علاقة الأدب بالدين والأخلاق
د. إبراهيم عوض
لا يتعلق الذَّوق الأدبي إذًا بالشكل الفني فحسب، بل به وبالمضمون معًا؛ إذ هما مرتبطان، بل ملتحمان، بحيث لا يمكن الفصل بينهما، اللهم إلا على المستوى النظري فقط، أما في الواقع فالفصل غير ممكن، والذين يظنون أن التذوق الأدبي لا علاقة له إلا بالجانب الفني في القصيدة أو المقال أو المسرحية... هم ناسٌ يَهيمون في الفراغ أو يجْرُون وراء الأوهام؛ إذ أين يمكن أن نجد الشكل الفني منفصلًا عن مضمونه؟
إننا لو عملنا على مسايرة هؤلاء النقاد وحاولنا التوصل إلى شكل قصيدة من القصائد، فأين يا ترى نجد الوزن دون الكلمات التي وُزنت عليه؟ وأين نجد البناء بعيدًا عما احتوته من أغراض أو أفكار أو أحداث أو مشاعر أو ما إلى ذلك؟ وأين نجد حرف السين مثلًا الذي يكثر في البيت الفلاني للإيحاء بجو الهمس والإسرار إلا إذا أوردنا الألفاظ التي يظهر فيها هذا الحرف؟ الواقع أن هناك من البشر مَن رُزقوا القدرة على الجدال في البدهيات وإثبات المستحيلات دون أن يطرف لهم جَفن!
والعجيب أن أمثال هؤلاء النقاد كثيرًا ما تجرُّهم تحليلاتهم التي يحاولون أن يثبتوا بها دعاواهم إلى عتبات الحقيقة الساطعة سطوع الشمس في رائعة النهار، فيظن القارئ الطيب أنهم بسبيلهم إلى الإفاقة من غاشيتهم والتسليم بالحق الذي كانوا من قبل يكابرون فيه، لكنه لدهشته الشديدة يفاجأ بهم وقد استداروا على أعقابهم يَعْدُون بأقصى ما يستطيعون من قوة عائدين من حيث أتوا، أو يراهم وقد أغلقوا عيونهم كيلا يروا ما هو ماثل أمامهم، ثم زادوا فعصبوا تلك العيون بأغطية تحول تمامًا بينها وبين الشعور بأن هناك بالخارج ضوءًا!
وللأسف فإن بين هؤلاء السابحين وراء الوهم في الفراغ كتَّابًا كِبارًا؛ كالدكتور زكي نجيب محمود، خذ مثلًا ما يقوله من أن "مادة الشعر الكلمات، والكلمات في نشأتها الأولى رموز تواضَع عليها أبناء الجماعة الواحدة لترمز إلى شيء سواها حتى ليستطيع المتكلم أن يُنِيب كلمة عن مسماها، فإذا أراد أن يحدِّث سامعه عن "شجرة" لم تكن به ضرورة أن يذهبا معاً إلى حيث يريان شجرة ماثلة أمام بصريهما، بل تكفيه الكلمة بديلًا عن مسماها... ومن ثَمَّ كانت اللغة في نشأتها الأولى أداة اجتماعية بالضرورة، فما خُلقت إلا لأن أكثر من شخص واحد قد اجتمعوا على أهداف مشتركة: فمنهم المتكلم، ومنهم السامع، ولو نشأ إنسان واحد بمفرده في جزيرة معزولة ما تكلمَ، لكن هذه الأداة اللغوية سرعان ما تحولت عن طبيعتها تلك الأولى إلى طبيعة ثانية، فأصبحت لها طبيعتان، ولمن يستخدمها من الناس حق اختيار إحدى الطبيعتين وَفْق الغاية التي يريد تحقيقها، فأما هذه الطبيعة الثانية فهي أن نقف عند حد الأداة اللغوية لا ننفُذ منها إلى شيء وراءها، فليست هي في هذه الحالة مستخدمة لتنوب عن أشياء أخرى، بل هي عندئذ تُطلب لذاتها، أرأيت طفلًا يهُم بفتح باب مغلق، فيدير مقبضه فتعجبه حركة المقبض في يده، فيتحول عن غايته الأولى إلى غاية ثانية لا يكون فيها المقبض وسيلة إلى ما عداه، بل يُطلب لذاته وللنشوة المتولدة عنه؟ فهكذا اللغة: فإما استخدمتها لما خُلقت له أول الأمر، وهو أن تشير إلى أشياء، وإما استخدمتها غايةً في حد ذاتها يمتعك سماعها بغض النظر عن دلالتها الخارجية، والشِّعر هو هذه الحالة الثانية، فلئن كانت مادة الشعر كلمات، إلا أنها كلمات نُسقت على نحو يُمتع السمع؛ لِما فيها من صفات ليس بينها صفة كونها مطابقة للأشياء والحوادث كما هي واقعة فعلًا في دنيانا التي نعيش فيها، فإذا كان بين الشِّعر من جهة وأشياء الواقع من جهة أخرى تطابق فهو تطابق غير مباشر، وليس هو كالتطابق الذي يكون بين اللغة والأشياء في أحاديث التفاهُم التي نألفها في حياتنا اليومية الجارية"[1].
وهذا النص للأسف مملوء بالمغالطات: فهو يقول مثلًا: إن اللغة إنما خُلقت للتفاهم بين الناس بحيث لو نشأ إنسان بمفرده في جزيرة منعزلة ما تكلم، ثم يعود رغم ذلك فيؤكد أن الشعر، وإن كانت مادته اللغة والكلمات، لا يُقصد به توصيل شيء ما، بل مجرد التلذذ بالكلمات ذاتها، وهي الوظيفة التي تحوَّلت إليها اللغة فحادت بها عن مهمتها التي كانت لها في البداية، وكان ينبغي أن يبين لنا متى حدث هذا التحول، وكيف؛ كي يكون كلامه مقنعًا، لكنه لم يفعل، ولا أظنه هو أو غيره يستطيع شيئًا من هذا؛ إذ الكلام هنا عن ماضي البشرية السحيق الذي انطوى في غمار الزمن، وليس لعودته من سبيل، اللهم إلا إذا استطاع التقدمُ العلمي يومًا أن يستعيد لنا ما مضى في غياهب التاريخ، وإذًا فعلينا أن ننتظر، وإن كنت أخشى أن يطول الانتظار، وربما إلى الأبد! إن هذا الكلام لا معنى له إلا أن اللغة العادية التي ليست بشعر ولا أدب تخلو مما يمتع ويسر الأذن والعقل والخيال، فهل هذا صحيح؟ إن كثيرًا من كلامنا العادي مملوء بالصور الفنية والتنغيمات الموسيقية، حتى النساء في الأحياء الشعبية يستخدمن في مشاجراتهن عبارات ممتعة في تصويرها وتنغيمها وتركيبها ومفرداتها، وفي ذات الوقت تعبر عما تكنُّه الواحدة منهن لغريمتها من حقد أو احتقار أو ما تنوي أن تفعله بها من ضرب أو طرد أو جر إلى قسم الشرطة... إلخ، فكيف يقال: إن اللغة كانت لها في البداية وظيفة واحدة فقط، هي توصيل الأفكار والمشاعر وما إلى ذلك، ثم طرأت لها وظيفة أخرى لا تلتقي بالأولى ولا علاقة لها بها هي مجرد التلذذ بالكلمات والانتشاء بها؟
إن هذه الوظيفة الثانية المدَّعاة لا يمكن أن تتحقق إلا إذا كان هِجِّيرَى الشاعر الانقطاع إلى الألفاظ والعكوف عليها يعبث بها كما يحلو لهواه دونما التفات إلى القواعد التي تحكم صياغتها في ذاتها وفي تركيبها بعضها مع بعض بغية الحصول على عبارات وصور، وكل ما سوف نحصل عليه في هذه الحالة هو مجردُ تتابع أصوات لا معنى لها، أصوات قد يكون فيها جرس موسيقا، لكنها لا تدل على شيء البتة، فهل هناك شاعر أو أديب يفعل هذا، اللهم إلا أن يكون ملتاثًا أو عابثًا أو مستهترًا؟ لكن أحدًا لا يأخذ العابث أو الملتاث على محمل الجِد، فضلًا عن أن يقول عنه: إنه شاعر أو أديب! ثم إذا كان الأمر كذلك فمعناه أن ما يقوله الأستاذ الدكتور من أن الإنسان إذا نشأ وحده في جزيرة منعزلة لم يُقدر له أن يتكلم هو قول باطل؛ إذ ما دامت اللغة تتحول إلى غاية في ذاتها يتلذذ الإنسان باللعب بها وبالنشوة المتولدة عن هذا اللعب، فليس شرطًا أن يكون هناك طرف آخر يسمع، بل يكفي وجود مستعمل اللغة فحسب، أرأيت أيها القارئ إلى هذا التناقض العاري؟!
ولقد أغنانا د. زكي نجيب عن أن يتصدى لنا مَن يدَّعي أنه لم يقصد إلى هذا؛ إذ ضرب لنا هو نفسه مثال الصبي ومقبض الباب، فمن الواضح أن الصبي هنا يلعب ويعبث، ولا أحد يسميه "فنانًا" بأي معنى من معاني الفن، ولسوف يسارع أبوه أو أمه بنهيه عما يفعل وصرفه إلى شيء يفيده، أو على الأقل يجنبهما ما يُحدثه من ضجة، أو ما يمكن أن يؤدي إليه هذا العبث من تلف المقبض أو الباب! ومقطع الصواب في هذا، إذا أردنا أن نُبقي على المثال الذي ضربه الدكتور أو نبقى على الأقل قريبين منه، أن نقول: إن هناك طريقتين للاستئذان على من بداخل الغرفة: فإما أن ننقر الباب النقر الذي ينقره الناس عادة إلى أن نسمع الإذن لنا بالدخول فندخل، وإما أن ننقره نقرًا منغمًا فنؤدي بذلك وظيفتين: إمتاع مَن بالداخل، واستمتاعنا نحن الناقرين، وكذلك الأدب والشعر في واقع الأمر وحقيقته، إنه يهدف إلى توصيل شيء ما لقارئه أو مستمعه، لكن بطريقة فنية ممتعة، أما أن يقال: إنه بطبيعته لا يعني شيئًا، فذلك ضرب من السفسطة العجيبة!
ولقد شعَر كاتبنا أن قدمه ستنزلق إلى الاعتراف بالواقع الذي يفقأ عين المكابرين، بل لقد أوشك أن يتراجع، بَيْدَ أنه، مثل أي معاند ينكر سطوع الشمس في ضحى الصيف، قد سارع فأغمض عينيه ووضع يديه عليهما ظنًّا منه أنه ما دام لا يرى في هذه الحالة ضوء الشمس فإنها لن تكون مِن ثَم مضيئة! لقد أنكر إنكارًا تامًّا في البداية وجود أية دلالة للكلمات في القصيدة على أي شيء وراءها، لكنه عندما كرر هذه الفكرة بعد قليل نافيًا وجود أي تطابق بين الكلمات وبين الأشياء والحوادث ضيَّق الكلام بعض التضييق قائلًا: إنها "كلمات نُسقت على نحو يمتع السمع؛ لما فيه من صفات ليس بينها صفة كونها مطابقة للأشياء والحوادث كما هي واقعة في دنيانا التي نعيش فيها"، بل إن رجله قد انجرت خطوة أخرى نحو الحق الذي يأبى الاعتراف به؛ إذ أضاف عقيب هذا أنه "إذا كان بين الشعر من جهة وأشياء الواقع من جهة أخرى تطابق، فهو تطابق غير مباشر، وليس هو كالتطابق الذي يكون بين اللغة والأشياء في أحاديث التفاهم التي نألفها في حياتنا اليومية"[2]، وأحسب أن التراجع في كلامه واضح غاية الوضوح، ومع ذلك فهو يصر على أن الشعر لا يُقصد به توصيل أي شيء إلى السامع أو القارئ، وبالمناسبة فهناك خطأ آخر كبير وقع فيه ناقدنا، ألا وهو قصره متعة الشعر على الأذن والسمع، كما هو واضح من السطور الماضية، مع أن الشعر ليس أنغامًا فقط، بل هو أنغام وصور وتعبيرات وأفكار ومشاعر وبناء فني، وفي كل شيء من هذا مِن المتعة ما فيه.
إلا أن تراجع الأستاذ الدكتور لم يقف عند هذا الحد؛ إذ ذكر بصريح العبارة أنه ليست هناك أية مشاحة في أن الشعر المسرحي، وكذلك شعر المديح والهجاء والاستنهاض، إنما قيل لتوصيل معنى إلى جمهور المشاهدين والمستمعين، لكنه، رغم ذلك، يأبى إلا الاستمرار على مكابرته قائلًا: إن هناك لونًا آخر من الشعر يناجي فيه الشاعرُ نفسه، وإن هذا هو الشعر الذي يقصده، رغم اعترافه أن معظم شعرنا العربي قديمه وحديثه قد قيل في المدح والهجاء والاستنهاض وما إلى ذلك، بل إنه ليُخرج من الشعر الذي يعنيه شعر الغزل بشبهة أن الشاعر لا يناجي فيه نفسه بل حبيبته، فهو يتجه بالخطاب إليها ولو نظريًّا على الأقل، ولا يُعقل أنه يخاطب فيه الهواء[3]، وبالمثل نقول نحن: وحتى عندما ينظم الشاعر قصيدة يناجي فيها ذاته فإنه إنما يخاطب الآخرين عارضًا عليهم أفراح نفسه وأشجانها، وآمالها وآلامها، وطماحها ويأسها... إلخ، خضوعًا منه لطبيعته البشرية التي لا يستطيع التنكر لها في هُفُوِّها للتواصل مع الآخرين بحثًا عن التعاطف والسلوى من جهة، وتطلعًا إلى تقديرهم لإنجازه الأدبي من جهة أخرى، وإلا فلماذا تحفى أقدام الأدباء والشعراء لينشروا ما يكتبون ولا يكتفون بالإبداع في ذاته فيحبسوه في الأدراج ويريحوا أنفسهم من تعب النشر وما يُنفق فيه من مال، وما قد يُبتذل أيضًا من كرامة؟ وعلى أية حال فإن الشعر، حتى في هذه الحالة، يعني بكل يقين شيئًا، بل أشياء، وليس مجرد أصوات تلَذُّها الأذن كما يزعم الأستاذ الدكتور!
ويستمر انزلاق قدم كاتبنا فيعترف أن الشاعر الذي ينظم شعر المناجاة الذاتية هو أيضًا يفكر في الآخرين وفي توصيل شعره إليهم، لكنه يظل على مكابرته قائلًا: إن هذا إنما يتم فيما بعد؛ إذ هو لا يفكر في شيء من هذا أثناء النظم، أما بعد الفراغ من القصيدة فالأمر يختلف؛ إذ "يرد الناس الآخرون إلى خاطره فينشر فيهم قصيدته ليقرأها من هو في مثل حالته فينفس بها عن كربه، ولينقدها ناقد فيعلم الشاعر من خلال نقده كيف جاءت نفثته"[4]، إذًا فالشاعر حين ينظم شعره، ومثله الأديب عمومًا في سائر إبداعات الأدب، إنما يريد توصيل شيء للآخرين، وليس يهمنا أهو يعي ذلك منذ بداية إقباله على إبداع القصيدة أم يطرأ له هذا فيما بعد، فهذه مسألة ثانوية لا تقدم ولا تؤخر، ولقد كررها كاتبنا بمنتهى الوضوح في قوله: إن "الشعر، كائنة ما كانت صورته، يجاوز حدود الشاعر إلى سواه"، الله أكبر! ففيم إذًا كل هذا الجدال والعناد ومحاولة إنكار البدهيات؟ لكن صبرًا أيها القارئ؛ فالدكتور لا يزال قادرًا بل مصرًّا على الجدال والعناد إلى آخر لحظة؛ فـ: "الشعر إذ ينقل شيئًا من قارئه إلى سامعه، فهو لا ينقل خبرًا معينًا عن شيء أو عن فرد معين، بل ينقل حالة من الحالات الخالدة التي ما تنفك تتكرر كأنها قانون سرمدي في الكون وفي الناس من الأزل إلى الأبد"[5]، يقصد أن الشاعر إذا تحدث مثلًا عما يحس به من سأم فهو لا يتحدث حينئذ عن سأمه هو فلان الفلاني، بل عن السأم البشري الذي يحسه الناس جميعًا، وسيظلون يحسونه إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها، ثم يعقِّب قائلًا: إنها "حقيقة خالدة ندركها عن طريق موقف جزئي"، ليختم حديثه بقوله: "فليتغنَّ الشاعر لنفسه أو لغيره"، فهو في كلتا الحالتين يُنشد للناس أناشيد الحقائق الخالدة؟[6].
هكذا ينقُضُ الكاتب كل ما قال، لكن دون أن يقر بأنه قد تراجع عن رأيه، فهو حتى آخر لحظة لا يكف عن افتعال الاستدراكات والاشتراطات واختراع القيود والحدود التي لا وجود لها إلا على لسانه فقط؛ إذ من الواضح أنه غير مقتنع بما يقول، أو إذا أحسَنَّا به الظن قد بدأ مقاله بفكرة حسبها صحيحة، لكنه كلما مضى معها خطوة بدا له شيء من عوارها حتى تبخرت تمامًا في النهاية، إلا أنه عز عليه أن يعترف بأنها فكرة متهافتة، بل ظل يدافع عنها في سفسطة عجيبة أستغرب أن يكون صاحبها هو الدكتور زكي نجيب نفسه! ومِن الطريف أن ينكر مع ذلك أن الشاعر، حين يتحدث في شعره عن سأَمِه أو حيرته أو قلقه مثلًا، إنما يخبرنا عن شيء، بل ينقل لنا حالة من الحالات النفسية... إلى آخر ما قال، لكن ماذا بالله نسمي صنيع الشاعر هذا؟ إنه، والله العظيم ثلاثًا، إخبار لنا عن هذه الحالة، سواء قلنا: إنها حالته هو الخاصة، أو قلنا: إنها حالة البشر بوجه عام، إن الشاعر هنا إنما يريد أن يوصل لنا ما يقوله، وليست اللغة في يديه مجرد كلمات لا يشير بها إلى شيء ولا يبغي من ورائها سوى إمتاع أذنه بجرسها الموسيقي كما يدعي كاتبنا.
ليس هذا فحسب؛ فالدكتور زكي في كل نقده التطبيقي ينسى ما قاله من أن اللغة في يد الشعراء تكف عن أن تكون أداة تهبهم النشوة من خلال ما تُحدثه من جرس موسيقي تلَذُّه آذانهم، ينسى هذا كله ويُقبل على القصيدة التي ينقدها إقبال من يؤمن أنها إنما نظمت لتوصل لنا شيئًا، بل هو يقول ذلك بنفسه ولا يتركه لنا نستشفه استشفافًا، إن له مثلًا مقالًا عنوانه "فلسفة العقاد من شعره"[7]، ولا أظن إلا أن العنوان واضح تمام الوضوح في أن العقاد قد نظم شعره ليوصل إلينا آراءه ومواقفه من الكون والحياة والناس، فهو إذًا يقول شيئًا، وليس الأمر مجرد كلمات يقوم بتقليبها وتركيبها على نحو تلَذُّه أذناه، كما أن لكاتبنا مقالًا آخر عن "شكسبير في عصره وفي كل عصر"، يؤكد فيه أن رسالة ذلك الشاعر "هي تحليل هذا التعارض العجيب الذي كأنه لازمة من لوازم النفس البشرية بين دواعي النجاح العملي من جهة ومقتضيات الأخلاق من جهة أخرى"[8]، وكذلك له مقال ثالث عن شعر صلاح عبدالصبور في ديوانه "الناس في بلادي" عنوانه "ما هكذا الناس في بلادي"[9] يؤكد فيه أن ما يقوله الشاعر في ذلك الديوان عن مواطنيه غير صحيح، وأن الصورة التي رسمها لهم هي صورة زائفة، فما معنى هذا يا تُرى؟ معناه، بالخط العريض، أن الشاعر إنما ينظم شعره ليقول لنا شيئًا ويوصل إلينا معنى وشعورًا وموقفًا وصورة لشيء وراءه، وليس مجرد كلمات يعكف عليها لا يبغي من ورائها سوى التلذذ بما تُحدثه في أذنه من رنين، وفي مقال رابع عن ديوان لأحمد عبدالمعطي حجازي يكتب ناقدنا عن القصيدة التي عنون بها الديوان قائلًا: "في القصيدة صوت واحد مسموع هو صوت الشاعر نفسه، يصف ويروي ويوجه الخطاب إلى غائبة لا تجيب"[10]، وفي مقال خامس نراه يشكك في أن يبقى لشعر أدونيس قوته وتأثيره بعد أن تمر عليه القرون ولا يجد الناس حولهم ما يضيء لهم ظلمات غموضه وإلغازه[11]، ومعنى هذا إقراره ضمنيًّا بأن وظيفة الشعر، أو من وظيفته على الأقل، توصيل شيء من الشاعر للناس، وإلا فما الذي يضير في ألا يبقى لقصائد أدونيس أثرها وقوتها بعد قرون أو عقود ما دام الشعر عنده لا يخرج عن كونه كلمات لا تشير إلى شيء وراءها، وليس لها من فائدة سوى أن يعكف الشاعر على تشكيلها بما يمتع أذنه؟
يتبع