موقف ابن تيمية من مسألة «قدم العالم»
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ﷺ وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: لا شكّ أنّ مسألة «قدم العالم» من المسائل التي اتفقت جميع أهل الملل - مؤمنهم وكافرهم - على بطلانها، كما اتفقوا على أنّ ما سوى الله تعالى مخلوق محدث مسبوق بالعدم؛ إلا بقايا من الفلاسفة الدّهريّين القائلين: بقدم العالم!

ومع هذه الإجماعات؛ إلّا أنّ مسألة «القدم النوعي» - جنس المخلوقات - و«تسلسل الحوادث»- حوادث لا أول لها -: من المسائل التي اختلفت فيها أنظار أهل العلم؛ لا سيما في تحرير مسالكها العقلية وتقرير إمكانها في الأزل.
لأجل هذا فقد ساهم شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله بسهم وافر في تحرير هذه المسألة تحريرا علميا بمقتضى الدليل العقلي والنقلي بما لا شكّ فيه، الأمر الذي جعله يقف مع بعض النظار والمتكلمين وبعض أهل الحديث ممّن اختلفت تصوراتهم في مسألة «قدم العالم»، و«تسلسل الحوادث»، مثل:
ـ الفلاسفة القائلون: بقدم العالم.
ـ وأهل الكلام القائلون: بتعطيل الخالق سبحانه عن صفاته؛ لا سيما عن صفة الخلق ونحوها: كأئمة الجهمية والأشاعرة والشيعة المتقدمين، وكذا من اتبعهم من المتأخرين:كتقي الدين السبكي، وبها الدين الإخميمي في كتابه «رسالة في الرد على ابن تيمية، وتقي الدين الحصفي في كتابه «دفع شبه من شبه وتمرد»، وزاهد الكوثري في حاشيته على«السيف الصقيل» للسبكي، وحاشيته على «الإجماع» لابن حزم، وعبد الله الهرري الحبشي في كتابه «الدليل القويم»، وحسن السقاف في كتابه «التنبيه والرد على معتقد قدم العالم والحد»، وسعيد فودة، وعبد القادر الحسين، وغيرهم كثير.
ـ وبعض أهل السنة والحديث: ممّن لم يتصوروا أصل المسألة لكونها من محارات العقول، فمنهم من اعتمد على ظاهرية الحديث دون دراية كافية بأطراف المسألة، ومنهم من شكك وارتاب في تقرير أو نسبة أصل المسألة إلى أهل السنة، فمن هؤلاء: الحافظ ابن حجر في كتابه «فتح الباري»، وغيره كثير؛ لا سيما من المعاصرين!
وعليه؛ فإنّ مسألة «قدم العالم» من المسائل الكلامية الفلسفية التي يتوقف فهم كثير من أطراف مسائلها من خلال أمور كثيرة، منها:
الأمر الأول: أنّ مسألة «قدم العالم، وتسلسل الحوادث» من المسائل التي اختلفت فيها أنظار أساطين الفلاسفة وأهل الكلام وبعض أهل السنة والحديث؛ لكونها ذات دلالات ومسالك عقلية منطقية عقيمة، الأمر الذي جعلها من محارات العقول لا من محالاته!
الأمر الثاني: أنها مسألة ذات مسالك وشعب وإلزامات ومضايقات لا تنتهي إلى حدّ معتبر إلا بالرجوع إلى الكتاب والسنة وما عليه سلف الأمة.
الأمر الثالث: أنّ عامة من تكلم في هذه المسألة - الفلاسفة وأهل الكلام - لم يسلموا من خلل في تصوراتهم لها أو من إلزامات باطلة، بل لم يقف الخلل المنهجي في هذه المسألة عند هؤلاء بل تعداه إلى بعض المنتسبين إلى أهل السنة والحديث؛ الشيء الذي يدل على أن هذه المسألة من محارات العقول أكثر من كونها مسألة شرعية نقلية فقط.
الأمر الرابع: أنّ أئمة السلف المتقدمين لم يقفوا كثيرا مع هذه المسألة لا في الحديث عنها ولا في ذكر مناقشتها؛ لكونها لم تأخذ حقها من الجدل العقيم إلا عندما ظهرت الجهمية الذين ظنوا بأنفسهم أنهم أوصياء على عقائد المسلمين، فعندها جرّوا خلافاتهم الكلامية في هذه المسألة مع إخوانهم من الفلاسفة والمعتزلة وغيرهم، فحينها ازدادوا ضلالا مع ضلالهم وشبها مع شبهاتهم، فعندئذ قام أئمة السلف بواجبهم في هذه المسألة في بيان الحق وكشف شبه المخالفين ما بين مستقل منهم ومستكثر، وذلك باعتبار شدّة ظهور هذه المسألة وكثرة من يناقشها أو باعتبار ضعف ظهورها وقلّة من يناظر لأجلها.
