تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 3 من 3

الموضوع: التذوق الأدبي بين الشكل والمضمون

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي التذوق الأدبي بين الشكل والمضمون

    التذوق الأدبي بين الشكل والمضمون


    د. إبراهيم عوض





    كثيرًا ما نقول: إن العمل الأدبي يتألف من شكل ومضمون، مما قد يوحي بأن من الممكن فصل كل منهما عن الآخر، بَيْدَ أن شكل العمل الأدبي في الواقع لا يمكن أن ينفصل عن مضمونه، وإن اضطررنا في حديثنا النظري إلى الكلام عن كل منهما وكأنه مستقل عن صاحبه، ويترتب على هذا أننا حين نتذوق العمل الأدبي فإنما نتذوقه كله لا شكله فحسب، وهذا من الوضوح بمكان، بَيْدَ أن بعض الدارسين الذين يكتبون في هذا الموضوع يتوهمون أو يحاولون أن يوهمونا أن التذوق، والنقد الصحيح من ثم، ينبغي أن ينصبَّ فقط على الناحية الشكلية؛ أي: الجانب الفني، من العمل الأدبي، بغض النظر عن مضمونه، ولنضرب مثلًا توضيحيًّا مِن عالم الطعام فنقول: إننا لا نستطيع تذوق طبق من الأطباق إلا إذا أكلناه، أما مجرد معرفة الطريقة الفنية التي تم بها إعداده فلا يوصلنا إلى شيء، وبنفس الطريقة نقول: إننا حين نقرأ قصيدة أو قصة مثلًا فإن تذوقنا لها ونقدنا إياها لا يقتصر على الجانب الفني وحده من موسيقا وتصوير وسرد حوار وعقدة وما إلى ذلك؛ لأن هذا الجانب الفني لا وجود له في الحقيقة بعيدًا عن مضمون القصيدة أو القصة، ترى كيف يمكن أن توجد عقدة القصة مثلًا دون أن تكون هناك أحداثٌ تُرتب على هذا النحو أو ذاك؟ وكيف يمكن أن تكون هناك موسيقا في القصيدة منفصلة عن الألفاظ وتنسيقها بطريقة معينة؟ وهذه الألفاظ بدورها كيف يمكن الفصل بينها وبين ما تشير إليه مِن أشياء أو تدل عليه من أفكار أو تعبِّر عنه من مشاعر؟ العمل الأدبي إذًا كِيان واحد، كتلة واحدة، وإن استلزم الأمر في المناقشات النظرية أن نتحدث عن شكله ومضمونه بطريقة قد يُفهم منها إمكانُ انفصال كل منهما عن صاحبه.

    وعلى هذا، فإن التذوقَ الأدبي يشمل الجانبين معًا؛ أي: إنني حين أقرأ - على سبيل المثال - مسرحية أو مقالة أدبية فإن تذوقي لها لا يقف، ولا يمكن أن يقف، عند التشكيل اللغوي أو البناء الدارمي... فحسب، بل يمتدُّ إلى كل شيء في العمل من لغة وموسيقا وبناء فني وأفكار وعواطف وخيالات وقيَم اجتماعية أو سياسية أو دينية... وهلم جرًّا، ومِن هنا يراني القارئ دائمًا أقول وأكرر القول بأنه لا يوجد ذلك المنهج النقدي الذي يستطيع الزعم بأنه هو وحده المنهج الذي يمكننا من خلاله فهم النص الأدبي والتغلغل إلى كل أسراره الإبداعية، إن كل منهج من المناهج النقدية إنما يختص في العادة بجانب من العمل الأدبي، ومن هنا كان لا بد من الاستعانة بالمناهج النقدية جميعًا إذا أردنا أن يكون فهمنا وتذوقنا له أعمق، وإن لم يمنع هذا أن يعكف ناقد من النقاد في دراسة له، لهذا السبب أو ذاك، على جانب واحد أو اثنين مثلًا من ذلك العمل، لكن ذلك لا يعني، ولا ينبغي أن يعني، أن هذا هو كل ما هنالك مما يمكن أن يقال.

    إننا، لكي نتذوق أي نص أدبي، لا بد لنا من فهمه أولًا، وكلما كان فهمنا له أعمقَ كان تذوقنا له أقوى وأقرب ما يكون إلى المراد، وهذا الفهم يتطلَّب فَهْمَ ألفاظه وعباراته وتراكيبه وصوره، وما يتعرض له من موضوعات وقضايا، وما يصِفه من مناظر وأوضاع ومواقف... إلخ، وأي عجز عن فهم شيء من هذا سوف يؤثر سلبًا على عملية التذوق دون جدال، وعلى ذلك فنحن محتاجون إلى الاستعانة بالمنهج النفسي مثلما نحن محتاجون إلى الاستعانة بالمنهج الاجتماعي، ونفس الكلام ينطبق على المنهج اللغوي أو المنهج البنائي... إلخ، لكن هذا لا يعني أبدًا، كما يزعم ضيِّقو الأفق مِن النقاد الذين يريدون منا أن نتعبدَ مثلهم لمنهج نقدي بعينه، أن ما نقوم به في هذه الحالة هو عملية تلفيق بين مناهج لا يمكن التوفيق بينها بحال، بحجة أن كلًّا منها يستند إلى رؤية فلسفية لا تلتقي مع المناهج الأخرى؛ ذلك أننا لا نقول بأخذ هذه المناهج كما هي، بل على الناقد أن يَفرِزَ عناصرها فيُبقيَ على ما يراه صالحًا ويهمل الباقي، ثم يكون من جماع هذه العناصر الصالحة منهجه التكاملي، والحياة، وإن قامت على الفردية في جانب منها، تقوم في ذات الوقت على الجماعية والتعاون في الجانب الآخر، بل التضافر والتلاحم في كثير من الأحيان، فلماذا يشِذُّ النقد، أو بالأحرى يراد له أن يشِذَّ، عن سنَّة الحياة؟!
    ولعل من المفيد في هذا السياق أن أورد رأي جيروم ستولنتز فيما يجب على الناقد عمله تجاه العمل الأدبي الذي يدرسه؛ إذ "لا بد له، لكي يبين أن العمل جيد، من أن يوضح ما الذي يسهم في قيمته من بين عناصره، وهو قد يتحدث في هذا الصدد عن جماله الحسي أو وضوح بنائه الشكلي أو عن عمق الانفعال الذي يثيره أو دقة الحقيقة التي يعبر عنها، ولا بد له أن يتحدث في عناصر العمل فرادى، وكذلك في علاقتها بعضها ببعض"[1].

    والآن ما الذي يشدنا إلى الأدب ويثير شهيتنا إلى تذوقه؟ الواقع أنها أشياء كثيرة: فمثلًا عندما أقرأ "ملحمة جلجامش" أو "الإلياذة" أو بعض قصائد الشعر الجاهلي أو "ألف ليلة وليلة" فإنني أطَّلِع من خلالها على العالم الفكري والاعتقادي والاجتماعي والسياسي عند البابليين والإغريق وعرب الجاهلية ومسلمي العصور المتأخرة على التوالي، إن مثلَ هذه الأعمال تشبع فضولي الفكري، وتهيِّئ لي سوانح للعيش مع أولئك الأقوام والتغلغل في طوايا عقولهم ووجداناتهم وقيَمهم، مما يختلف كثيرًا أو قليلًا عما لديَّ، وهو ما من شأنه أن يُغنيَ حياتي وثقافتي ويغذِّي تطلعي الفطري إلى التعرف على أشياءَ جديدة كانت مجهولة لي، فضلًا عن اختلاف أوضاعها عما أعرفه، وما يؤدي إليه ذلك، ولو مؤقتًا، مِن القضاء على الملل والضِّيق الناتج من جَرْي الأمور حولي على وتيرة واحدة، لا تتغيَّر إلا ببطء شديد في العادة.

    إن حياتنا اليومية محكومة بأوضاع توشك أن تخنُقَ الخيال وتمنعه من الرفرفة في فضاء الله العريض، وإن قراءتنا لهذا اللون من الإبداع الأدبي يحررنا، ولو إلى حين، من هذه القيود المزعجة، فنعاشر السيكلوب، ذلك المخلوق الوحشي القبيح ذا العين الواحدة الذي يتصدى للبطل محاولًا أن يمسك به ويفترسه[2]، ونشاهد الحصان المجنَّح الذي يطير بصاحبه في الهواء، ونرى البلورة السحرية التي يشاهد فيها الأخ أخاه الموجود في بلاد سحيقة، ونصاحب الشاعر الجاهلي وهو واقف على أطلال حبيبته لا يرى من حوله إلا الرمال وبضعة مخلفات تافهة تركتها قبيلة الحبيبة وراءها لا قيمة لها في ذاتها، لكنها قادرة رغم هذا على زلزلة وجدانه، وإلا غرابًا أبقعَ هنا أو بقرة وحشية هناك مما أصبح جزءًا من الماضي الذي ولَّى واندثر ولم يعُدْ من المستطاع عودته بحال.

    ولا تقتصر هذه الجاذبية على الأعمال الأدبية التي تنقلنا إلى العصور الماضية لنعيش معها أساطيرها وخرافاتها وخوارقها وأوضاع مجتمعاتها البائدة، بل تمتد لتشمل كذلك الإبداعات التي تصور مجتمعات من عصرنا الحديث تختلف عن مجتمعاتنا، لنأخذ على سبيل المثال روايات القُصاص الإنجليز مثل "جوزيف أندروز" لفيلدنج، و"مرتفعات وذرنج" لإميلي برونتي، و"عودة ابن البلدة" لتوماس هاردي، إن هذه الروايات هي بمثابة نوافذ تنفتح أمامنا لنطل منها على عوالم كانت مغلقة في وجوهنا، عوالم يتحدث الناس فيها لغة مختلفة، ولهم عادات وتقاليد مختلفة، ويتحركون في أماكن ذات مناظر مختلفة: بأمطارها التي لا تكاد تكف عن الهطول، وثلوجها التي تغطي الحقول والبيوت بلونها الأبيض العجيب، وأشجارها وغاباتها التي ليست لنا بها معرفة، ويعيشون كذلك في بيوت مختلفة لها مداخنُ ومدافئ لا تعرفها بيوتنا... إلخ.

    وتمثِّل كتب الرحلات رافدًا آخر في هذا المجال، مَنْ مِنَ الذين قرؤوا رحلة ابن فضلان أو رحلة ابن جبير أو رحلة ابن بطوطة يستطيع أن ينسى النشوة التي استشعرها في صحبة هؤلاء المؤلفين العظام وهم يصِفون مشاهداتهم وتجارِبهم وأحاسيسهم وآراءهم لدى مرورهم بالبلاد التي جابوها أو اندماجهم مع أهليها، والمواقف التي عاشوها بين أظهُرهم، والمفارقات التي نتجت من اختلاف ثقافاتهم وخلفياتهم الاجتماعية والدينية عما يحيط بهم من أوضاع جديدة؟ بل إن كتب الرحلات التي وضعها الغرباء عنا وعن بلادنا ومجتمعاتنا لا تقل فتنة عن تلك التي كُتبت عن البلاد والأمم الأخرى، إن هؤلاء الغرباء، وإن لم يحدثونا عن أشياءَ جديدة علينا، يتناولون هذا الذي نعرفه، ولكن من زاوية جديدة وبإحساس لم نخبُرْه من قبل، ويلتفتون إلى أشياء لم تجذب أنظارنا قط، خالعين عليها أبعادًا تخالف ما تعودنا عليه... وهلم جرًّا، ولقد قرأت عددًا غير قليل من هذه الرحلات لمستشرقين ومبشرين وصحافيين ورجال سياسة من أمريكان وبريطانيين وفرنسيين وروس... إلخ، فكنت أشعر وكأنهم يتحدثون عن أمة أخرى غير الأمة التي أنتمي إليها؛ ذلك أن العادةَ التي أماتت دهشتنا تجاه الأشياء والأوضاع من حولنا ليس لها تأثير على هؤلاء الرحالة الأجانب الذين أصبحنا نرى الآن بأعينهم ونسمع بآذانهم، فإذا بنا نعود فنرحل بدورنا معهم إلى أوطاننا التي نعيش فيها منذ أن رأينا نور الدنيا، ونكتشفها من جديد كأنها بلاد لم يكن لنا بها علم ولا عهد من قبل، إن العبرة هنا بالإحساس والرؤية لا بالأشياء في حد ذاتها فقط.

    بل إن في المجتمعات التي ننتمي إليها بيئاتٍ لا نعرف عنها ولا عن تقاليدها وقيمها إلا القليل، وتتكفل الأعمال الأدبية التي تعرض لها بتجليتها وإطلاعنا منها على أشياء لم تكن متاحة لنا، كما هو الحال مثلًا في روايات إحسان عبدالقدوس عن بعض البيئات القاهرية التي لم يكن لنا نحن الآتين من الريف بها من صلة، ولا نعرف شيئًا عما يسود العلاقات بين الشبان والفتيات فيها من حرية غريبة علينا، وكما هو الحال أيضًا في بعض روايات نجيب محفوظ التي تصوِّر عالم الدعارة واللصوصية والإجرام، وكما هو الحال في رواية فتحي غانم "الرجل الذي فقد ظله"، التي تزيح الستار عن كثير من الخبايا والمؤامرات في عالم الصحافة والصحافيين، أو روايته الأخرى "الجبل" التي تعرِض جانبًا من جوانب الحياة في الصعيد مما نكاد نجهله نحن أهل الوجه البحري جهلًا تامًّا، وكما هو الحال في "النهر" لعبدالله الطوخي، الذي يقص علينا في عمله هذا تجرِبة السفر في النيل على سفينة شراعية برفقة بعض المراكبية من جنوب البلاد... إلخ، حتى الريف الذي ولدت ونشأت فيه وأعرف الكثير جدًّا عنه يستحيل على يد المازني في صورته الفكاهية التي يقدمها لنا عن حلاق القرية شيئًا جديدًا، إن هذا الحلاق الذي ظل يقص لنا شعورنا أعوامًا طوالًا نفاجأ به وقد أعاد قلم المازني تشكيله من جديد، فكأنه لم يحلق لنا قط ولم يسبق لنا أن رأيناه.

    إن هذه كلها وكثيرًا غيرها من المعلومات نجنيها من قراءة الإبداعات الأدبية، وهي، كما قلت، إحدى المُتَع التي تزودنا بها هذه الأعمال، ولعل من يتسرع فيعترض علينا بقوله: إننا نستطيع الحصول على مثل هذه المعلومات من الكتب غير الأدبية على نحو أسرع وأسهل وأكثر مباشرة، لكن هذا المتسرع ينسى شيئًا في غاية الأهمية، ألا وهو أن الكتب غير الأدبية تعرَى عن تلك الفتنة التي تزودنا بها إبداعات الأدب؛ إذ لا تمدنا إلا بمعلومات مجردة باردة، على عكس ما نجده في الأعمال الأدبية التي إنما تقدم لنا الحياة ذاتها بلحمها ودمها وسخونتها وصخبها وروائحها، فضلًا عن أننا حين ننظر أو نسمع فإنما يكون نظرنا وسمعنا من خلال عين الأديب وأُذنه، فهي رؤية عجيبة وسماع عجيب لا يستطيع الذين ليسوا بأدباء أن يخبُروهما بأنفسهم، لقد قرأت في بداية اهتمامي بالعقاد وإقبالي على مؤلفاته ورغبتي في معرفة سيرة حياته أنه كانت له تجرِبة غرامية مع فتاة شامية لعوب، تركت أثرًا لا يمحى على رأيه في المرأة، ثم قرأتُ بعد ذلك روايته "سارة"، التي بسط فيها تلك التجرِبة ذاتها، فهل هذه هي تلك؟ شتان ثم شتان! لقد كنت في الأولى أقرأ قراءة العقل النائي، أما في الثانية فقد وجدت نفسي في قلب المعمعة: أبتهج لابتهاج العقاد، وأحبس أنفاسي معه حين تمسك الحيرة بتلابيبه وتكاد أن تخنقه، وأتلظى في جحيم الشك كما يتلظى، ثم أشعر في نهاية المطاف بزوال الكابوس الجاثم على صدري عندما أراه، بعد العذاب الرهيب الطويل، قد استطاع أن يضع قلبه تحت قدمه مؤثِرًا على حبه التمسك بكرامته، فيا لها من ساعات مليئة - بل مشحونة - عشتها مع الرواية! فأين من هذا تلك المعلومات الفاترة التي لا تخاطب مني في العادة غير العقل الهادئ؟ ومع ذلك يصدِّع أدمغتنا هذه الأيام بعضُ النقاد، زاعمين أن لغة الإبداع الأدبي هي لغة تشكيل فقط، بخلاف لغة الحياة اليومية التي ليست سوى لغة توصيل كما يقولون، ترى بالله إذا لم تكن الإبداعات الأدبية تقوم، إلى جانب ما فيها من تشكيل جمالي، بمهمة التوصيل، فماذا نسمي هذا الذي نقرؤه في تلك الإبداعات مما أشرنا إلى بعضه لتوِّنا؟ إن مِن البشر فريقًا قد جُبلوا على الجدال والمماحكة والإصرار على إنكار البدهيات التي يراها حتى الأعمى، ويسمعها حتى الأصم! ولله في خَلْقه شؤون!

    ومما يعمَل الأديب أيضًا على توصيله، ويحرص القارئ على معرفته ويستمتع به، آراؤه في قضايا الحياة من دينية وفلسفية وسياسية واجتماعية وأخلاقية... إلخ، إن الأدباء هم من صفوة أهل الفكر والثقافة، أو هكذا ينبغي أن يكونوا، أو على الأقل هذا ما يتوقعه القارئ منهم، أو يُسعده أن يكونوه، ومن هنا كان حرصه على الإلمام بآرائهم وأفكارهم ومواقفهم نحو المسائل التي تَشغَله وتَشغَل الناس من حوله، وبخاصة أن عرضهم لهذه المسائل ليس عرضًا جافًّا كالذي يجده في الكتب العلمية والدراسات التحليلية، كما أنه لا يقوم على الترتيب المنطقي المفصل للمقدمات والنتائج وبسط الأدلة والجدال دونها في نزعة منطقية لا تخاطب إلا الذهن، وتتطلب منه اليقظة الشديدة، وقد تسبِّب له الإرهاق، فضلًا عن أنها لا تضع المشاعر في حسبانها، أو تعمل على فك الطاقات الخيالية من قيودها لتسبح في عالمها الرحيب العجيب، بل هو عرض حي يستولي على النفوس استيلاءً، فيوقظ الأحاسيس الغافية، ويؤجج الخيال المكبول، ويبعث في النفس نشوة وسحرًا[3].

    ومِن هذا الوادي مسرحية "أوديب ملكا"، التي أراد سوفوكليس أن يعبر فيها عن رأيه في القدر، وأنه واقعٌ واقعٌ لا محالة بصاحبه حتى لو اطلع عليه مسبقًا واحترس منه غاية الاحتراس واتخذ له جميع الاحتياطات الممكنة، وتمثِّل معلقة زهير بن أبي سُلمى موقفه من الحرب التي مزقت قبيلتي عبس وذبيان، ورغبته في إطفاء نارها التي كادت تأتي على الأخضر واليابس، كما تعرض رسالة "حي بن يقظان" لفيلسوفنا العربي المسلم ابن الطُّفيل رأيه في إمكان استقلال العقل البشري بمعرفة وجود الله وعظَمته وقدرته المطلقة، واليوم الآخر بما فيه من ثواب وعقاب، فضلًا عن مقدرة الإنسان، بوساطة هذا العقل، على مواجهة مشاكل الحياة والتغلُّب على الصعوبات التي تنجم كل يوم، وبالمثل تتضمن "رسالة التوابع والزوابع" لابن شُهيد أفكاره حول عدد من الموضوعات الأدبية والنقدية التي كانت تَشغَل رجال القلم في عصره، وفي رواية "سيلاس مارنر" نجد الكاتبة البريطانية الملقبة بـ"جورج إليوت" تحاول أن تنتصر للرأي القائل بأن العبرة في الأبوة ليست في مجرد الإنجاب، بل فيمَن يهتم بالطفل ويربيه ويحبه ويحوطه بألوان الرعاية حتى يكبَرَ، أما الأبُ الذي يتخلى عن ابنه وهو طفل صغير ولا يقوم بواجبات الأبوة فليس له الحق في أن يعود بعد أن يكبَرَ الطفل ويصبح رجلا ملء السمع والبصر والفؤاد، فيطالب باسترداده من ذلك الشخص الذي ظل طول عمره يؤوي ويُطعم ويسهر ويمرِّض ويغدق الحنان، والذي بهذا وبغيره يُضحِي هو الأبَ الفعلي لذلك الابن، وإن لم يكن أباه إنجابًا.

    وعندنا خُطب عبدالله النديم أثناء المعارك التي دارت رحاها بين العُرابيِّين والجيش البريطاني عشية احتلال الإنجليز لمصر عام 1982م، ثم خُطب مصطفى كامل بعد أن وقعت الواقعة ودنَّس هؤلاء الملاعين الأنجاسُ أرض الكنانة، وأطبق اليأس على القلوب، لقد بذل كل من الزعيمين غاية جهده لإشعال جذوة الوطنية في النفوس، وتحريض الناس على مقاومة المعتدي الغشوم، وبث الأمل في قلوبهم واستنهاض عزائمهم، ولنأخذ أيضًا قصة "الثائر الأحمر"، التي كتبها باكثير في الأربعينيات من القرن الماضي، وجسد فيها موقفه من الفكر الشيوعي الذي كان له آنذاك بريقٌ وهاجٌ يُعشي أبصار بعض المفكرين والأدباء العرب؛ إذ بيَّن أن المظالم الاجتماعية والسياسية من شأنها أن تشحن قلوب المكتوين بنارها حقدًا ورغبة في التدمير، وتزيغ عقولهم وتدفعهم إلى التمرد والعدوان على الدِّين والسلطان والرعية جميعًا بما يؤدي إليه ذلك من خسائر رهيبة في الأرواح والأموال، وأننا إذا أردنا أن نقضي على مثل هذه الآفة المُبيرة فلا بد من إشاعة العدل والرحمة والعمل على توزيع الثروة توزيعًا إنسانيًّا يضمن لكل فرد حقَّه في الحياة الحرة الكريمة، وهناك مسرحية "السلطان الحائر" لتوفيق الحكيم وما تصور مِن رأيه في أن الحاكم المثالي هو الذي إذا ألفى نفسَه فريسة للصراع بين العُنُوِّ للحق والخضوع للقانون وبين الرغبة في اللجوء للقوة لفرض هيمنته على رعيته بالباطل، لا تأخذه العزة بالإثم، بل ينتصر للقانون على القوة الغشوم.
    يتبع





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: التذوق الأدبي بين الشكل والمضمون

    التذوق الأدبي بين الشكل والمضمون


    د. إبراهيم عوض




    وفي قصيدة "هوامش على دفتر النكسة"، التي كُتبت عقب هزيمة 1967م، يهاجم نزار قباني الرئيس جمال عبدالناصر هجومًا مؤلمًا، منتقدًا سياسته الاستبدادية وقمعه للحريات واعتماده على الدعاية الطنانة الكاذبة التي لا تثمر إلا الكوارث، وقد تلهف الناس في ذلك الوقت عليها وأخذوا يتناقلونها ويرددونها، وهي، كما نرى، تعبير واضح عن رأي الشاعر السوري في الحُكم الاستبدادي الذي يستعيض عن الانتصارات الحقيقية بالشعارات المجلجلة، فتكون النتيجة هي الهزائم المروعة[4]، وأخيرًا، وليس آخرًا، فكلنا يعرف المغناطيسية التي كانت خطب الشيخ كشك تتمتع بها فتجذب جماهير المصلين أيام الجمع جذبًا إلى مسجده بحدائق القبة بالقاهرة ليستمعوا لآرائه في الأوضاع السياسية والاجتماعية والأخلاقية، ويستمتعوا بما فيها من فن خطابي فاتن، وبعد، فما هذه إلا شواهد عجلى سجلتها كما وردت على ذاكرتي وأنا أكتب هذه السطور، وهي ليست بدعًا في ميدان الأدب، بل يوجد منها الكثير والكثير مما يعرفه القاصي والداني، وإن أصر بعض من يمسكون بالقلم على إغماض عيونهم عنه ظانين أنهم بتجاهلهم إياه سوف يستطيعون إلغاءه من الوجود! ويا له من وهم!



    وهناك ألوان أخرى من المُتَع يخبُرُها بل يطلبها متذوق الأدب طلبًا، منها البحث عن السلوى والأمل، إن المأزوم أو الفاشل عاطفيًّا إذا قرأ قصيدة مثلًا أو قصة تتحدث عن مثل تجرِبته ومعاناته يُحس أنه ليس وحده الذي يقاسي الهجران والحرمان، فها هو ذا بطل القصة، أو الشاعر مؤلف القصيدة، يتلظى بنفس اللهيب الذي يحرقه، وكم هو صادق قول أحمد شوقي: "إن المصائبَ يجمعن المصابينا"! ذلك أن البلايا يخف محملها حين ينظر الإنسان حوله فيجد أن هناك مبلُوِّين مثله يتألمون كما يتألم، ويتطلعون إلى الخلاص مما هم فيه كما يتطلع، وقد يكون جزء من شعور الراحة الذي يحسه القارئ في مثل هذه الحالة راجعًا إلى أن ما يقرؤه ينسيه نفسه وآلامه، ويجعله ينشغل بآلام الشاعر أو بطل القصة، شأن من لا يعاني من شيء، فالقراءة في تلك الحالة أشبه بالمرهم الذي يوضع على الجرح فيلطف من قسوته، على أن العزاءَ الذي يجده القارئ في الإبداعات الأدبية لا يقتصر على ميدان الفشل العاطفي، فما أكثرَ ألوان الألم والعذاب التي تمتلئ بها الحياة! فهناك آلام اليُتم، وآلام الاضطهاد، وآلام الفقر، وآلام الإخفاق في الامتحانات، وآلام المرض، وآلام الشائعات الخبيثة التي تحاول اغتيال السمعة بالباطل، وآلام الترمل، وآلام الاحتلال... إلى آخر ما تَعِجُّ به الدنيا من مآسٍ ومواجعَ، أما إذا انتهى العمل الأدبي بنجاح البطل في قهر الصعاب التي تسد عليه طريقه والتغلب على الألم الذي يضنيه، أو بشَّر على الأقل بانفتاح أبواب الأمل، أو حتى بقُرب انفتاحها، كان ذلك قَمِينًا أن يجعله أكثر عزاءً، وأقدر على إمداد القارئ بأسباب الرضا، إن الذين تعرضوا لخيانة الأصدقاء أو الأتباع والأنصار يجدون في رواية "اللص والكلاب" لنجيب محفوظ متنفَّسًا عما قد تراكم في قلوبهم من الغم واليأس، فتراهم يتابعون ما يحدث لسعيد مهران بكل ما عندهم من اهتمام وتشوق، متعاطفين معه ومشفقين عليه ومتمنين له ألا يجترح من الأخطاء ما يوقعه تحت طائلة القانون، ومتوجسين من سقوطه في قبضة رجال الشرطة الذين يقتفون أثره في كل مكان، ومقدِّرين الحب والحنان اللذين تغدقهما عليه نور، وآملين أن يصغيَ لصوت ضراعتها له وإلحاحها عليه أن يترك طريق الانتقام والقتل الذي أوقعه فيما هو فيه، وأن يعيشَا معًا حياة هادئة هانئة، وساخطين على زوجته وصبيِّه اللذينِ غدرا به وهو في السجن وتزوَّجا بعد أن حصلت الزوجة على حُكم بالطلاق، وناقمين على رؤوف علوان، الذي كان يزين له طريق الحقد على الأغنياء، ويضع في رُوعه أن ما يسرقه منهم إن هو إلا استرداد لحقه الذي اغتصبوه منه هو وأمثاله، ثم لما أصبح صحفيًّا مشهورًا وودَّع حياة الفقر والعَوَز، وودع معها أيضًا أحقاد الشيوعيين وأفكارهم المدمرة، انقلب عليه بدوره وشرع يندد به ويصمه بالإجرام ويحرِّض على مطاردته والإمساك به والاقتصاص منه.

    وعلى نفس الشاكلة يجد الذين فقدوا ابنًا أو بنتًا لهم في السطور التي رثى بها المازني ابنته الصغيرة في مقدمة كتابه "في الطريق" سلوى، وأي سلوى، وإن آلمتهم في ذات الوقت، فكأنه ألمُ التطهير الذي تحدَّث عنه أرسطو في تحليله لتأثير المسرحيات المأساوية على مشاهديها، لقد قرأتُ هذا الرثاء المازني الفريد (الذي لا أبالغ أيَّ قدر من المبالغة إذا قلتُ: إنني لم أرَ له حتى الآن نظيرًا فيما قرأتُ من رثاء، سواء في أدبنا أو الآداب التي لي اطلاع عليها) وأنا في الرابعة والعشرين من عمري، وكنت آنئذٍ عزَبًا، فهزَّني مِن أعماق كياني، واخترتُه لأدرسه لطلاب قسم اللغة الفرنسية بآداب عين شمس، الذين كنت أعطيهم بعض المحاضرات في ذلك الحين، ثم كنت أعود إليه كلما وقع في يدي الكتاب المذكور، فأُلفِي له ذات التأثير الرجَّاج... إلى أن عثرتُ على نسخة من الكتاب عند أحد باعة الكتب القديمة في الصيف الماضي فاشتريتها، ثم بدا لي أن أجدِّد العهد بتلك السطور التي لا أدري بالضبط سرَّ تأثيرها الطاغي رغم بساطة ما يقوله المازني فيها، واقتصاره على إيراد إحدى ذكرياته مع فتاته الصغيرة حين كانت تدخل عليه وهو يكتب على المِرقم، فتسحب الورقة من الآلة الكاتبة وتضعها على وجهها... إلى آخر ما قال، وهو قليل وبسيط، وليس فيه دمعة تُذرف، ولا شهقة تُصعد، ولا كلمة عن وجيعة الفقد، ولا... ولا... وفتحت الكتاب وقلت لزوجتي: اسمعي ما يقوله المازني في رثاء ابنته، ثم شرعت أقرأ، وفي ظني أن الأمر لا يعدو استرجاع ذكرياتي مع سطور المازني، لكن ما إن توسطت الصفحة حتى أخذ صوتي يتهدج، وأنفاسي تبطئ، و... و... مما أترك للقارئ تخيله بنفسه، وهو قريب مما حدَث لزوجتي، وذلك رغم أننا، والحمد لله، لم نفقد، وأبتهل إلى الله ألا نفقدَ، أحدًا من أبنائنا، وإن نزلت أولُ بنت لنا سِقْطًا، ترى ماذا كنا فاعلين لو كنا قد مررنا، لا قدر الله، بنفس المحنة التي مر بها المازني؟ لقد مات المازني، رحمه الله، منذ أكثر من نصف قرن، وماتت معه آلامه الأبوية التي كان يحبسها في دخيلته ويدخرها للذكرى حين يخلو إلى نفسه، كما قال في كلمته عن فتاته، لكن أثرها المزلزل ما زال يفعل فعله بالقلوب: إيلامًا أول الأمر، ثم غَسْلًا للنفس بعد ذلك، وتطهيرًا لها من أدران الحياة اليومية وشواغلها التافهة الحقيرة التي تعمل على أن تخنقَ فينا مثل هذا الصوت الإنساني النابع من أعماق النفس البعيدة! أيصحُّ بعد هذا أن يقال: إن اللغة في الأدب ليست أداة توصيل؟

    وما دُمنا نتحدث عن السلوى التي تُمدنا بها بعض الأعمال الأدبية، فلعل من الملائم هنا أن نشير إلى الأدب الفكاهي بألوان طيفه المتعددة ما بين دعابة وهزل وتهكم وهجاء وتصوير كاريكاتيري، والحياة الإنسانية بطبيعتها كثيرة الأحزان والإحباطات والمخاوف والسأم والقلق، ولقد قال القرآن الكريم: ﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ ﴾ [البلد: 4]، فهي إذًا حياة مشقَّات ومكابدات، وإن لم تخلُ في ذات الوقت من مسرات ليست بالقليلة، إلا أن تطلُّع الإنسان إلى الكمال وكراهيته الفطرية للآلام والمنغصات يجعلانِ إحساسه بالجانب المظلم منها أشد وأحد، والبشر دائمًا ما يتطلعون إلى التغلب على أحزانهم وأوجاعهم وضِيق صدورهم، ويلتمسون إلى ذلك الوسائل التماسًا، ومن هذه الوسائل مطالعة الآداب الفكاهية التي تدفعهم إلى الضحك، أو ترسم الابتسامة على وجوههم على أقل تقدير، لتنسيَهم في غمرة الضحك أو الابتسام ما يعانونه من مزعجات الحياة حتى يستطيعوا مواصلة رحلتها، وإلا انفجروا قهرًا وكمدًا، وهذا أحد الوجوه التي تطالعنا بها الأعمال الأدبية ويقع عليها تذوقنا.

    ترى كيف كانت تكون الحياة بالنسبة لعشاق الأدب ومتذوقيه لو لم يوجد أمثال الجاحظ وأبي الشمقمق والحمدوني وابن الرومي وبديع الزمان الهمداني وعبدالعزيز البشري وحافظ إبراهيم والمازني ومحمود طاهر لاشين وسويفت وجوجول ومارك توين... إلخ... إلخ؟ لَكَمْ أضحَكَنا تصوير الجاحظ لبخلائه وهم يحاولون بأساليبهم الملتوية تسويغ آفة الشح البغيضة وتزيينها في أعيننا، وبخاصة عندما يلبَسون، تحت وطأة الظروف القاهرة، ثوب الجود والكرم، لكن طبيعتهم المتأصلة فيهم تأبى إلا أن تتمرَّد على هذه المحاولة المتعسفة، فتظهر في هذه الصورة أو تلك من صور البخل الذي يتخذ سمت التدبير والخوف من بَطر الإسراف! ولَكَمْ أضحكنا أبو الشمقمق بأشعاره التي يصور بها فقره وجوعه ورثاثة حاله وخلو بيته من الطعام حتى لتستأسد الجرذان الواغلة على هِرِّه لِما يعانيه الهِرُّ من هزال وضعف يُعجزانِه عن رد عدوانها، بله الصيال عليها وافتراسها! ولَكَمْ أضحكنا أيضًا الحمدوني الشاعر العباسي على الشاة العجفاء التي أهداه إياها أحد أصدقائه، فجعل منها مادة للتندير والتهكم بها وبمُهديها، فلا ينتهي من تصويرها الكاريكاتيري في مقطوعة من الشعر حتى يبدأ قطعة أخرى أشد مبالغة في السخرية وأمضى في إثارة قهقهاتنا، أما ابن الرومي فليس من الميسور نسيان مقطوعاته في الأحدب والفطائري وأمثالهما مما وقف عنده وأبدى افتتانه به عددٌ من كبار النقاد العرب المعاصرين، وهناك بديع الزمان الهمذاني ومقاماته التي بلغ فن الفكاهة في بعضها مقامًا عاليًا لا تسهُلُ مباراته، كما هو الحال في "المقامة المضيرية" مثلًا التي حازت إعجابَ نقادنا المعاصرين.

    ولا يسعني في هذا السياق أن أُغفِلَ محمود طاهر لاشين، الذي كان هو وأعماله القصصية موضوع أطروحتي في الماجستير أوائل سبعينيات القرن الماضي، والذي كثيرًا ما أضحكتني قصصه القصيرة، وأتاحت لي أوقاتًا هانئة في دار الكتب القديمة بوسط القاهرة؛ إذ رجعت إليه، رحمه الله، منذ سنوات قلائل فاستخرجت مجموعتيه "سخرية الناي" و"يحكى أن"، اللتين كنت اشتريتهما أثناء ذلك، وأقبلت على قراءتهما من جديد لأرى إلى أيِّ أحد كنت مصيبًا في إعجابي به وبفنِّه وفكاهته، فإذا بي أجد أنه أفضل كثيرًا مما ظننتُ في بداية شبابي؛ أسلوبًا وتصويرًا، وتشخيصًا وتهكُّمًا، حتى لقد عدتُ أقهقه ثانية، ولكن بجلجلة أقوى هذه المرة! أما المازني فحدِّثْ ولا حرج عن أستاذيته في هذا الباب، تلك الأستاذية التي تجعل منه هو نفسه موضوعًا للتهكم دون أن تتلطخ صورته رغم هذا في أذهاننا بما ينال منه أو يسيء إليه أدنى إساءة، اقرأ مثلًا ما كتبه في "صندوق الدنيا" عن تورُّطه في شراء كتاب لتعليم العربية للسائحين، ورغبته ألا تضيع النقود التي أنفقها على الكتاب هدرًا، وتقمُّصه مِن ثَم شخصية أحد السائحين، واستئجاره عربة حنطور ورطانته مع الحوذي بعربية مكسورة ملتوية، ورجوعه في كل خطوة إلى الكتاب للبحث عن الجُمل التي ينبغي استعمالها في هذا الموقف أو ذاك... إلى آخر ما كتب في ذلك الموضوع مما لا أملِك نفسي، وأنا أتذكره الآن، من الضحك ملء أشداقي منه رغم شحوبه في ذهني لتطاول الزمن!
    وفي باب الهجاء لا يمكننا، في مقامنا هذا، أن نتغافل مثلًا عن بعض نقائض جَرير والفرزدق، التي يتوارى فيها السِّباب الجارح مفسحًا مكانه للفكاهة المعجبة، أو عن رائية بشار في التهكم المصمي بذلك الأعرابي الذي حاول التحقير من شأن الشاعر الكبير وعبقريته، فانصبَّ عليه بصواعقه انصبابًا، أو عن "رسالة التربيع والتدوير"، التي طوى الجاحظ فيها معاصره أحمد بن عبدالوهاب ونشره، وفلطحه وثناه كيفما شاء له فنُّه العبقري، أو "الرسالة الهزلية"، التي صنع فيها ابن زيدون بابن عبدوس منافسه في حب ولادة ما صنعه الجاحظ بابن عبدالوهاب... إلى آخر القائمة الطويلة من ذلك اللون الهجائي في الشعر والنثر على السواء.

    وفضلًا عما مر، فقد يُقبِل المرء على العمل الأدبي هربًا من صخب الواقع إلى مشاهد الطبيعة التي تصورها بعض الإبداعات أُمًّا رَؤُومًا، تأخذ في صدرها أبناءها، وتمسح على قلوبهم وأحزانهم، أو عاتيًا جبارًا يبث الهول في النفوس، أو قد يقبِل المرء على العمل الأدبي رغبةً منه في صحبة الأبطال الرومانسيين الذين لا يعرفون الختل والمؤامرات، ولا ينحدرون إلى فاحش القول، أو دنيء السلوك، إن للواقع الذي نعيشه وطأةً ثقيلة على النفس بسبب زحامه وضجته وما يمتلئ به من انحراف وشرٍّ وضمائرَ ملوثة، وكثير منا يهفو إلى أن يفِرَّ مِن هذا العالم، ولو إلى حين، مُلقيًا بنفسه بين أحضان الطبيعة برقتها وسكونها، أو جلالها وجبروتها، وفي كثير من قصائدنا القديمة تطالعنا لوحات طبيعية ساحرة، بدءًا من الأطلال التي تبسط الوحدةُ والسكون عليها جَناحهما، ولا تقابل العينُ عندها سوى الرمال والنُّؤْي وبعض ما خلَّفته قبيلة الحبيبة وراءها من بقايا، أو ما أحدثته الريح والأمطار من خطوط في التراب، ومرورًا بالمشاهد التي تسجلها مصورة الشاعر وهو راكبٌ ناقته منطلقًا في الفيافي والقِفار، كقطعان الحُمُر الوحشية عند ينبوع ماء، أو السيول الهاطلة التي تجرف في طريقها كل شيء... وهلم جرًّا.

    وممن لا يصحُّ تجاوزهم في هذا المجال الشاعر الأموي ذو الرمة، الذي أبرز د. يوسف خليف في كتابه عنه مقدرته الفنية الفائقة في رسم اللوحات الآسرة لمشاهد الصحراء وحيوانها، كذلك لا ينبغي أن ننسى أيضًا المنظر الجميل الذي قدمه لنا أبو تمام لقُمرتين واقفتين على فَنَن شجرة تتساقيان كؤوس الغرام، أو الصورة العجيبة التي رسم فيها ابن الرومي الشمس وهي تجنح نحو المغيب كأنها مريض مُدنف قد وضع على الأرض خدًّا ضارعًا، أو أبيات المتنبي التي تصور بحيرة طبرية، أو أشعار البارودي في وصف جمال الريف المصري، أو قصائد الهمشري في مغاني صباه، أو الصفحات التي تناول فيها ابن فضلان بعض مشاهد الطبيعة في بلاد البلغار، أو تلك التي أبدعتها يراعة محمد حسين هيكل في تصوير القرية المصرية في روايته "زينب" بحقولها وجداولها وأشجارها وطيورها ولياليها المقمرة الساجية، أو تلك التي وصف فيها صالح مرسي من كتابه عن "البحر" أمواج الأُقْيانوس الهائجة والمواقف التي تأخذ بأنفاس ركاب الباخرة في ذلك الظرف العصيب، وبالمثل لا أستطيع أن أنسى لوحات تورجنيف عن الريف الروسي في القرن التاسع عشر، أو أوصاف توماس هاردي المسهبة للكنائس والجسور والأبنية الأثرية في الريف الإنجليزي، أو ما كتبه المستكشف سكوت عن القطب الشمالي والتجارِب والأهوال التي خاضها هو ورفاقه هناك وسط الأجواء الطبيعية الرهيبة، والمناظر الفذة التي ليس لها نظير.

    ومما يبحث عنه القارئ في الإبداعات الأدبية أيضًا الإثارة التي تهز النفس هزًّا، وتُخرجها من خمولها المعتاد، إن الحياة اليومية تخلو - إلى حد كبير - من التجارِب القوية التي يحس الإنسان معها بالامتلاء، وحتى عندما يمر أحدنا في الواقع بتجرِبة سعيدة أو مؤلمة فإنها تستغرقه بحيث لا يستطيع أن يتملاها براحته ويستخرج منها تلك النشوة التي يجدها في الأعمال الأدبية، كما أن تجارِب الحياة عادة ما تكون مهوشة غير واضحة المعالم والأطراف، بخلاف التجارِب التي تقدمها لنا إبداعات الأدباء؛ إذ يتم التركيز على عناصرها الأساسية مع نفي ما لا صلة له بها أو ما لا دور له واضح فيها، فضلًا عن أن كل شيء في هذه التجارِب يقدَّم لنا معلولًا ومترابطًا مع غيره، فإذا أضيف إلى ذلك أن التجرِبة التي يقدمها لنا العمل الأدبي لا يكتبها شخص عادي، بل أديب حباه الله بحساسية خاصة في الرؤية وفي الأداة على السواء، استطعنا أن نتبين السر في أن التجارِب التي تتضمنها الإبداعات الأدبية تتفوق عادة على تجارِب الحياة المباشرة؛ إذ تمدنا بالامتلاء والشعور المكثف بالنشوة.

