انتصار المعنى والواقع الثاني في الأدب القيمي


خالد جودة أحمد






انتصار المعنى والواقع الثاني في الأدب القيمي

قراءة في رواية (عصفوران بين الشرق والغرب) لعبدالحميد ضحا



تُعَدُّ رواية (عصفوران بين الشرق والغرب) للكاتب/ عبدالحميد ضحا من أدب اللقاء الحضاريِّ من منظور عَقَديٍّ، فيناقش الروائيُّ في روايته قضيةً قديمة متجدِّدةً دائمًا، وهي قضية الشرق والغرب، وحقيقة اللقاء والانفصام بينهما، وأين الحقيقة في الانبهار ببريق الغرب، والافتتان بسحر الشرق؟ وأين تقع منابع السعادة بين أنهار النعيم الحضاري الغربي والتماسك الاجتماعي الشرقي؟ وأين مصبَّات الشقاء في التخلُّف والفساد الشرقي، والانحلال والشذوذ الأخلاقي الغربي؟ حيث اعتمر الفكر الإنسانيُّ بالآراء المتناقضة في البحث عن لقاء أو صدام الحضارتين، وآثَر الأديبُ أن يسلك سبيل الرواية للتعبير عن القضية، باعتبارها أكثرَ تأثيرًا، وأبلغَ وصولاً لاجتناء قصديَّتِه؛ مما وسم الروايةَ بعدد من السمات الموضوعية والفنيَّة، كما يلي:
ازدهرت الرواية بمحصول ثقافيٍّ يتعلَّق بموضوعها الأثير، والحقيقة أن الروائيَّ المتميِّز الذي يقوم بحشد ذاته في الكتابة بالقراءات العديدة في موضوع روايته، بما يجعلها أكثرَ تشويقًا وثراءً، وهذا الأمر مطلوب بشدَّة في الفترة الحاليَّة؛ حيث إن نسبة المقروئية ارتفعت بشكل لافت للرواية خاصة، بما يجعل من الرواية المعاصِرة مائدةً معرفيَّة إضافة إلي كونها وثيقةً فكريَّة وإنسانية، وبالطبع جمالية في المقام الأول، وحيث إن أدب الكاتب (عبدالحميد ضحا) هو أدب الفِكرة التي يريد إيصالها للقارئ، وكانت فكرتُه في روايته تلك ذاتَ ظلال تاريخية وعَقَدية وواقعية، فنجد الرواية احتشدت بنقول علي ألسنة أبطالها حول موضوعات تاريخية، وتقديم حصاد ملخَّصات فكرية حول عدد من القضايا والشواهد والشبهات والردود والأخبار، بل والأقوال المنصفة كاملةً لعدد من أعلام الغرب حول الإسلام ونبيِّه الكريم (صلى الله عليه وسلم)، وعبَّرت الرواية تعبيرًا شهيرًا ومحبَّبًا عن الجوع الرُّوحيِّ وغذائه الثقافي:
(وصار يلتهم الكتب كجائع كاد يهلكه الجوع، فوجد لحم ضأن مشويًّا أمامه) ص 108.

مزجت الرواية بين الشكل والمضمون فيما يتعلَّق بقوسين تقع بينهما الرواية، فعنوانها وصورة الغِلاف عتباتٌ مصاحبة أوَّليَّة تمثِّل التجسيد الحرفيَّ لمشهد الخاتمة، فـ"عصفوران" في العنوان تشير إلى كلٍّ من (يوسف)، و(مارتينا = عائشة) قُطْبَيِ الرواية والممثِّلينِ لكلٍّ من الشرق والغرب، يخطَّانِ مشهد الفراق في آخر سطور الرواية (عائشة: إذن فليحلِّق كل منا في بلاده ومجتمعه.. حيث يعرفه جيدًا، أنت هنا في الشرق الذي يحتاج إليك، وأنا هناك في بلادي الحبيبة، ولو اجتهدنا لربما جمعْنا الشرقَ والغرب يومًا، وعسى أن يكون قريبًا) ص 188، وأرى أن هذه الكلماتِ تمثِّل فلسفة الرواية التي لا تنظر إلى قضية الشرق والغرب بوصفها قضيةَ مفاصلة وتنافر ولقاء مستحيل (الشرق شرق والغرب غرب)؛ وإنما بوصف أن كليهما إنسانيَّةٌ معذَّبة بأدوائهما المميتة؛ فالغرب له داؤه والشرق له داؤه، والدواء واحد، فافترقا في الداء، والتقيا في استشراف الواقع الثاني القادم بالدواء، بطوق النجاة الذي تعبِّر جميع الرواية عنه وتتشيَّع له تمامًا؛ لذا لم يكن الفراق عن جفاء؛ بل عن حبٍّ ووفاء للإنسانية المعذَّبة ذاتِها؛ فإضافة إلى اللمسة الوطنية التي عبَّرت عنها مفردة (بلادي الحبيبة)، نجد السعي نحو توجيه الإنسانية إلى سبل نجاتها وطريق سعادتها، وهو المعنى الذي جسَّدته لوحة الغِلاف بشكل أنيق ومباشر.

وحيث إن الرواية تمثِّل (أدب الفكرة)؛ فهي قِيميَّة في المقام الأول، تَنشد موضوعًا بعَيْنِه مهيمنًا على ساحة الروائيِّ والراوي والمرويِّ عنهم جميعًا، فنجد الراويَ كلِّيَّ المعرفة، والرؤية السردية الخارجية من الطراز الأول؛ أي: الراوي المهيمن تمامًا على ساحات القصة، يعلم كل صغيرة وكبيرة، ويبشِّر بالقادم الروائيِّ، بل ويتدخَّل بالرأي والتعقيب والانحياز لوجهة نظر محدَّدة بالرواية يجاهِرُ بها، وفي نفس التوقيت، وفي أداء زمنيٍّ خطِّيٍّ، نجد عددًا من المرويِّ عنهم داخل النص الروائي، فجميعُ أبطال الرواية حكَّاؤون، يقدِّمون حكاياتِهم لبعضهم البعض، بدايةً من يوسفَ ومارتينا، كلٌّ منهما للآخَر في مُفتتَح الرواية، ونهايةً بـ"ديامس" مغنِّيَة الراب، ومرورًا بالشابِّ المصريِّ البائس المهاجر "حسن"، والفتاة المصرية المقهورة "كاميليا"، وغيرهم، وهي الوسيلة الأساسية في نهج الرواية لتضفير هذه الحكايات مجتمِعةً لتؤدِّيَ قصديَّةَ الرواية، كما أن هذه الوسيلةَ تعانق الحوارَ بين ثناياها، بين الراوي للحكاية والمرويِّ عنه، وتؤدِّي وظيفة قيام أبطال السرد بإفضاء وبَوْح مكنونات ذواتهم في الفضاء الروائيِّ، والحكاياتُ تلك تُعدُّ تنويعاتٍ ووجوهًا مختلفة لموضوع الرواية: (أين السعادة؟ وأين طوق النجاة من مآسي الشرق والغرب على أنواعها؟)، والبوح المتعدِّد - وهو الوَتَر المعزوف عليه في الرواية من المفتتَح حتى الختام - يمثِّلُ طريقًا فنيًّا لتجسيم المشاعر ووصف الآلام (يوسف: حينما يحكي الإنسان مأساته لمن يمكن أن يشعر به، تنهمر الكلمات كأنها دموع تنبع من أسى القلب، وجراح النفس، وضياع الروح!) ص 20، إضافة إلى وسيلة أخرى يستعملها الراوي العليم كُلِّيُّ المعرفة، وهي استعمال مؤشر لفظيٍّ للتعبير عن المناجاة الداخلية لشخصيات الرواية، مثل استعمال (يقتحم فكرَه خاطرة) ص 10، قبل أن تدور الكلمات في نفسه بالصفحة نفسِها من الرواية: (ألا يمكن أن تكون هذه الفتاة مخابرات، ....).

تتناول الرواية أيضًا في جانبها الموضوعي رحلة البحث عن المعنى بين الشرق والغرب، وهي فكرة أثيرة في علوم النفس والإنسان، يقول د. سيد صبحي: (إن انعدام العلاقات الحية (المعاشة) هو الذي يخلع على الوجود البشري إحساسًا عميقًا بالخواء، وإن الهبوط إلى مستوى (التشيُّؤ) حيث لا يكون هناك سبيل إلى استعادة الإحساس بالحياة وحب الحياة إلا بالعمل على تنشيط الروح البشرية التي من شأنها أن تجعله يفتِّش في نفسه عن أسمى ما فيه.. خبرته الإنسانية، وفطرته الطيبة، وقيمته التي أراد الله أن يكون عليها)، وسادت الروايةَ عشراتُ الشواهد التي تعبِّر عن هذه الثيمة، والتي مثَّلت أيضًا أزماتٍ جماعيةً لجميع شخوص السرد، نجتزئ منها أمثلةً قليلة:
(مارتينا: أنتم لا تعلمون حقيقة مأساتنا، لقد صوَّرونا لكم كذبًا أننا سعيدات وراضيات ...) ص 14.
(هل تعلم أن الملايين منا يتناولن أدوية ضد الاكتئاب، ونُبغض هذه الأفعال التي تراها دليل سعادتنا ...) ص 14.
(يوسف: هكذا نحن دائمًا.. نحاول الظهور أننا كاملون وسعداء ولاينقصنا شيء، وفي دواخلنا نيران مستعرة، لو خرجت من قلوبنا لأحرقت ودمَّرت) ص 20.

وإذا كانت رحلة البحث عن معنى هي أزمةَ الإنسان المعاصر، مُتْخَمِ المادية، ضائع الرُّوح، فإن مشكلة العالم "الأخير" الضائع الآخَر مشكلة فساد مهلِكة، وتخلُّف شنيع، دبَّجت الرواية صفحاتٍ من متنها شارحة لفكرة جاءت في تعبير أحد الباحثين (حين يتحول الفساد من انحراف فردي إلى بِنْيَة مجتمعية)؛ أي: "الإدارة بالفساد"، وكيف يتسبَّب هذا في تدمير أجيال وتُخْمةِ أخرى من الحرام؟! وبالطبع مرَّ الروائيُّ على مشكلة الهجرة غير الشرعية ومآسيها، يقول "حسن" أحد الضحايا الشباب الفقراء معبِّرًا عن (مآسي شباب مصر أم الدنيا) ص 31 : (حسن: لقد قتلوا الأمل، ولا ضوء في آخر النفق، فصرت أبحث عن أمل في الحياة أو أفقد الحياة .. صار كل شيء سواء، ظلام في ظلام، يأس فوق يأس، بؤس بعد بؤس، عسر دون يسر ..) ص 30

الصدفة في العمل الأدبي أمر مقبول؛ إذ إنه أمر طبيعي في واقع الحياة لا يمكِن إنكاره، والصحيح في الواقع أنها "قول القدر"، بمعنى أن الحياة ذاتَها بها تدابيرُ وإشاراتٌ عجيبة من القدر يعرفها الناس، ولمسها كل إنسان فطِن في عمره وواقعه، وكتب عنها بعض المفكِّرين والأدباء في آثارهم الأدبيَّة؛ لذا أرى أن لقاءاتِ الصُّدفة في الرواية مبرَّرة ويمكِن قبولها؛ مثل لقاء يوسف وحسن المصريَّينِ قدَرًا؛ حيث إن هناك منطقًا في اللقاء (يذهب يوسف إلى إحدى الكافتيريات التي يتجمع فيها المصريون والعرب ..) ص 26، بينما نجد لقاءاتٍ أخرى بين شخصيات الرواية تَبرُز فجأةً لساحة الرواية؛ وذلك لهدف روائيٍّ أصيل لدى الروائي، بإيجاد تنويع جديد يريد به تغطية الفكرة التي يصبو إليها من روايته؛ مثل لقاء "مارتينا" و "كاميليا" (ص 53)؛ ليدخلا مباشَرةً في غمار الحوار الفكري، ومنها التحوُّل المباشر في مجرى تفكير شخوص الرواية؛ فيوسف يقرِّر (ص80) أنه وُلِد من جديد لأجل هدفه الجديد، ومنها (ص 89) حيث تفتح كاميليا المصحف فتجد أمامها مباشرة الآية الكريمة التي يريد الروائي الاستشهاد بها، ولو قالتها "فاطمة" التي التقت بها "مارتينا" - في سبيل إرشادها مثلاً - لكانت أوفقَ وأكثرَ منطقيَّةً، ويبدو منطقيًّا مقولة مهندس "عمر" لـ"شوشو" في مفتتَح حديث بينهما مباشرة دون تمهيد، ويصعب تصوُّر أن يبدأ حديث أو يبدي إنسان رأيه هكذا مباشرة دون تمهيد، إلا إذا جاء هذا القول بعد موقف إنقاذ عمر لشوشو من التحرُّش والاغتصاب: (عمر: ما الذي أتى بك وحدك إلى هنا؟ وهل هذه ملابس تليق بفتاة؟) ص 94، وهكذا تراوحت الصدفة (بالمعنى الصحيح: القدرية في الواقع) في صفحات الرواية بين أحداث وتصرُّفات منطقية ومبرَّرة وطبيعية، يمكِن أن تتحقَّق في الحياة، وأخرى - في مواطنَ محدودةٍ - غريبةٌ في السياق بدون تبرير منطقيٍّ من وجهة نظري.

وتحاول الرواية التخفيف من شعلة الأسى الموقَد بها مآسي الشرق والغرب من خلال بعض المشاهد الساخرة؛ منها ما ذكره يوسف عن الغرب (عجيب أمر الناس هنا، إنهم مولعون بالغرابة والشذوذ!) ص 38، ففي أجواء الزواج الشاذِّ بين حسناء أوروبية "إنجي" وحمار حقيقيٍّ "جوني" تنسج الرواية مشهدًا بالغ السخرية ليوسف وهو يحضر الزفاف ببوكيه برسيم هديَّة للعريس، ويربِّت عليه ويضعه أمامه (يطلق جوني نهيقًا مفزعًا رافعًا رأسه، ومحركًا أنفه وشفتيه وذيله، ثم يكمل أكل البوكيه .. يرتفع صوت الحضور ضاحكًا ..) ص 43، وتصل المفارقة قِمَّتَها بين أناس يقتلون الملايين ويسومون الشعوب خسفًا ثم يتغنَّون في مبالغة لزجة بحقوق الحيوان، فنجد هذا الحوار الضاحك: (يوسف: منظر الزفاف سيكون رائعًا وأنت تركبين على جوني!
العروس: كيف أركب عليه؟! إن هذه أفعال المتوحشين الذين لا يراعون نفسية الحيوان وحقوقه!
يوسف: لا لا إنجي .. أرجوك لا تنظري هذه النظرة الضيقة .. في مصر عندنا يحمل العروس عروسه ليلة الزفاف، فلم لا تجعلين جوني يحملك؟

العروس بغضب: لا .. أنا سأسير بجواره) ص 43، ومشهد الخطأ في رقم الهاتف وبث أغنية الشوق لأم حسين بدلاً من عمر ص 138، ومبدأ (فصل الدين عن اللحم) في الغرب حيث يرفض الاتحاد الأوروبي انضمام تركيا له لعدة أسباب، منها ما جاء بقول الشخصية الروائية "عائشة": (انتهاك تركيا لحقوق البقر والخراف بذبحها بدلاً من الصعق الرحيم بالكهرباء، على اعتبار أن عددًا كبيرًا من البهائم قدَّموا عدة شكاوى لإخوانهم في الاتحاد الأوربي يتضررون فيه من الذبح، ويطالبون بصعقهم بالكهرباء!) ص 168، وغيرها من مواقف.

وفكرة موضوعية أخرى تردَّد صداها كثيرًا في الرواية عبَّرت عنها مارتينا مرَّةً: (يالها من مجتمعات متخلفة! للأسف أكثر ما يعيب الإسلام هم المسلمون، فهم لا يدركون قيمة الإسلام ..) ص 62، بما يجعل الرواية تقدِّم نقاشًا فكريًّا حول داء الإنسانية ودوائها وتبريرات غياب السعادة عن أفقها شرقًا وغربًا، وتعليقي أنه تجسيم لأزمة كبرى ضمَّنها قوله تعالى: ﴿ رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [يونس: 85].

كما جاءت بالراوية خلاصات من الحكمة، منها على سبيل المثال:
(يستطيع الإنسان أن يخدع بعض الناس بعض الوقت، ولكنه لا يستطيع أن يخدع كل الناس كل الوقت) ص 116
عبارة لافتة تمثِّل نافذة مضيئة لما يعرف بالواقع الثاني في الأدب القيمي، وهو ليس الخيالَ وليس الواقعَ المثال صعب المنال، بمعنى المدينة الفاضلة التخيُّلية، وليس الحُلمَ كتِقْنِيَةٍ روائية؛ بل هو الواقع المتحقق يقينًا في استشراف مستقبلي، ودلَّت عليه كثير من النصوص الشريفة، منها ما أتى في استشهاد الشخصية الروائية "عائشة" وهي تخاطب "كاميليا": (المعاني الجميلة ستنتصر مهما استحكم الخداع، ألم تقرئي الآية: "فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض") ص 117، وعانق الفكرة تحرير للمفاهيم؛ مثل مفهوم الزواج الصحيح، ومفهوم الحرية الصحيح، وغيرها.


بقي أن نقول: إن ما جاء بالنهاية من تقديم د. أمير صالح، هو تعقيب وليس بتقديمٍ؛ لمَوْطنِه في آخر الكتاب، وأؤيِّد بصفه عامَّة أن يكون التعليق على الكتاب الإبداعي في نهاية الكتاب وليس أوَّلَه، كما نقول: إن الأديب (عبدالحميد ضحا) علي الدرب السديد بوقدة الحماس في فؤاده لموضوعات قيميَّة مؤثِّرة ونافعة، وأنه يحصد وسائل فنية جيِّدة، وأن الرواية جاذبة للقارئ، تشدُّه في ثوب طباعيٍّ جيِّد، وإعلاء لقيمة الإتقان في اللغة والإملاء، وأسلوب منوَّع به محصول ثقافيٌّ خادم لقصديَّتِه الروائية.