، أمور خاصة بالمضمون، أو على الأقل ترتبط به أكثر مما ترتبط بالشكل الفني، بل إن مبدأ مراعاة الواقعية إنما ينصبُّ في أساسه على مضمون العمل الأدبي، لا على شكله وبنائه.


    وقريب من ذلك الأخطاءُ التاريخيةُ المضحكةُ التي سقط فيها جمال الغيطاني في رواية "الزيني بركات"، والتي لا يخطئها تلميذ صغير؛ فقد جاء في هذه الرواية أن اليهود هم الذين رموا النبي عليه السلام من فوق أسوار الطائف عندما رحل إليها من مكة يدعو أهلها إلى الدين الجديد عَلَّهم أن يكونوا أحكم من قريش وأدنى إلى الاستماع إلى صوت الحق، وكأن هذا الجهل المخزي بسيرة سيد البشر ليس كافيًا؛ إذ يضيف هذا الكاتب أن التي أكلتْ (لاحظ: "أكلت" لا "لاكت") كبد حمزة عليه رضوان الله امرأة من يهود![35].


    بالله كيف يسقط في مِثل هذا الشُّنْع إنسان ينتسب إلى الإسلام ويشتغل في ميدان الكتابة؟ أم كيف سولت له نفسه أن يجعل مسؤولًا مسلمًا كبيرًا بدولة المماليك يقر بصَلب عيسى عليه السلام؟[36]، إن هذا أمر لا يمكن أن يدور في عقل مسلم، وبخاصة في تلك العصور القديمة، بل لم يقترب منه أحد سوى القاديانيين المارقين في العصر الحديث، ومع ذلك فإنهم لم يذهبوا إلى هذا المدى من مصادمة ما جاء في القرآن المجيد؛ إذ غاية ما قالوه أن المسيح عليه السلام قد وُضِع على الصليب، لكنه لم يمت فوقه، بل كتب الله له النجاة من أيدي أعدائه فهاجر من فلسطين إلى كشمير ليدعو يهودها إلى دينه ومات هناك عن عمر يربو على المائة والعشرين عامًا[37]، وثالثة الأثافي أن ذلك المسؤول المملوكي نفسه في رواية الغيطاني المهلهلة يشهد لليهود والنصارى والبوذيين بالإيمان، لا فرق بينهم وبين المسلمين[38]، إن ألفباء العمل القصصي أن يدع المؤلف أبطاله يعيشون في عصرهم هم، وينطقون بألسنتهم هم، ويحسون بمشاعرهم هم، أما إذا فرض عليهم ما يدور في ذهنه هو، أو على الأقل ما لا يتواءم وشخصياتهم، كان ذلك دليلًا دامغًا على فشله.


    وفوق هذا فقد أجرى الغيطاني على لسان ذلك المسلم المسؤول في دولة المماليك في القرن العاشر الهجري كلمة "المسيحيين" بدلًا من "النصارى"، مع أن مصطلح "المسيحيين" لم يكن معروفًا لدى المسلمين في ذلك الوقت، بل قد حاولت أن أجد هذه الكلمة في معجم "تاج العروس" للزبيدي، وهو من الكتب التي أُلِّفتْ بعد ذلك بعدة قرون، أو في معجم "مد القاموس" للمستشرق البريطاني إدوارد وليم لين، الذي كان يعيش في القرن التاسع عشر، فلم أعثر عليها، وفي "عجائب الآثار" نلاحظ أن مؤرخنا العظيم عبدالرحمن الجبرتي، وهو من أهل القرن الثامن عشر والتاسع عشر، لا يستخدم إلا كلمة "النصارى"، وحتى في أول منشور أصدره نابليون بونابرت لدن غزوه مصر نراه يقول: "النصارى" لا "المسيحيون"، ونفس الشيء نجده عند رفاعة الطهطاوي بعد ذلك في كتابه "تخليص الإبريز"[39]، اللهم إلا مرة يتيمة واحدة استعمل فيها عبارة "الملة المسيحية"، وكانت في سياق ترجمته لما قاله المطران الأكبر بباريس عن انتصار "الملة المسيحية" على "الملة الإسلامية"، يقصد احتلال فرنسا للجزائر عام 1830م[40]، كذلك قلبت صفحات كتاب "علم الدين" لعلي مبارك فوجدته هو أيضًا يقول: "النصارى"[41]، وإن كان قد أورد تعبير "الملة العيساوية" مرة واحدة، فيما لاحظت، على لسان أحد الإنجليز[42]، لكن ثقافة الغيطاني، للأسف، لا تدرك قيمة مثل هذه الأشياء في الإبداع الأدبي، فكله عنده صابون!
    --------------------------------------

    [1] د. زكي نجيب محمود/ مع الشعراء/ ط3/ دار الشروق/ 1402هـ - 1983م/ 132 - 133.

    [2] المرجع السابق/ 133.

    [3] السابق/ 134 - 136.

    [4] السابق/ 136 - 137.

    [5] السابق/ 137.

    [6] السابق/ 138.

    [7] السابق/ 52 وما بعدها.

    [8] السابق/ 115.

    [9] السابق/ 154 وما يليها.

    [10] السابق/ 160 وما بعدها.

    [11] السابق/ 98، وقد ورد هذا الكلام في ختام مقال له عن الشاعر السوري علي أحمد سعيد (المتسمي باسم الإله الوثني "أدونيس") عنوانها "وقفة شاعر".

    [12] أرجو التنبه هنا لهذا اللغم؛ فالإسلام دِين، لكنه، على عكس الأديان الأخرى، لا علاقةَ له بالأساطير.