فيحين أنّ أئمة السلف قد أجمعوا على قولهم: «إنّ الله لم يزل متكلّما إذا شاء، ولم يزل حيّا فعّالا».
وعليه؛ فإنّ كلامه تعالى ينقسم إلى: شرعيّ وكونيّ، {إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول لهكن فيكون} [يس:82]، فممّا يريده تعالى في هذه الآية: ما هو شرعيّ (أمر ونهي)، وماهو قدريّ وكونيّ، كما لا يخفى.
وهذابخلاف ما يذكره أهل الكلام وغيرهم: أنّ الله لم يزل معطلا لا يتكلم ولا يفعل شيئا ثم حدث ما حدث من كلام ومفعولات بغير سبب حادث، بل انقلاب منه بعد امتناع دون مرجح!
فكان والحالة هذه: أنّ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله جاء في العصر الذي كانت هذه المسألة من المسائل الكبار التي تولى أمرها أساطين الفلاسفة وأئمة أهل الكلام من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة ونحوهم ممّن يدعي أنه يمثل الحق فيها وأنه يقرر فيها ما دلّ عليه العقل والنقل - زعموا! -!
فعندها قام ابن تيميّة رحمه الله بواجب النصيحة الإيمانية في الرد على هؤلاء المخالفين في مسألة «قدم العالم»، و«تسلسل الحوادث»، بما يقتضيه صريح المعقول وصحيح المنقول على حدّ سواء.
الأمر الخامس: أنّ ابن تيميّة رحمه الله يعدّ واحدا من العلماء المكثرين من الرد على المخالفين في هذه المسألة؛ لا سيما في كتبه الكبار؛ لذا كان على طالب العلم - ممّن يريد أن يدرك كثيرا ممّا كتبه ابن تيمية في غالب كتبه الكبيرة المبسوطة التي رد فيها على المخالفين في هذه المسألة ونحوها من مسائل الكلام -: أن يقف مع تصور هذه المسألة بشيء من الإجمال؛ لأن الكلام المفصّل عنها: طويل الذيل قليل النيل، إلا من أراده وابتغاه، والله يريد بكم اليسر!
الأمر السادس: لقد خصّ ابن تيميّة رحمه الله كثيرا من ردوده - في هذه المسألة - على طائفتين مختلفتين من خلال تصوراتهما في مسألة المؤثّر والتّأثير، الأمر الذي جعل كلّ طائفة منهما تقع في طرفي نقيض في أصل المسألة، وهما:
الفلاسفة القائلون: بأنّ المؤثّر التّام يستلزم أن يكون مقارنا لأثره، أي: أنّ المخلوق قديم لكونه مقارنا لصفة الخلق، والّتي تعدّ صفة من الصفات الإلهية القديمة أزلا.
وأهل الكلام القائلون - في ردّهم على الفلاسفة -: بأنّ الأثر يجب أو يجوز أن يتراخى عن المؤثّر التّام، أي: أنّ المخلوق متأخر زمنا عن صفة الخلق، وعليه يكون الخالق تعالى عندهم ممتنعا معطلا زمنا عن صفة الخلق وغيرها، ثم انقلب الامتناع منه إلى اتصافه تعالى بصفة الخلق فصار حينها قادرا على الخلق.
أمّا أهل السنة فيقولون: إنّ المؤثّر التّامّ يستلزم وقوع أثره عقب تأثّره التّامّ لايقترن به ولا يتراخى عنه، كما إذا أعتقت العبد فعتق، وكسرت الإناء فانكسر، فوقوع العتق والانكسار ليس مقارنا لنفس الإعتاق والانكسار بحيث يكون معه، ولا هو أيضا متراخ عنه، بل يكون عقبه متّصلا به.
وأنّ الله تعالى قديم وكلّ ما سواه حادث كائن بعد أن لم يكن.
قال ابن تيميّة رحمه الله في «درء التّعارض» (8/270) «والصواب قول ثالث: وهو أنّ التّأثير التّامّ من المؤثّر يستلزم الأثر، فيكون الأثر عقبه، لا مقارنا له، ولا متراخيا عنه، كما يقال: كسرت الإناء فانكسر، وقطعت الحبل فانقطع، وطلقت المرأة فطلقت، وأعتقت العبد فعتق.
قال تعالى: {إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون} [يس:82]، فإذا كوّن شيئا كان عقب تكوين الرب له، لا يكون مع تكوينه ولا متراخيا عنه.
وقد يقال: يكون مع تكوينه، بمعنى: أنه يعقبه لا يتراخى عنه.
وهو سبحانه ما شاء كان ووجب بمشيئته وقدرته، وما لم يشأ لم يكن لعدم مشيئته له.
وعلى هذا؛ فكل ما سوى الله تعالى لا يكون إلا حادثا مسبوقا بالعدم، فإنه إنما يكون عقب تكوينه له، فهو مسبوق بغيره سبقا زمانيا.
وماكان كذلك لا يكون إلا محدثا، والمؤثر التام يستلزم وجود أثره عقب كمال التأثير التام».
وقال في «مجموع الفتاوى» (9/381): «واعتقد هؤلاء (الفلاسفة): أنّ المفعول المصنوع المبتدع المعيّن كالفلك يقارن فاعله أزلا وأبدا لا يتقدّم الفاعل عليه تقدّما زمانيّا.
وأولئك (أهل الكلام) قالوا: بل المؤثّر التّامّ يتراخى عنه أثره ثمّ يحدث الأثر من غير سبب اقتضى حدوثه.
فأقام الأوّلون الأدلّة العقليّة الصّريحة على بطلان هذا، كما أقام هؤلاء الأدلّةالعقليّة الصّريحة على بطلان قول الآخرين، ولا ريب أنّ قول هؤلاء أهل المقارنة أشدّ فسادا ومناقضة لصريح المعقول وصحيح المنقول من قول أولئك أهل التّراخي.
والقول الثّالث الذي يدلّ عليه المعقول الصّريح ويقرّ به عامّة العقلاء ودلّ عليه الكتاب والسّنّة وأقوال السّلف والأئمّة لم يهتد له الفريقان: وهو أنّ المؤثّر التّامّ يستلزم وقوع أثره عقب تأثّره التّامّ لا يقترن به ولا يتراخى، كما إذا طلّقت المرأة فطلقت، وأعتقت العبد فعتق، وكسرت الإناء فانكسر، وقطعت الحبل فانقطع، فوقوع العتق والطّلاق ليس مقارنا لنفس التّطليق والإعتاق بحيث يكون معه، ولا هو أيضا متراخ عنه بل يكون عقبه متّصلا به، وقد يقال هو معه ومفارق له باعتبار أنّه يكون عقبه متّصلا به، كما يقال: هو بعده متأخّر عنه باعتبار أنّه إنّما يكون عقب التّأثير التّامّ، ولهذا قال تعالى: {إنّما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كنفيكون} [يس:82]، فهو سبحانه يكون ما يشاء تكوينه فإذا كوّنه كان عقب تكوينه متّصلابه لا يكون مع تكوينه في الزّمان، ولا يكون متراخيا عن تكوينه بينهما فصل في الزّمان؛ بل يكون متّصلا بتكوينه كاتّصال أجزاء الحركة والزّمان بعضها ببعض.
وهذاممّا يستدلّ به على أنّ كلّ ما سوى اللّه حادث كائن بعد أن لم يكن» انتهى.
فابن تيميّة رحمه الله يقرّر هنا: أنّ الأثر لا يقارن المؤثر، ولا يتراخى عنه، بل يعقبه مباشرة، فكان في قوله هذا: ردّ على الفلاسفة وأهل الكلام من الجهمية والأشاعرة ونحوهم.
وهذاما يؤكده ابن تيمية أيضا في رده على الفلاسفة بقوله في «مجموع الفتاوى» (5/565): «وكان ما علم بالشّرع مع صريح العقل أيضا رادّ لما يقوله الفلاسفة الدّهريّة من قدم شيء من العالم مع اللّه بل القول: «بقدم العالم»: قول اتّفق جماهير العقلاء على بطلانه».
فمن خلال هذا؛ يظهر للجميع أنّ ابن تيميّة رحمه الله - كغيره من أئمة السلف - يقرّر: القدم النوعي؛ بخلاف نوع الأفراد: فإنّ لكلّ فرد ابتداء وانتهاء.
فالقدم النوعي له معنيان:
أحدهما: القدم الذي لم يسبقه عدم: كذات الله وصفاته القديمة؛ سواء كانت لازمة له عينا:كالحياة، أو صفات متعلقة بمشيئته وإرادته: كالخلق والفعل، ونحوهما.
فهذا القدم هو ممّا اختصّ بها الخالق سبحانه وتعالى أزلا وأوّلية دون ما سواه من المخلوقات.
الثاني: القدم الذي يدل معناه على أنّ الشيء يتعاقب وجوده شيئا بعد شيء، أي: أنه مسبوق بالعدم؛ لكنه متعاقب ومستمر، فنوعه المتوالي قديم باعتبار تعاقبه المستمر، لاباعتبار عينه وأفراده، كما سيأتي.
قال ابن تيمية في «الصفدية» (2/47): «ولفظ القديم والأزلي: فيه إجمال.
فقد يراد بالقديم: الشيء المعين الذي ما زال موجودا ليس لوجوده أول.
ويراد بالقديم: الشيء الذي يكون شيئا بعد شيء، فنوعه المتوالي قديم، وليس شيء منه بعينه قديما ولا مجموعه قديم، ولكن هو في نفسه قديم بهذا الاعتبار، فالتأثير الدائم الذي يكون شيئا بعد شيء، وهو من لوازم ذاته هو قديم النوع وليس شيء من أعيانه قديما، فليس شيء من أعيان الآثار قديما لا الفلك ولا غيره، ولا ما يسمى عقولا ولا نفوسا ولا غير ذلك.
فليس هو في وقت معين من الأوقات مؤثرا في حادث بعد حادث، ولكنه دائما مؤثر في حادث بعدحادث كما أنه ليس هو في وقت بعينه مؤثرا في مجموع الحوادث، بل هو مؤثر شيئا بعد شيء، وهو مؤثر في حادث بعد حادث وقتا بعد وقت.
فإذا كان المفعول مستلزما للحوادث: لم يفعل إلا والحوادث مفعوله معه، وهي وإن كانت مفعولة فيه شيئا بعد شيء فالمحدث لها شيئا بعد شيء إن أحدث مقارنها في وقت بعينه:لزم أن يكون محدثا من جملتها، وهو المطلوب.
وإن قيل: هو مقارن له قديم معه؛ بحيث يوجد معه كل وقت.
قيل: فهذا لا يمكن إلا إذا كان علة موجبة له لا محدثا له» انتهى.
وقال أيضا (2/144): «ولكن النوع أزلي، بمعنى: وجوده شيئا فشيئا فيكون الفعل المشروط به موجودا شيئا فشيئا لامتناع وجود المشروط بدون الشرط، وإذا كان ذلك الفعل يوجد شيئا فشيئا: كان المفعول كذلك بطريق الأولى لامتناع تقدم المفعول على فعله، فلا يكون فعل دائم معين فلا يكون مفعول معين دائم».
قلت: لقد ظهر ممّا ذكرناه آنفا أنّ «القدم النوعيّ»: هو قديم باعتبار تعلقه بأثر صفة منصفات االله تعالى، وهي صفة الخلق، والّتي تعدّ صفة من الصفات الإلهية القديمة أزلا؛ لذا كان تقرير قدم صفة الخلق لله تعالى كمالا للخالق تعالى؛ بخلاف من قرر تعطيل الخالق عن صفة الخلق زمنا؛ حيث اعتقد أنّه تعالى كان معطلا غير قادر على الفعل ثمّ صار قادرا، كما يقوله أهل الكلام.
وقولنا أيضا: «بالقدم النوعي»: هو نوع كليّ يقدّر وجوده في الأذهان لا في الأعيان، فهو نوع كليّ لا حقيقة له إلا باعتبار مجموع أفراده، ثم إنّ كل واحد من أفراده لهابتداء، أي: أنه مخلوق محدث مسبوق بالعدم، وأنّه موجود بعد أن لم يكن.
وعليه فإن جنس المخلوقات (النوعي) يكون وجودها جملة ذهنية لا حقيقة عينية، بل شيء يقدره الذهن، بل هو في حقيقة الأمر مجموعة من المخلوقات (الأفراد)، ثم هي عند التخصيص والتقييد والإضافة تكون مخلوقة محدثة كغيرها من المخلوقات، والله الموفق.
يقول ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (18/228): «فليس مع اللّه شيء من مفعولاته قديم معه، لا بل هو خالق كلّ شيء، وكلّ ما سواه مخلوق له، وكلّ مخلوق محدث كائن بعد أن لم يكن، وإن قدّر إنّه لم يزل خالقا فعّالا.
وإذاقيل: إنّ الخلق صفة كمال؛ لقوله تعالى: {أفمن يخلق كمن لا يخلق}، أمكن أن تكون خالقيّته دائمة، وكلّ مخلوق له محدث مسبوق بالعدم، وليس مع اللّه شيء قديم؟!
وهذا أبلغ في الكمال من أن يكون معطلا غير قادر على الفعل ثمّ يصير قادرا والفعل ممكنا له بلا سبب.
وأمّاجعل المفعول المعيّن مقارنا له أزلا وأبدا: فهذا في الحقيقة تعطيل لخلقه وفعله، فإنّ كون الفاعل مقارنا لمفعوله أزلا وأبدا مخالف لصريح المعقول».
وقال أيضا في «مجموع الفتاوى» (16/95): «أنّ قوله: «لأنّ معنى الخلق أنّه لم يكن ثمّكان, فكيف يكون ما لم يكن ثمّ كان لم يزل موجودا؟».
فيقال: بل كلّ مخلوق فهو محدث مسبوق بعدم نفسه, وما ثمّ قديم أزليّ إلّا اللّه وحده.
وإذاقيل: «لم يزل خالقا»، فإنّما يقتضي قدم نوع الخلق, و«دوام خالقيّته» لا يقتضي قدم شيء من المخلوقات، فيجب الفرق بين أعيان المخلوقات الحادثة بعد أن لم تكن, فإنّ هذه لا يقول عاقل: إنّ منها شيئا أزليّا، ومن قال بقدم شيء من العالم - كالفلك أومادّته - فإنّه يجعله مخلوقا، بمعنى: أنّه كان بعد أن لم يكن؛ ولكن إذ أوجدهالقديم.
ولكن لم يزل فعّالا خالقا, «ودوام خالقيّته» من لوازم وجوده، فهذا ليس قولا بقدم شيء من المخلوقات, بل هذا متضمّن لحدوث كلّ ما سواه، وهذا مقتضى سؤال السّائل له».
وقال في «قاعدة في أن كل دليل عقلي حجة على المخالف» (71): «فإنّ عمدتهم (أي: السّلف) في «قدم العالم» على أنّ الرّبّ لم يزل فاعلا, وأنّه يمتنع أن يصير فاعلا بعد أن لم يكن, وأن يصير الفعل ممكنا له بعد أن لم يكن, وأنّه يمتنع أن يصير قادرا بعد أن لم يكن. وهذا وجميع ما احتجّوا به (أي: أهل الكلام): إنّما يدلّ على قدم نوع الفعل, لا يدلّ على قدم شيء من العالم, لا فلك ولا غيره».
وقال في «الصّفديّة» (1/13): «إن قيل: لا يكون الحادث حتى يكون قبله حادث!
فهذا التسلسل في الآثار، وفيه الأقوال الثلاثة للمسلمين، وليس الخلاف في ذلك بين أهل الملل وغيرهم كما يظنه كثير من الناس، بل نفس أهل الملل بل أئمة أهل الملل أهل السنة والحديث: يجوّزون هذا النزاع في كلمات الله وأفعاله.
فيقولون: إن الرب لم يزل متكلما إذا شاء، وكلمات الله دائمة قديمة النوع عندهم لم تزل ولاتزال أزلا وأبدا، وقد بسط هذا وما يناسبه في موضع آخر، وذكر بعض ما في ذلك من أقوال أئمة السنة والحديث.
وأما ما يذكره كثير من أهل الكلام عن أهل الملل المسلمين واليهود والنصارى: أن الله لم يزل معطلا لا يتكلم ولا يفعل شيئا ثم حدث ما حدث من كلام ومفعولات بغير سبب حادث!
فهذا قول لم ينطق به شيء من كتب الله لا القرآن ولا التوراة ولا الإنجيل ولا الزبور، ولا نقل هذا عن أحد من أنبياء الله، ولا قاله أحد من الصحابة أصحاب نبينا ﷺ ولا التابعين لهم بإحسان.
ولكن الذي نطقت به الكتب والرسل: أن الله خالق كل شيء، فما سوى الله من الأفلاك والملائكة وغير ذلك مخلوق ومحدث كائن بعد أن لم يكن، مسبوق بعدم نفسه، وليس مع الله شيء قديم بقدمه في العالم لا أفلاك ولا ملائكة؛ سواء سميت عقولا ونفوسا أو لم تسم».
ومن خلال ما ذكره ابن تيمية هنا: يظهر للجميع أنه رحمه الله قد نفى كون الفعل مقارنا لفاعله، بل قرر أنّ الخالق تعالى قديم بذاته وصفاته، وأن ما سواه محدث مخلوق مسبوق بالعدم، وأن قدم صفة الخلق لله تعالى كمال؛ بخلاف من قرر تعطيل الخالق زمنا، وبهذا أبطل رحمه الله: قول الفلاسفة الدّهريّين القائلين: بقدم العالم، وأبطل قول أهل الكلام القائلين: أنّ الأثر مقارن للمؤثر التام!
ثم بيّن رحمه الله: أن دوام خالقيّة الباري تعالى لا تقتضي قدم شيء من المخلوقات، بل أنّ كل مخلوق: فهو مسبوق بالعدم.
وعليه؛ فإن القول بوجود نوع لا نهاية، لا يلزم منه محذور شرعي وعقلي!
ومن قال: يلزم منه محذور شرعي!
فهو مخطيء عقلا وشرعا؛ لأن النعيم والعذاب في الجنة والنار أبديان شرعا، فهما أبديان في النوع لا في الفرد، فالأفراد تنتهي؛ فانتفاء المحذور في قولنا: بما لا نهاية له في النوع، فكذلك لا محذور عند قولنا: بقدم النوع المتعلق بالأزل عقلا.
بل قولنا: إنّ استمرار نوع المخلوق في الأبد مع افتقاره لخالقه وأنه مسبوق بالعدم: لايلزم منه محذور بإطلاق الأبدية على نوع المخلوق.
ومن يقل بخلاف ذلك: لزمه القول بفناء الجنة والنار، وغيرها من المخلوقات التي كتب الله تعالى لها أن تتنعم إلى ما لا نهاية، أو تتعذب الى ما لا نهاية، وهذه المخلوقات بأجمعها مفتقرة الى الله تعالى، ولا تقوم على شأنها بنفسها، بل القائم عليها في شؤونها ومايتعلق بها هو الخالق سبحانه وتعالى، فلا محذور من أن يكون مثل هذا الشيء في الأزل مع افتقار المخلوق، وحاجته لمولاه، وأنه مسبوق بالعدم، فيكون قدم نوع المخلوق نسبيا باعتبار تعلقه بأثر صفة الخلق لله تعالى، وذلك لأن الله تعالى فعّال لما يريد، يخلق ما يشاء، والأثر لصفة الخلق: هو المخلوق المسبوق بالعدم.
فابن تيميّة رحمه الله: قد بيّن أنّ المخلوق مسبوق بالعدم، وأن الفاعل لا يكون مع المفعول، والفاعل سابق للمفعول، وأنّ الأثر لا يكون إلا مسبوقا بالمؤثر، فدل ذلكعلى أنّ كل مخلوق: فهو حادث، ومسبوق بالعدم، والخالق تعالى متفرد بالأزل والقدم.
وهذاما أكّده ابن تيميّة رحمه الله في «منهاج السّنّة النّبويّة» (1/176) بقوله: «وإنّما النّزاع في نوع الحوادث: هل يمكن دوامها في المستقبل والماضي، أو في المستقبل فقط، أو لا يمكن دوامها لا في الماضي ولا في المستقبل على ثلاثة أقوال معروفة عند أهل النّظر من المسلمين وغيرهم.
أضعفها قول من يقول: لا يمكن دوامها لا في الماضي ولا في المستقبل: كقول جهم بن صفوان، وأبي الهذيل العلّاف.
وثانيها قول من يقول: يمكن دوامها في المستقبل دون الماضي: كقول كثير من أهل الكلام من الجهميّةوالمعتز لة، ومن وافقهم من الكرّاميّة والأشعريّة والشّيعة، ومن وافقهم من الفقهاءوغيرهم.
والقول الثّالث قول من يقول: يمكن دوامها في الماضي والمستقبل: كما يقوله أئمّة أهل الحديث، وأئمّة الفلاسفة، وغيرهم.
لكن القائلون بقدم الأفلاك: كأرسطو وشيعته، يقولون: بدوام حوادث الفلك، وأنّه ما مندورة إلّا وهي مسبوقة بأخرى لا إلى أوّل، وأنّ اللّه لم يخلق السّماوات والأرض وما بينهما في ستّة أيّام، بل حقيقة قولهم: إنّ اللّه لم يخلق شيئا، كما بيّن في موضع آخر، وهذا كفر باتّفاق أهل الملل: المسلمين، واليهود، والنّصارى.
وهؤلاء القائلون بقدمها يقولون: بأزليّة الحوادث في الممكنات.
وأمّا الّذين يقولون: إنّ اللّه خالق كلّ شيء، وربّه، ومليكه، وما سواه مخلوق محدث كائن بعد أن لم يكن: فهم يفرّقون بين الخالق الواجب، والمخلوق الممكن في دوام الحوادث، وهذا قول أئمّة أهل الملل وأئمّة الفلاسفة القدماء.
فهم وإن قالوا: إنّ الرّبّ لم يزل متكلّما إذا شاء، ولم يزل حيّا فعّالا؛ فإنّهم يقولون: إنّ ما سواه مخلوق حادث بعد أن لم يكن».
ثم أننا إذا قلنا: هل نوع الحوادث ممكن، أم ممتنع أزلا؟
فمن قال: ممتنع!
قلنا له: هل أصبح ممكنا بعد أن كان ممتنعا؟
فإن قال: هو ممكن.
قلنا له: فلماذا أنكرت صفة الإمكان، وهو ما يقدره العقل أزلا، مع دلالة الشرع عليها أيضا، فما يقدره العقل من دوام الإمكان أزلا فلا يمنعه؛ لاسيما إذا قلنا: أن أثر صفة الخلق لله تعالى يعقبه أثره عقلا وشرعا.
وعليه؛ فقد أكثر ابن تيميّة رحمه الله القول في كتبه وفتاواه على أنّ الله تعالى: متفرّد بالأولية والأزلية والقدم، وأن ما سواه: مخلوق حادث بعد أن لم يكن، فمن ذلك:
قوله رحمه الله في «الصّفديّة» (1/147): «ومن سلك الطرق النبوية السامية: علم أن العقل الصريح مطابق للنقل الصحيح، وقال بموجب العقل في هذا وفي هذا، وأثبت ما أثبتته الرسل من خلق السماوات والأرض في ستة أيام، وأن الله خالق كل شيء وربه ومليكه، ولم يجعل شيئا سوى الله قديما معه، بل كل ما سواه محدث كائن بعد أن لم يكن».
وقال أيضا في «الصّفديّة» (2/149): «فإن نفس كون الفاعل فاعلا: يقتضي حدوث الفعل إمّا نوعا وإمّا عينا.
وأمّا فعل ليس بحادث لا نوعه ولا عينه بل هو لازم لذات الفاعل: فليس هو فعل أصلا، ولهذاكان نفس علم الخلق بأن الشيء مخلوق: يوجب علمهم بأنه مسبوق بالعدم؛ إذ لا يعقل مخلوق مقارن لخالقه لازم لم يزل معه».
وقال في «منهاج السّنّة النّبويّة» (2/246): «وأمّا السّلف فقولهم: إنّه لم يزل متكلّما، وإنّه يتكلّم بمشيئته وقدرته.
وكذلك قالوا: بلزوم الفاعليّة.
ونقلوا عن جعفر الصّادق بن محمّد أنّه قال: بدوام الفاعليّة المتعدّية، وأنّه لم يزل محسنا بما لم يزل فيما لم يزل إلى ما لم يزل، كما نقل ذلك الثّعلبيّ عنه بإسناده في تفسير قوله: {أفحسبتم أنّما خلقناكم عبثا} [سورة المؤمنون: 115].
مع قول جعفر وسائر المسلمين وأهل الملل وجماهير العقلاء من غير أهل الملل: أنّ اللّه تعالى خالق كلّ شيء، وأنّ ما سواه محدث كائن بعد أن لم يكن، ليس مع اللّه شيء من العالم قديم بقدم اللّه».
وقال في «درء التّعارض» (4/227): «وعلى هذا؛ فكل ما سوى الرب حادث كائن بعد أن لم يكن، وهو سبحانه المختص بالقدم والأزلية، فليس في مفعولاته قديم، وإن قدر أنه لم يزل فاعلا، وليس معه شيء قديم بقدمه بل ليس في المفعولات قديم البتة بل لا قديم إلا هو سبحانه وهو وحده الخالق لكل ماسواه وكل ما سواه مخلوق كما قال تعالى: {اللّه خالقكلّ شيء} [الزمر: 62]».
وقال أيضا في «درء التّعارض» (2/267): «أنه لو قدر تسلسل المفعولات كتسلسل الأفعال: فما من مفعول ولا فعل إلا وهو حادث كائن بعد أن لم يكن، فليس مع الله في الأزل شيء من المفعولات ولا الأفعال؛ إذ كان كل منهما حادثا بعد أن لم يكن، والحادث بعد أن لم يكن لا يكون مقارنا للقديم الذي لم يزل.
وإذاقيل: «إن نوع الأفعال أو المفعولات لم يزل»، فنوع الحوادث لا يوجد مجتمعا، لا يوجدإلا متعاقبا.
فإذاقيل: «لم يزل الفاعل يفعل، والخالق يخلق» - والفعل لا يكون إلا معينا، والخلق والمخلوق لا يكون إلا معينا -: فقد يفهم أنّ الخالق للسماوات والإنسان لم يزل يخلق السماوات والإنسان، والفاعل لذلك لم يزل يفعله، وليس كذلك!
بل لم يزل الخالق لذلك سيخلقه، ولم يزل الفاعل لذلك سيفعله، فما من مخلوق من المخلوقات ولا فعل من الأفعال إلا والرب تعالى موصوف بأنه لم يزل سيفعله، ليس موصوفا بأنه لم يزل فاعلا له خالقا له، بمعنى: أنه موجود معه في الأزل».
وقال في «منهاج السّنّة النّبويّة» (1/376): «وهذا برهان مستقلّ في أنّ كلّ ما سوىاللّه محدث كائن بعد أن لم يكن، وأنّه سبحانه خالق كلّ شيء بعد أن لم يكن شيئا، فسبحان من تفرّد بالبقاء والقدم، وألزم ما سواه بالحدوث عن العدم».
وقال أيضا في «منهاج السّنّة النّبويّة» (2/121): «جميع المسلمين: يعتقدون أنّ كلّ ماسوى اللّه مخلوق حادث بعد أن لم يكن، وهو المختصّ بالقدم والأزليّة».
وقال في ردّه على ابن المطهّر في «منهاج السّنّة النّبويّة» (2/123): «فقول القائل: القديم الأزليّ واحد، وإنّ اللّه مخصوص بالأزليّة والقدم: لفظ مجمل!
فإن أراد به: أنّ اللّه بما يستحقّه من صفاته اللّازمة له: هو القديم الأزليّ دون مخلوقاته: فهذا حقّ».
وقال أيضا في «الصّفديّة» (2/23): «والأفعال نوعان: لازمة ومتعدية.
فالفعل اللازم: لا يقتضي مفعولا.
والفعل المتعدي: يقتضي مفعولا.
فإن لم يكن الدائم إلا الأفعال اللازمة، وأما المتعدية فكانت بعد أن لم تكن: لم يلزم وجود ثبوت شيء من المفعولات في الأزل.
وإن قدر أن الدائم: هو الفعل المتعدي أيضا والمستلزم لمفعول، فإذا كان الفعل يحدث شيئا بعد شيء؛ فالمفعول المشروط به أوّلا بالحدوث شيئا بعد شيء لأن وجود المشروط بدون الشرط محال: فثبت أنه على كل تقدير لا يلزم أن يقارنه في الأزل لا فعل معين ولا مفعول معين، فلا يكون في العالم شيء يقارنه في الأزل».
وقال في «درء التّعارض» (1/72): «فالذي يفهمه الناس من هذا الكلام: أن كل ما سوى الله مخلوق حادث كائن بعد أن لم يكن، وأن الله وحده هو القديم الأزلي ليس معه شيء قديم تقدمه، بل كل ما سواه كائن بعد أن لم يكن، فهو المختص بالقدم، كما اختص بالخلق والإبداع والإلهية والربوبية، وكل ما سواه محدث مخلوق مربوب عبد له.
وهذا المعنى: هو المعروف عن الأنبياء وأتباع من المسلمين واليهود والنصارى، وهو مذهب أكثر الناس غير أهل الملل من الفلاسفة وغيرهم».
** *
خلاصةموقف ابن تيمية من مسألة «قدم العالم»:
علم ممّا سبق أنّ شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله: يقررّ أنّ الخالق تعالى قديم بذاته وصفاته، وأنه متفرد بالأولية والأزلية والقدم، وأن ما سواه محدث مخلوق مسبوق بالعدم.
أنّه يقرّر أيضا: أنّ دوام خالقيّة الباري تعالى لا تقتضي قدم شيء من المخلوقات،بل كل مخلوق: فهو مسبوق بالعدم، كما تقدم.
أنّه يقرّر: القدم النوعي؛ بخلاف نوع الأفراد: فإنّ لكل فرد ابتداء وانتهاء.
فالقدم النوعي: هو قديم باعتبار تعلقه بأثر صفة من صفات االله تعالى، وهي صفة الخلق، والّتي تعدّ صفة من الصفات الإلهية القديمة أزلا؛ لذا كان تقرير قدم صفة الخلق لله تعالى كمالا للخالق تعالى؛ بخلاف من قرر تعطيل الخالق عن صفة الخلق زمنا؛ حيث اعتقد أنّه تعالى كان معطلا غير قادر على الفعل ثمّ صار قادرا.
أنّه يقرّر: أنّ الأثر لا يقارن المؤثّر، ولا يتراخى عنه، بل يعقبه مباشرة، وبهذا أبطل رحمه الله: قول الفلاسفة الدّهريّين القائلين: بقدم العالم، وأبطل قول أهل الكلام القائلين: أنّ الأثر مقارن للمؤثر التام!
أنّه يقرّر: أنّ المخلوق مسبوق بالعدم، وأنّ الفاعل لا يكون مع المفعول، والفاعل سابق للمفعول، وأنّ الأثر لا يكون إلا مسبوقا بالمؤثر، فدل ذلك على أنّ كل مخلوق:فهو حادث، ومسبوق بالعدم، وأنّ الخالق تعالى متفرد بالأولية والأزلية والقدم.
أنّه يقرّر: أنّ وجود نوع لا نهاية، لا يلزم منه محذور شرعي ولا عقلي؛ لأن النعيم والعذاب في الجنة والنار أبديان شرعا، فهما أبديان في النوع لا في الفرد، فالأفراد تنتهي، فانتفاء المحذور في قولنا: بما لا نهاية له في النوع، فكذلك لا محذور عند قولنا: بقدم النوع المتعلق بالأزل عقلا.
والحمدلله ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على عبده ورسوله الأمين.

كتبه
فضيلة الشيخ الدكتور
ذياب بن سعد آل حمدان الغامديّ
ليلة السبت الموافق (4/ربيع الثّاني/1444)
الطائف المأنوس