    إن جميل بن معمر مثلًا في قصائده التي تصور حبه لبثينة إنما يركز على هذا الحب ونسمات السعادة التي تهب عليه بين الحين والحين وسط لوافح الجحيم التي يصطليها معظم الأوقات، فلا يتطرق إلى شواغل الحياة اليومية ولا إلى آلاف الأمور التي تقع له أو منه أثناء ذلك، بل تظل عينُه طوال الوقت مشدودة إلى العناصر الأساسية في تجرِبته العاطفية والمحور الذي تدور عليه هذه التجرِبة، ألا وهو حبيبته بثينة، إنها تجرِبة مصفاة مقطرة لا يختلط بها ما يشعشعها ويهوشها ويُفقدها خاصة التركيز، ومثل ذلك قصيدة مالك بن الرَّيب التي يَرثي بها نفسه، والتي تعزل القارئ عن كل شيء آخر مما لا علاقة له بما كان يشعر به الشاعر حين لدغته حيةٌ مقفله من خراسان، وأحس بالمنية تدنو منه في كل لحظة وقد فغرت فاهًا لتلتهمه وتغيبه في جوفها الرهيب، وقُل الشيء نفسه في همزية ابن قيس الرقيات التي يأسى بها على مصير قريش حين مزقها التناحر على الحُكم، فخاف أن يكون في ذلك فَناؤها بعد أن كانت ملء السمع والبصر مجدًا وانتصارًا ودفاعًا عن دين الله، فهو لم يعد يرى أو يسمع أو يحس إلا بهذه الفادحة التي اعتمد في تصويره لها على أسلوب الإلحاح والتضخيم حتى لم نعد نرى إلا ما يراه ونشعر إلا بما يشعر به، وعلى نفس الشاكلة ينتزعنا أبو تمام في بائيَّتِه من كل شواغل الدنيا، فلا يتبقى أمامنا إلا انتصار المسلمين في عمُّورية على الروم المعتدين الذين ظنوا أنهم يستطيعون إيذاء امرأة مسلمة مع الإفلات من التأديب والعقاب، إننا في هذه القصيدة نطير إلى أعالي السماء ونلامس النجوم شاعرين أن الكون كله يجلجل فرحةً بهذا النصر العظيم، وهو ما يشحن نفوسنا حماسة وابتهاجًا، ويخرجنا من حالة التخثر والتبلد التي تعترينا في كثير من الأحيان.

    وفي "رسالة حي بن يقظان" نصاحب بطل ابن الطفيل الذي ألقت به المقادير، مُذْ كان رضيعًا، بين الغزلان تحنو عليه وترضعه في جزيرة معزولة لا يؤنسه فيها صوت بشري، مجابهًا وحده كل التحديات والمعوقات، مجتهدًا أن يشبع حاجته إلى الطعام والملبس والمسكن، ومحاولًا أن يفسر الظواهر الطبيعية من حوله، إلى أن يتوصل إلى الإيمان بوجود الله وعظمته ووحدانيته، والإيمان بأن هناك ثوابًا وعقابًا في حياة أخرى بعد هذه الحياة... إلى آخر ما ذكره الفيلسوف المسلم في كتابه مما يمكن أن نرى فيه تصويرًا موجزًا ومكثفًا لمسيرة التاريخ البشري كله على ظهر الأرض لا حكايةً لأحداث حياة إنسان فرد بعينه، وتستولي الرهبة على نفوسنا ونحن نتابع ابن يقظان في هذا الجو الغريب مُذْ كان طفلًا رضيعًا حتى أصبح رجلًا ناضجًا، ومن الأعمال الأدبية التي تستثير أيضًا الخيال والتشوق والحيرة والقلق رواية "روبنسون كروزو"، وهي تقوم في أساسها على إطار مقاربٍ لقصة "حي بن يقظان"، إلا أنها، على العكس منها، تخلو من التفكير الفلسفي، كما أن فيها عددًا من المشاهد المرعبة؛ كمشهد المتوحشين وهم يلتهمون جثة بشرية ويتركون وراءهم عظامها مما لا وجود لشيء منه في رسالة ابن الطفيل، وفي هذا الصدد لا يصح أن نُغفل رائعة إميلي برونتي "مرتفعات وذرنج"، التي تهز النفس، بل تزلزلها زلزالًا، بما تضمه من شخصيات عنيفة غاية العنف في مشاعرها، غريبة أشد الغرابة في أطوارها وتصرفاتها، وبما تسرده من أحداث صاعقة، وبما تصفه من مشاهد تتجلى فيها عناصر الطبيعة في جبروتها، ولا ننسَ مشهد جثة كارولين في تابوتها حين استخرجه هيثكليف بعد موتها بزمن، وأخذ يتملى وجه حبيبته القديمة التي حُرِم منها وظل طول عمره مدلَّهًا في هواها، وفجأة هبت الريح فطيرت ذرات الوجه الذي كان قد تحلل رغم تماسكه الظاهري، فإذا بملامحه تضيع في لحظة مثلما تنطمس الخطوط المرسومة على صفحة الرمال مع ثورة العاصفة... والأمثلة كثيرة أكثر مِن أن تُحصى.
    يتبع
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: التذوق الأدبي بين الشكل والمضمون

    التذوق الأدبي بين الشكل والمضمون


    د. إبراهيم عوض






    ونأتي إلى الجانب الفني في الموضوع، وهو يتمثل في الألفاظ واختيارها، وفي التراكيب التي تنتظم فيها هذه الألفاظ، وفي العبارات التي تنتج عن هذه التراكيب، وفي الصور التي يشكِّلها الأديب، وفي الموسيقا التي يوفرها لعمله، وفي الشكل الذي يضفيه عليه، وفي الرُّوح التي يبثه إياها، إن الأديب يمتاز بحساسية لغوية لا تتوفر لغيره: فمحصوله المعجمي أوسع، ومقدرته على التمييز بين الصيغ المختلفة للفظ الواحد وبين التراكيب بعضها وبعض أعظم، ومن ثم كان من السهل عليه التقاط الكلمات التي تؤدي المعنى المطلوب، وتشعُّ بالإيحاءات المبتغاة، وكذلك بناء التراكيب وتشكيل الصور التي تكفل له التعبير عما يريد، واستخراج ما في اللغة من جرس موسيقي يعضد المعنى المقصود، وينقل ما يحيط به داخل نفسه من شحنات وجدانية، والاهتداء إلى أكثر الأشكال الفنية ملاءمة لعمله.
    لنأخذ على سبيل المثال كيف استخدم تأبط شرًا الفعل المضارع "أضرب" في وسط الأفعال الماضية التي يحكي بها ما وقع له مِن عراك مع الغول قائلًا:
    وإني قد لقيتُ الغولَ تَهْوي
    بسُهب كالصحيفةِ صَحْصحانِ


    فقلت لها: كلانا نِضوُ أَيْنٍ
    أخو سفر، فخلِّي لي مكاني


    فشدَّت شدةً نحوي فأهوى
    لها كفِّي بمصقولٍ يماني


    فأضربها بلا دهش فخرَّت
    صريعًا لليدينِ وللجِرانِ



    إن هذا التحوُّلَ مِن الماضي إلى المضارع لم يحدث فيما أتصور عبثًا، بل أراد الشاعر أن يوحي لنا بأن المعركة إنما تدور رحاها الآن تحت أبصارنا، وذلك بغية التركيز على ضربه للغول وإبرازه لنا[5].
    وفي وصف امرئ القيس لصاحبته أسماء بأنها:
    نزيفٌ إذا قامَتْ لوجه تمايلَتْ ♦♦♦ تُراشي الفؤادَ الرَّخص أن يتختَّرا

    يلفت انتباهَنا استخدامه لكلمة "نزيف" (أي "منزوفة") التي يصف بها بطء مِشية الحبيبة والعناء الذي تقاسيه من جراء السمنة، وما توحي به هذه الكلمة من أنها لم يعد لديها من الطاقة والجهد ما يمكِّنها من مجرد المشي، حتى إنها لتحاول أن ترشو قلبها لعله أن يتماسك فلا يخذلها[6].
    ولنقف كذلك أمام البيت التالي لعمرو بن كلثوم الشاعر الجاهلي المشهور الذي يفتخر فيه بشرب الخمر ردًّا على محاولة الملك الحِيري عمرو بن هند إهانته بتجاهله له عند أمره بإدارة كؤوس الشراب على الحاضرين:
    وكأسٍ قد شربتُ ببعلبَكٍّ ♦♦♦ وأخرى في دمشقَ وقاصرينا

    فقد ذكر الشاعر ثلاثًا فقط من المدن المشهورة آنذاك بتقديم الخمر للشاربين رغم أنه لا يقصد الاقتصار على هذه المدن وحدها، لكنها طبيعة الشعر، ولو كان كلامه نثرًا لقال: "بعلبك ودمشق وقاصرين و... و..."، وذكر غيرها من المدن، إلا أن الشعر لا يعرف عادة هذا التطويل، بل الشاعر الجيد هو الذي يدل بأخصر لفظ على أوسع المعاني وأحفلها بالتفاصيل؛ فالمهم هو أن يدفع بخيال القارئ في الاتجاه الذي يريده الدفعة الأولى تاركًا له مهمة القيام بالباقي، كذلك فظاهر الكلام في البيت أن ابن كلثوم لم يشرب إلا كأسًا واحدة في بعلبك، وكأسًا أخرى في دمشق وقاصرين معًا، لكن من غير الممكن أن يكون هذا هو قصده، وإلا فمعنى ذلك أنه، بعد أن شرب رشفات من هذه الكأس الثانية في دمشق، قد استبقاها حتى أكمل شربها في قاصرين، وليس هذا فعل الشاربين، بل المقصود: "وأخرى في دمشق، وثالثة في قاصرين ... إلخ"، ولكنها مرة أخرى طبيعة الشعر، ثم إن الشاعر لا يقصد أبدًا أنه شرب كأسًا واحدة فحسب في كل مدينة، بل الكأس هنا تعني كؤوسًا كِثارًا[7].

    ولنأخذ أيضًا قول عمر بن أبي ربيعة عن الفتيات اللاتي دبَّرن من وراء ظهره ميعادًا لمقابلته:
    فلما توافَقْنا وسلَّمتُ أشرقَتْ ♦♦♦ وجوهٌ زهاها الحُسْن أن تتقنَّعا
    فهو من بليغ الكلام وفاتنه، فهذه الوجوه (الوجوه لا الفتيات، لاحظ) قد بلغ إحساسها بحسنها وجمالها الحد الذي أبت معه أن تتنقب، فانظر كيف تشعر الوجوه بحسنها وتُزهى به وتأبى أن تتغطى، وكأنها بشر تدرك وتشعر وتريد![8].
    وفي بيت المتنبي الذي يقول فيه من مدحةٍ له في سيف الدولة:
    ودونَ سُميساطِ المطامير والمَلَا ♦♦♦ وأوديةٌ مجهولةٌ وهجولُ

    واصفًا المسافات الشاسعة التي كان على جيش سيف الدولة أن يقطعها في غزوه لبلاد الروم، نلاحظ مدى التوفيق العجيب في اختيار ألفاظ البيت كلها تقريبًا ذات مدَّات: "سميساط، المطامير، الملا، مجهولة، هجول" بما يعبِّرُ مِن خلال الجرس الموسيقي نفسه عن طول تلك المسافات، وعلى الشاكلةِ نفسِها يوحي الجرس الموسيقي، في قوله من نفس القصيدة عن القائد الحمداني: "رمى الدَّرب بالجرد الجياد إلى العدا"، وقوله عن تلك الجياد الجرد: "وكرت فمرت في دماء ملطية"، بوقع حوافر الجياد على الأرض وسرعة تتابعها: فتكرُّرُ الراء والدال والجيم في الشطر الأول يكاد أن يجسم هذا الوقع الذي نعبر عنه في العامية المصرية بقولنا: "دِرِجِنْ دِرِجِنْ دِرِجِنْ"، كما أن تتابع الراء مع تضعيفها في كلمتين متتاليتين تليها تاء ساكنة في الشطر الثاني يُشعرنا، بمنتهى القوة، بتتابع ذلك الوقع.
    ويقول العقاد في قصيدته "سلع الدكاكين في يوم البطالة" على لسان تلك السلع المحبوسة في الدكاكين المغلقة في ذلك اليوم والتي يرمز بها إلى البشر ورغبتهم في المجيء إلى الدنيا وإيثارهم الجارف للحرية والانطلاق، رغم ما يصاحبهما من شقاء وهلاك، على العدم وسكونه وخلوه من هموم الحياة وما تنتهي به في آخر المطاف من موت:
    في الرفوف تحت أطباق السقوف
    المدى طال بنا بين قعود ووقوف
    أطلقونا أرسلونا
    بين أشتات من الشارين نسعى ونطوف

    فانظر كيف جاء طول الجملة في البيت الثاني متوائمًا مع الشكوى من طول الحبس على الرفوف، على حين أن البيت الثالث يتكون من جملتين جد قصيرتين، كل منهما تشبه طلقة الرصاص، إيحاءً بشدة الضيق الذي لم يعد باستطاعة السلع تحمله أطول من ذلك، ثم تأمل أيضًا كلمتي "نسعى ونطوف" اللتين تذكراننا بشعائر الحج وتخلعان من ثمَّ، على الانطلاق المنشود، معنى القداسة التي لتلك الشعائر بما يوحي بتمسك السلع بقيمة الحرية بكل ما لديها من إيمان وحماسة جارفة[9].
    وفي رحلة ابن جُبير نجد وصفًا لعروس صليبية في موكب زفافها، وقد لبست أبهى زينتها وأخذت تتهادى بين رجلين يمسكانها من يمين وشمال ساحبة أذيال الحرير المذهب، وعلى رأسها عصابة من ذهب، وعلى لبتها شبكة من ذهب أيضًا، "وهي رافلة في حليها وحُللها تمشي فترًا في فتر مشي الحمامة أو سير الغمامة"[10]، فأي براعة في قوله: "فترًا في فتر" دلالة على تماديها في البطء والدلال! وليوسف إدريس عبارة لا أذكر أني قرأتها عند كاتب قبله، يقول فيها عن امرأة لحيمة: إنها كانت "تجلس واضعة فخذًا على فخذ" بدلًا من "واضعة ساقًا على ساق"، وذلك للإيحاء بما فيها "من شحم وبدائية"، كما تقول د. نعمات أحمد فؤاد[11].

    وهناك البناء الفني للعمل الأدبي، قصةً كان ذلك العمل أو مقالًا أو قصيدة أو غير ذلك: ففي الرواية مثلًا تطالب قواعد النقد الحالية الكاتب أن يتجنب كل ما لا صلة له بتطوير الحوادث إلى غايتها النهائية، وأن ترتبط هذه الحوادث بعضها ببعض، وألا يسمح لأي شخصية بالدخول فيها ما لم يكن لها دور تؤديه، وأن يكون سلوك كل شخصية متناسبًا مع مستواها الفكري والاجتماعي... إلخ، ثم يستوي أن تبتدئ الرواية من أبكر نقطة فيها أو من نهايتها أو من وسطها، أو أن تُروى بضمير الغائب أو بضمير المتكلم، المهم ألا يكون هناك تفاوت في التوقيت أو إحالة في الأحداث والتصرفات، ومن ثم يراني القارئ قد أخذتُ على طه حسين أنه ابتدأ روايته "دعاء الكروان" "المروية بقلم بطلتها أمينة" قبل النهاية بقليل، مع رواية الجزء المتبقي من أحداث الرواية على طريقة معلقي المباريات الرياضية؛ أي: روايتها أثناء وقوعها، وهو ما لا يمكن أن يكون؛ إذ ثمة فرق بين رواية ما أشاهده مما يحدث لغيري وبين روايتي كتابة لما يقع لي أنا، فليس هناك وجود لذلك الشخص الذي يعلق على كل ما يفعله ويقوله أولًا بأول، وفي ذات الوقت الذي يفعله فيه، فضلًا عن أن يكون هذا التعليق كتابة لا شفاهًا، كما أخذت عليه أنه لم يكن مقنعًا البتة في تصوير شخصية أمينة، التي كانت خادمة أمِّيةً فقيرة من أعماق الصعيد، فارَّةً من أهلها بعد أن قتل خالها أختها لتفريطها في شرفها، ثم استطاعت رغم ذلك كله، ورغم افتقارها إلى الذكاء والطموح وفراغ البال والوقت اللازم، أن تتعلم القراءة والكتابة من تلقاء نفسها، بل وأن تتعلم الفرنسية أيضًا من مجرد الاستماع إلى المدرس الخصوصي وهو يعلم بنت الأسرة التي تشتغل بخدمتها، وأن تصبح مدمنة للكتب إلى درجة الحرص على الانفراد بنفسها في إحدى الغرف لمطالعتها دون أن يقطع عليها أحدٌ لذة المطالعة[12].

    وقد تحدث جان برتلمي عن لذة التذوق الجمالي، تلك اللذة التي "تنتزعنا في هدوء وبقسوة في آنٍ واحد من ملابسات الحياة اليومية وتذهب بنا إلى حياة أفضل"، قائلًا: إنها حين تسلبنا من هذا العالم إنما "تكشف لنا عن عالم آخر، وتُعدنا لهذا النوع من الوجود الذي يتصف بالثروة والكمال والنشوة والهدوء الذي نهدف إليه شعوريًّا أو لا شعوريًّا... ولهذا كان التأمل الجمالي علاجًا عظيمًا لضجر الحياة"، وإن سارع فأكد أن هذه النشوة قصيرة العمر تنتهي بفراغنا من مطالعة العمل الفني الذي في أيدينا[13]، وبالنسبة للقصة مثلًا يرى إروين إدمان أنها تمكننا من المشاركة بخيالنا دون أن ندفع شيئًا مِن ثمن انتصارات شخصياتها أو خيبة آمالها، كما أنها تتحدث عن ألوان من الحب لم يسبق لنا معرفتها، وتساعدنا على أن نعيش حياتنا على نحو أكثر تركيزًا، وترهف تفكيرنا في الحياة والناس؛ فالقصَّاص - كما يقول - إنما يضمِّن أعماله القصصية فلسفته وآراءه في الحياة من خلال ما يورده من أحداث أو يصوره من شخصيات أو يقيمه من بناء[14].

    وبعد، فهذا هو ما يقع عليه التذوق في الأعمال الأدبية، وإذا كنا قد فرزنا عناصر الإبداع ما بين لغة وبناء ومضمون لقد كان ذلك لغرض الدراسة ليس إلا، أما في واقع الأمر فإن التذوق يقع على العمل الأدبي كله كتلة واحدة، ومن القراء مَن يتذوق ذلك العمل دون أن يُعنِّيَ نفسه بشيء منها، ومنهم من يكون متنبهًا لها، أو على الأقل يمكنه أن يضع يده عليها رصدًا وتحليلًا، وإن ظلَّ جانب من الذَّوق رغم ذلك يستعصي على التعليل، أو بعبارة إسحاق الموصلي: "تحيط به المعرفة، ولا تؤديه الصفة"، كذلك من الممكن أن يفوت بعض القراء التنبه إلى هذا العنصر أو ذاك من عناصر العمل الأدبي أو الشعور به بقوة على الأقل... إلخ، على أن هذه العناصر ليست متساوية في تأثيرها على جميع القراء، فلكل عمل ولكل قارئ ظروفه، بل لكل قراءة سياقها الخاص بها... وهكذا.

    لكن الشيء الذي لا يمكن التسليم به هو الزعم بأن من الممكن اقتصار التذوق على الجانب الفني من إبداعات الأدب، فضلًا عن القول بأن هذا اللون من التذوق هو أفضل ألوانه حسبما يُفهم من كلام محمد أحمد خلف الله عن تجارِب علماء النفس في هذا الموضوع[15]، إن العمل الأدبي هو، في الحقيقة، كالورقة الواحدة، وما الشكل والمضمون إلا وجهاها اللذانِ لا يمكن انفصال أحدهما عن الآخر، وفي هذا يقول جيروم ستولنتز: إنه "لا بد للناقد، لكي يبين أن العمل جيد، من أن يوضح ما الذي يسهم في قيمته من بين عناصره، وهو قد يتحدث في هذا الصدد عن جماله أو وضوح بنائه الشكلي أو عن الانفعال الذي يثيره أو دقة الحقيقة التي يعبر عنها، ولا بد له أن يبحث في عناصر العمل فرادى، وكذلك في علاقتها بعضها ببعض"[16]، وفي ذات الاتجاه يمضي إروين إدمان؛ إذ يتميز الشعر عنده، بل الأدب كله، بما فيه من موسيقا لغوية وبكونه في نفس الوقت قالبًا اتصاليًّا محرِّكًا للخيال، كما أن القصيدة، في رأيه، هي حُلم أو خيال تندمج فيه الصور والتأملات والأفكار في وحدة واحدة[17]؛ ذلك أن الشِّعر ليس موسيقا فحسب، بل كلمات ذات معانٍ لها قصد منطقي ومضمون نفسي وظلال إيحائية، وهذه الكلمات هي وسيلة الشاعر التي يعبر من خلالها عما استثار فكرَه وحرَّك وجدانه[18]، بل إنه ليهاجم مَن يزعمون وجود خصومة بين الفلسفة ذاتها والشعر، مؤكدًا أن الحيوية والحرارة تدِبَّان في الأفكار إذا ما نُظمت شِعرًا[19].

    ومن هنا فنحن لا نستطيع موافقة د. محمود البسيوني في قصره عمليةَ التذوق على الجانب الجمالي من العمل الفني وحده؛ إذ الذَّوق عنده هو "الاستجابة الوجدانية لمؤثرات الجمال الخارجية، هو اهتزاز الشعور في المواقف التي تكون فيها العلاقة الجمالية على مستوى رفيع فيتحرك لها وجدان الإنسان بالمتعة والارتياح"[20]، كذلك فهدف النقد الأدبي، في رأيه، "أن يكون مدخلًا للتذوق والاستجابة للقيم الجمالية المتوفرة في العمل"[21]، إن العملَ الأدبي[22]، في الواقع، لهو شيءٌ أوسع من مجرد التشكيل اللغوي أو البناء الفني؛ إذ يتضمَّن إلى جانب ذلك أفكارًا ومشاعرَ وخيالات ومواقف، لكن على نحو غير مباشر، وقد بين الأستاذ أحمد الشايب في كتابه "أصول النقد الأدبي" أن مقاييس ذلك النقد لا تنحصر في الجانب الشكلي وحده، بل تشمل العاطفة والخيال والفكرة والصورة الأدبية، وهذه هي عناصرُ الأدب كما يقول بحق[23].
    -----------------------------------

    [1] جيروم ستولنتز/ النقد الفني/ ترجمة د. فؤاد زكريا/ ط2/ الهيئة المصرية العامة للكتاب/ 1981م/ 570.

    [2] ولكنها معاشرة من بعيد، ولعل هذا هو سر حلاوتها وإمتاعها؛ إذ لا يصيبنا من ذلك السيكلوب وأمثاله أي ضرر.

    [3] لستُ بحاجة إلى القول بأنني إنما أتحدث هنا عن الأدباء الممتازين، أما أصحاب المواهب الضئيلة الضحلة فهم بطبيعة الحال لا يستطيعون أن يصلوا إلى هذا الأَوْج، ومن ثم لا يحظون برضانا، بل يثيرون نفورنا ويبوءُون بانتقاداتنا.

    [4] والطريف أن د. عبدالمنعم تليمة، في إحدى محاضراته أوانذاك قد تعرض بالنقد لتلك القصيدة، فكان اهتمامه كله منصبًّا على مضمونها السياسي وعلى موقف نزار الذي تحول فجأة من موضوعات المرأة والجنس إلى ميدان السياسة، ولم يتطرق إلى الجانب التشكيلي في القصيدة بأي حال، مما يؤكد أن ما يقوله عن أن مهمة الشعر "تشكيل" لا "توصيل" على ما سوف نرى هو مجردُ كلام نظري.

    [5] انظر كتابي "في الشعر الجاهلي - تحليل وتذوق"/ مكتبة زهراء الشرق/ 1418هـ - 1998م/ 13.

    [6] المرجع السابق/ 31.

    [7] السابق/ 69 - 70.

    [8] عن كتابي "في الشعر الإسلامي والأموي - تحليل وتذوق"/ مكتبة زهراء الشرق/ 1419هـ - 1999م/ 143.

    [9] انظر تحليل هذه الرائعة العقادية في كتابي "في الشعر العربي الحديث - تحليل وتذوق"/ مكتبة زهراء الشرق/ 1418هـ - 1997م/ 101 وما بعدها.

    [10] يجد القارئ الوصف الكامل للعرس والعروس في "رحلة ابن جبير"/ دار صادر ودار بيروت/ 1384هـ - 1997م/ 378 - 379.

    [11] د. نعمات أحمد فؤاد/ عرض رواية "العيب" ليوسف إدريس/ المجلة/ نوفمبر 1962م/ 115.

    [12] يحسن بالقارئ الرجوع إلى الفصل الثاني من كتابي "فصول من النقد القصصي"، الذي خصصته لنقد رواية طه حسين مكتبة الشباب الحر ومطبعتها/ 1986م.

    [13] جان برتلمي/ بحث في علم الجمال/ ترجمة د. أنور عبدالعزيز، ومراجعة د. نظمي لوقا/ دار نهضة مصر/ 383 - 38.

    [14] انظر إروين إدمان/ الفنون والإنسان - مقدمة موجزة لعلم الجمال/ ترجمة مصطفى حبيب/ مكتبة مصر/ 85.

    [15] انظر كتابه "من الوجهة النفسية في دراسة الأدب وتذوقه"/ ط2/ معهد البحوث والدراسات العربية/ 1390هـ - 1970م/ 55 - 69.

    [16] انظر إروين إدمان/ الفنون والإنسان - مقدمة موجزة لعلم الجمال/ ترجمة مصطفى حبيب/ 57 - 58.

    [17] المرجع السابق/ 64 - 65.

    [18] السابق/ 68 - 69.

    [19] السابق/ 80 - 81.

    [20] د. محمود البسيوني/ تربية الذوق الجمالي/ دار المعارف/ 1986م/ 49.

    [21] المرجع السابق/ 68.

    [22] وهو ما يهمنا في هذه الدراسة.

    [23] انظر أحمد الشايب/ أصول النقد الأدبي/ ط8/ مكتبة النهضة المصرية/ 1973م/ 32 وما بعدها، و76 وما بعدها.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •