لكن الغنى غنى النفس









كتبه/ ماهر السيد

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فكثير من الناس يظن أن الغنى ليس إلا كثرة المال من نقود وأسهم وعقارات وتجارات وغيرها، وعندهم أن من ليس كذلك فليس من أهل الغنى، لكن الرسول -صلى الله عليه وسلم- يلفت الأنظار إلى المعنى الحقيقي للغنى حين يقول: (لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ؛ وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ) (متفق عليه).

فكم من الناس عنده من أصناف المال الكثير، لكنه يعيش فقرًا حقيقيًا، فتراه دائمًا خائفًا مهمومًا، يسعى في زيادة ماله؛ خوفًا من الفقر، يبخل بالنفقة في أوجه الخير حتى لا يقل ماله، بل ربما قطع رحمه لنفس الأسباب، كما تراه متطلعًا إلى ما عند الآخرين، فمثل هذا يعيش فقرًا دائمًا ملازمًا له؛ لأنه لم يرض بما قسمه الله -تعالى- له، ولأن الدنيا في قلبه قد استقرت.

عَنْ مُعَاذِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ خُبَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمِّهِ، قَالَ: كُنَّا فِي مَجْلِسٍ فَجَاءَ النَّبِيُّ -صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ- وَعَلَى رَأْسِهِ أَثَرُ مَاءٍ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُنَا: نَرَاكَ الْيَوْمَ طَيِّبَ النَّفْسِ، فَقَالَ: (أَجَلْ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ)، ثُمَّ أَفَاضَ الْقَوْمُ فِي ذِكْرِ الْغِنَى، فَقَالَ: (لاَ بَأْسَ بِالْغِنَى لِمَنِ اتَّقَى، وَالصِّحَّةُ لِمَنِ اتَّقَى خَيْرٌ مِنَ الْغِنَى، وَطِيبُ النَّفْسِ مِنَ النَّعِيمِ) (رواه أحمد وابن ماجه، وصححه الألباني).

إياك والتطلع لما في أيدي الناس

فإن الله -عز وجل- يقول: (وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى) (طـه:131)، وها هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ) (رواه أحمد والترمذي، وحسنه الألباني)، معناه: اقنع بما أعطاك الله، وجعله حظك من الرزق؛ تكن أغنى الناس؛ فإن من قنع استغنى.

ولنتذكر هنا قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا) (رواه الترمذي وابن ماجه، وصححه الألباني).

وإذا رأيت من هو أكثر منك مالاً وولدًا فاعلم أن هناك من أنت أكثر منه مالاً وولدًا؛ فانظر إلى من أنت فوقه، ولا تنظر إلى من هو فوقك، وإلى هذا أرشد النبي -صلى الله عليه وسلم- حيث قال: (انْظُرُوا إِلَى مَنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلاَ تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ؛ فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لاَ تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ) (رواه مسلم).

للناس شأن ولك شأن

فالمسلم يعلم أنه وجد في هذه الدنيا لغاية عظيمة وهدف نبيل سامٍ؛ ألا وهو عبادة الله -تعالى-، وتعبيد الخلق للخالق -سبحانه-؛ ولهذا فإنه لا يتجاوز بالدنيا حدها؛ فهي عنده وسيلة وليست غاية، وعلى هذا المعنى العظيم ربى النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه -رضي الله عنهم-، وهذه قصة ربعي بن عامر مع رستم شاهدة على المعنى السامي والهدف النبيل، فقد طلب رستم من سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- أن يبعث إليه رسولاً يفاوضه قبل أن يبدأ القتال في معركة القادسية، فأرسل إليه المغيرة بن شعبة، فكان مما قاله لرستم: "إنا ليس طلبنا الدنيا؛ وإنما همنا وطلبنا الآخرة".

ثم بعث إليه سعد رسولاً آخر، وهو ربعي بن عامر، فدخل عليه، وقد زينوا مجلسه بالنمارق -الوسائد- المذهبة والحرير، وأظهروا اليواقيت واللآلئ الثمينة، وقد جلس على سرير من ذهب، ودخل ربعي بثياب صفيقة وسيف وترس وفرس قصيرة، ولم يزل راكبها حتى داس بها على طرف البساط، ثم نزل وربطها ببعض تلك الوسائد، وأقبل وعليه سلاحه ودرعه، فقالوا له: "ضع سلاحك"، فقال: "إني لم آتكم، وإنما جئتكم حين دعوتموني، فإن تركتموني هكذا وإلا رجعت"!

فقال رستم: "ائذنوا له"، فأقبل يتوكأ على رمحه فوق النمارق فخرقها، وكأنه يقول لهم عمليًا: "دنياكم هذه لا تغرنا فضلاً عن أن تشغلنا"، فقالوا له: "ما جاء بكم؟".

قال: "الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه، لندعوهم إليه، فمن قبل ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه، ومن أبى قاتلناه أبداً حتى نفضي إلى موعود الله"، قالوا: "وما موعود الله؟"، قال: "الجنة لمن مات على قتال من أبى، والظفر لمن بقي".

سبحان الله..! إنه وهو فقير لا يكاد يجد من الدنيا شيئا يتكلم عن غايته في هذه الدنيا، ومنها: إخراج الناس من ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة!

لقد كانت الدنيا إن أصابوها فهي في أيديهم وليست في قلوبهم، ولهذا لما طلب منهم النفقة بذلوا غير خائفين من الفقر أو القلة، فقد جاء عمر -رضي الله عنه- بنصف ماله، وجاء الصديق -رضي الله عنه- بماله كله، وجهز عثمان -رضي الله عنه- جيش العسرة.

فقر القلوب هو الداء

فقد جاء في بعض روايات هذا الحديث الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (يَا أَبَا ذَرٍّ، أَتَرَى كَثْرَةَ الْمَالِ هُوَ الْغِنَى؟) قال: قلتُ: "نعم يا رسول الله"، قال: (أَفَتَرَى قِلَّةَ الْمَالِ هُوَ الْفَقْرُ؟)، قال: قلت: "نعم يا رسول الله"، قال: (إِنَّمَا الْغِنَى غِنَى الْقَلْبِ، وَالْفَقْرُ فَقْرُ الْقَلْبِ) (رواه ابن حبان، وصححه الألباني).

ولهذا فإن من كان فقير القلب قد لا يبالي أربح المال من حلال أم من حرام، قد يغش في تجارته، أو يسرق إن سنحت له فرصة، أو يأخذ الرشوة؛ لأن حب الدنيا قد استقر في قلبه؛ فأفسد عليه هذا القلب، ومنعه القناعة بما رزقه الله -تعالى-.

وليس معنى كلامنا أن يمتنع الناس عن العمل والتكسب ومحاولة تحقيق الغنى بأوجه الكسب الحلال الطيب؛ فإن القناعة لا تمنع التاجر من تنمية تجارته، ولا أن يضرب المسلم في الأرض يطلب رزقه، ولا أن يسعى المرء فيما يعود عليه بالنفع؛ بل كل ذلك مطلوب ومرغوب؛ وإنما الذي يتعارض مع القناعة أن يغش التاجر في تجارته، وأن يتسخط الموظف من مرتبته، وأن يتبرم العامل من مهنته، وأن ينافق المسئول من أجل منصبه، وأن يتنازل الداعية عن دعوته أو يميِّع مبدأه رغبة في مال أو جاه، وأن يحسد الأخ أخاه على نعمته، وأن يذلّ المرء نفسه لغير الله -تعالى- لحصول مرغوب.

وكم من صاحب مال وفير وخير عظيم رُزق القناعة! فلا غشَّ في تجارته، ولا منع أُجَراءه حقوقهم، ولا أذل نفسه من أجل مال أو جاه، ولا منع زكاة ماله؛ بل أدى حق الله فيه فرضًا وندبًا، مع محافظةٍ على الفرائض، واجتناب للمحرمات، إن ربح شكر، وإن خسر رضي، فهذا قنوع وإن ملك مال قارون.

وكم من مستور يجد كفافـًا ملأ الطمع قلبه حتى لم يرضه ما قُسِم له! فجزع من رزقه، وغضب على رازقه، وبث شكواه للناس، وارتكب كل طريق محرم حتى يغني نفسه، فهذا منزوع القناعة وإن كان لا يملك من الدنيا إلا القليل.

السلف وغنى النفوس

ذكرنا فيما سبق أن الصحابة -رضي الله عنهم- كان غناهم في قلوبهم، فلم تأسرهم الدنيا، ولم يركنوا إليها، وعلى هذا قاموا بتربية من بعدهم؛ فكانت الثمار طيبة -بإذن الله-.

فقد أوصى سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- ابنه فقال: "يا بني، إذا طلبت الغنى فاطلبه بالقناعة؛ فإنها مال لا ينفد".

وسئل أبو حازم فقيل له: "ما مالك؟"، قال: "لي مالان لا أخشى معهما الفقر: الثقة باللّه، واليأس مما في أيدي الناس".

وقيل لبعض الحكماء: "ما الغنى؟"، قال: "قلة تمنيك، ورضاك بما يكفيك".

وكان محمد بن واسع -رحمه اللّه تعالى- يبل الخبز اليابس بالماء ويأكله، ويقول: "من قنع بهذا لم يحتج إلى أحد".

وكتب بعض بني أمية إلى أبي حازم -رحمه اللّه تعالى- يعزم عليه إلا رفع إليه حوائجه، فكتب إليه: "قد رفعت حوائجي إلى مولاي، فما أعطاني منها قبلت، وما أمسك منها عني قنعت".

ويقول عامر بن عبد قيس: "أربع آيات من كتاب الله إذا قرأتهن مساء لم أبال على ما أمسي، وإذا تلوتهن صباحًا لم أبال على ما أصبح:

- (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (فاطر:2).

- (وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) (يونس:107).

- (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَه َا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) (هود:6).

- (سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا) (الطلاق:7)".

ما أجمل القناعة!

من التزمها نال السعادة، وما أحوج أهل العلم والدعوة للتحلي بها؛ حتى يكونوا أعلام هدى ومصابيح دجى، ولو تحلى بها العامة لزالت منهم الضغائن والأحقاد، وحلت بينهم الألفة والمودة؛ إذ أكثر أسباب الخلاف والشقاق بين الناس بسبب الدنيا والتنافس عليها، وما ضعف الدين في القلوب إلا من مزاحمة الدنيا له، وصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حينما قال: (مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ وَلَكِنِّي أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ) (متفق عليه).

ولذلك كان من دعائه -صلى الله عليه وسلم-: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ قَلْبٍ لاَ يَخْشَعُ، وَدُعَاءٍ لاَ يُسْمَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لاَ تَشْبَعُ، وَمِنْ عِلْمٍ لاَ يَنْفَعُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَؤُلاَءِ الأَرْبَعِ) (رواه الترمذي والنسائي، وصححه الألباني).

قال النووي -رحمه الله- عن قوله: (وَمِنْ نَفْسٍ لاَ تَشْبَعُ): "استعاذة من الحرص والطمع والشَّرَه، وتعلق النفس بالآمال البعيدة".

جعل الله -تعالى- غنانا في قلوبنا، ووقانا جميعًا الطمع والبطر، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله وصبه أجمعين.