    [13] د. زكي نجيب محمود/ في فلسفة النقد/ دار الشروق/ 1399هـ - 1979م/ 32 - 33.

    [14] د. عبدالمنعم تليمة/ مدخل إلى علم الجمال/ دار الثقافة للطباعة والنشر/ 1978م/ 99.

    [15] المرجع السابق/ 100 - 101.

    [16] السابق/ 110، 112.

    [17] وهو انتحار سينمائي ساذج بل سخيف؛ إذ أخذ هو وحبيبته يوغلان في النهر وقد تخاصرا حتى غطاهما الماء دون أن يبديا ترددًا أو مقاومة كأنهما يقومان بنزهة ولا يتعرضان لآلام الاختناق الرهيبة!

    [18]The Encyclopaedia of Islam، Brald، Leiden، 1931، Art. Zaidan.

    [19]وعنوانه: "معالجة القصة للمادة التاريخية" (مكتبة زهراء الشرق/ 1418هـ - 1998م/ 40 - 46).

    [20] د. محمد حسين هيكل/ ولدي/ ط3/ مكتبة النهضة المصرية/ 1966م/ 37.

    [21] انظر د. إبراهيم عوض/ محمد حسين هيكل أديبًا وناقدًا ومفكرًا إسلاميًّا/ مكتبة زهراء الشرق/ 1418هـ - 1998م/ 223 وما يليها.

    [22] انظر ص 12 - 13، 18، 68، 151، 157 مثلًا من الرواية المذكورة (ط4/ المؤسسة العربية للدراسات والنشر/ بيروت).

    [23] في كتابي عن "وليمة لأعشاب البحر" يجد القارئ ذكرًا لبعض النقاد الذين يرفضون أن يخرج الأدب على الدين والأخلاق؛ كالقاضي عبدالعزيز الجرجاني (رغم استشهاد الإباحيين به بوصفه من دعاة التركيز على الجانب الفني وحده بصرف النظر عما قد يكون في العمل الأدبي من سوء الاعتقاد أو التهتُّك والفسوق)، وكذلك عبدالقادر الجرجاني وابن الأنباري وأبي منصور الثعالبي وابن شرف القيرواني، وأفلاطون وأرسطو والدكتور صمويل جونسون توماس كارلايل وتولستوي وألان الناقد الفرنسي؛ (انظر الكتاب المذكور/ دار الفكر العربي/ 1422هـ - 2001م/ الفصل الخاص بـ"القول في حرية الإبداع" من ص 79 فصاعدًا).

    [24] مثل أوسكار وايلد وبودلير، ومعروف سلوك هذين الأديبين وتصرفاتهما الخارجة على قيم الأخلاق الكريمة.

    [25] يُرجى قراءة الفصل كاملًا في كتاب ستولنتز (ص 508 - 553)، فهو فصلٌ ممتع كسائر الفصول.

    [26] د. إبراهيم عوض/ وليمة لأعشاب البحر بين قسيم الإسلام وحرية الإبداع - قراءة نقدية/ 48 - 49.

    [27] المرجع السابق/ 49 - 50.

    [28] السابق/ 49 - 50، 93 - 94.

    [29] د. زكي نجيب محمود/ مع الشعراء/ 187 وما يليها.

    [30] المرجع السابق/ 194.

    [31] أحمد شوقي/ عنترة/ دار الكتب المصرية/ 1932م/ 105.

    [32] المرجع السابق/ 79 - 80، و"إسرال" هو "إسرائيل".

    [33] السابق/ 66.

    [34] انظر محمد سلماوي/ الزهرة والجنزير/ الهيئة المصرية العامة للكتاب/ 1994م/ 13.

    [35] انظر جمال الغيطاني/ الزيني بركات/ ط3/ دار المستقبل العربي/ 1985م/ 225، والمضحك أن الغيطاني يتحدث في كل مناسبة عن هيامه بكتب التاريخ الإسلامي، ترى لو لم يكن هائمًا بها كل هذا الهيام، فماذا كان يمكن أن تكون النتيجة؟ الآن عرفت لِمَ قال قدماؤنا الحكماء: "شر البلية ما يُضحِك"، كذلك أود أن يلاحظ القارئ الكريم أن هذه هي الطبعة الثالثة من الرواية؛ أي: إن السيد الكاتب لم يتنبه ولا نبهه أحد ممن حوله طوال تلك المدة إلى هذه الأخطاء المخجلة التي لا تليق بأي طالب في المرحلة الابتدائية!

    [36] نفس المرجع والصفحة.

    [37] The Holy Quran (Edited by Malik Ghulam Farid، The London Mosque، 1981، pp 232-233 (Notes 968-970)، 742-743 (Note 2000)، and A short Sketch of Ahmadiyyah in Islam، Muslim Mission، Lagos، 1973، PP.16-27.

    [38] الزيني بركات/ 224.

    [39] انظر مثلًا ص148، 155، 158، 157، 180، 188، 189، 208، 293، 294، 299 من "أصول الفكر العربي الحديث عند الطهطاوي مع النص الكامل لكتابه تخليص الإبريز"، "دراسة وتعليق د. محمود فهمي حجازي/ الهيئة المصرية العامة للكتاب/ 1974م".

    [40] المرجع السابق/ 364 - 365.

    [41] انظر علي مبارك/ الأعمال الكاملة/ دراسة وتحقيق د. محمد عمارة/ المؤسسة العربية للدراسات والنشر/ 1979م/ 1/ 423، 428، 429، 674، و2/ 305 - 309، 313... إلخ.

    [42] 1/ 664.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •