على هامش النقد في العصر الجاهلي


د. شاذلي عبد الغني إسماعيل



إن ما ورد لنا من لمحات نقدية - رغم قلَّتِها - لشعر العصر الجاهلي يكشف لنا عن الإجادة التي كان يجب على الشاعر أن يكون حريصًا عليها، سواء في اختيار الكلمات الأكثر قدرة على التعبير عن موضوعه، أو في الصورة التي يجب أن تتواءمَ مع الغرض، بحيث تكون تجسيدًا إبداعيًّا مميزًا للمعنى الشعري، أو الاعتناء بقوة الصياغة وطلاوتها، كذلك كان على الشاعر أن يكون حريصًا على البنية الموسيقية، وإلا فإن ألسنةَ النقَّاد الحِدَادَ جاهزةٌ للطعن، ورغم قلة الأمثلة النقدية فإن ما ورد منها يجعلنا نكتشف أننا أمام مجتمع يتمتع بقدرات نقدية يقِظة؛ فهو قادر على الالتقاط السريع لنقاط الخلل الفني، أو المقارنة والحكم بمجرد السماع الأول للنص، وقد تعددت الأسواق الأدبية التي كانت تحفِلُ بالشعراء وبعشَّاق الشعر وبالنقَّاد المحترفين، كما كثرت المجالس الأدبية، ولم تكن هذه فقط مواطن النقد، بل إننا نجد الشعراء يذهبون بأنفسهم إلى مَن يحكُمُ بينهم، كما أننا نجد أحيانًا نقادًا يذهبون إلى الشاعر لينبِّهوه إلى خلل فنيٍّ أصاب قصيدته، وفي الصُّوَر التي وردت إلينا نجد أنفسنا مرة أمام ناقد وشاعر محترف، ومرة أمام طفل صغير موهوب يُكتَب له أن يصبح شاعرًا شهيرًا، ومرة أمام امرأة تتمتع بقدرة نقدية مميزة، ومرة أمام جماعة ذات مزايا ثقافية خاصة تمكِّنُها مِن نقد النصوص الشعرية والحُكْم على درجة جودتها، وهذا كله يدل على اتساع عالَمِ النقد، بل إن ذلك يجعلنا نظن أن كل قصيدة تقال كان التابع لإنشادها هو نقدَها مِن شخصيات متعددة، لعله كان منهم مَن ينظر إلى الكلمات، ومنهم مَن ينظر إلى التركيب أو الصورة، ومنهم مَن يقارن بين أبيات فيها وبين أبيات في قصيدة أخرى تتفق معها في جانب أو أكثر، وهكذا، ولا شك - كما أسفلنا - أن ما وصل إلينا مِن النقد كالذي وصل إلينا مِن الشعر، قليلٌ، كما قال عمرو بن العلاء: "ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقلُّه، ولو جاءكم وافرًا لجاءكم علمٌ وشِعر كثير"[1].

وهاكم أمثلةً للنقد الذي ورد إلينا مِن العصر الجاهلي:
1- كان الشعراء والخطباء يجتمعون في سوق عكاظ كل عام، يعرِضون إبداعاتهم، وينتظرون آراء النقاد فيها، والحُكم لها أو عليها، وكانت تُضرَب للنابغة الذبياني قبَّةٌ حمراءُ مِن جِلد، وهذا يدل على احتفاء العرب بالنقد، وإعلائهم لشأن الناقد، ولا بد أن النابغةَ حكَمَ في الكثير من القصائد، وقارَن بين كثيرين من الشعراء، ولعل حكمَه كان مقترنًا بالتعليل في العديد منها مما لم يصل إلينا، ومما وصل إلينا مِن ذلك ورودُ الأعشى ميمون بن قيس، الذي أنشد قصيدتَه التي مطلعها:
ما بكاءُ الكبيرِ بالأطلالِ ♦♦♦ وسؤالي وما ترُدُّ سؤالي

ثم يأتيه بعد ذلك حسَّان فيُنشِده قصيدتَه التي مطلعها:
ألم تسأَلِ الرَّبْعَ الجديدَ التَّكلُّما ♦♦♦ بمدفعِ أشداخٍ فبرقة أظلَما

والتي فيها:
لنا الجفَناتُ الغرُّ يلمَعْنَ في الضُّحى
وأسيافُنا يقطُرْنَ مِن نجدةٍ دمَا


ولَدْنا بني العَنقاءِ وابنَيْ محرِّقٍ
فأكرِمْ بنا خالًا وأكرِمْ بنا ابْنَمَا



ثم يأتي الدورُ على الخَنْساء فتُنشِده قصيدتَها:
قذًى بعينِك أم بالعينِ عوَّارُ ♦♦♦ أمْ ذرَّفَتْ أنْ خَلَتْ مِن أهلِها الدارُ

فقال النابغة: لولا أن أبا بصيرٍ أنشدني قبلكِ، لقلتُ: إنكِ أشعرُ الجنِّ والإنس، فقال حسان: لأنا أشعرُ منك ومِن أبيك ومِن جدك، فقال له النابغة: إنك لشاعرٌ، لولا أنك قلَّلتَ الجفَنات فقلَّلتَ العدد، ولو قلتَ: الجِفان، كانأكثر، وقلت: يلمَعْنَ بالضحى، ولو قلت: يشرقنَ بالدُّجى، كان أبلغ، وقلت: يقطُرْن، ولو قلت: يجرين، كان أبلغ، وفخرتَ بما ولدتَ، ولم تفخَرْ بمن ولَدك، على أنك يا بني لا تحسن أن تقولَ:
فإنَّك كالليلِ الذي هو مُدْركي ♦♦♦ وإنْ خِلْتَ أنَّ المنتأى عنك واسعُ

هنا نجد التعليل الذي قليلًا ما نجده فيما ورد إلينا من قليل النقد الجاهلي، كما أننا نجدُ العبقرية النقدية التي تستمع للنص مرة واحدة فتتمكَّن مِن الحُكْم والتقييم والتعليل الذي يكشفُ عن الرؤية النقدية، أو المذهب النقدي الذي يرى أن المبالغةَ في رسم الصورة ضرورةٌ لتقوية الإحساس بها، ووجدنا بعد ذلك بعقودٍ مَن يدافع عن حسان ويرد على النابغة، لكن لا أحدَ بإمكانِه أن ينكر أننا في النهاية أمام ناقد فذٍّ يمكِنُ لآخرين أن يختلفوا معه، لكن لا يمكِن لأحدٍ أن ينكرَ تلك البديهة الحاضرة، التي تلتقط وتُفرِز وتعلِّل بسرعة البرق، والتي تلاحظ تفاوُتَ القوة الإيحائية بين الكلمات التي يجب أن تُنتقى بعناية حتى تُضاعِفَ مِن نقل الإحساس، وتقوية الشعور بالنص، ولعل هذه القدرةَ الخاصة في الملاحظة ودقة الحُكم وتعليله قد اشتهرت عن النابغة، أقول: لعلها أن تكونَ السبب الذي جعلهم يحتفون به ناقدًا، ويجعلون له مكانًا خاصًّا في أكبر أسواق العرب.

2- ومِن أمثلة النقد الذي يترتب على خطأ في اختيار الكلمة: تلك العبارة التي قالها طَرَفةُ وهو طفلٌ صغير يلعب مع الصبيان، فصارت مثلًا يُضرَب؛ حيث رُوِيَ أنه استمع للمسيب بن علس، وقيل: للمتلمس، في مجلس لبني قيس بن ثعلبة يُنشِد:
وقد أتناسى الهمَّ عند احتضارِه
بناجٍ عليه الصيعريَّةُ مكدمِ


كُمَيت كناز اللحم أو حِمْيريَّة
مواشكة تَنفي الحصى بملثمِ


كأنَّ على أنسائِها عِذق خَصبةٍ
تدلَّى مِن الكافورِ غيرَ مكمَّمِ



والصيعريَّة سِمة توَسم بها النوق باليمن، فلما سمع طرفةُ البيتَ قال: استنوَقَ الجملُ، قالوا: فدعاه المتلمس، وقال له: أخرِجْ لسانَك، فأخرَجه، فإذا هو أسودُ، فقال: ويلٌ لهذا مِن هذا، قال أبو عبيد: يُضرَب هذا في التخليط.
وقال الزمخشريُّ: إن طرَفةَ قال ذلك؛ لأن الكنازَ مِن صفات الإناث.
وعلى كلٍّ، فقد لاحَظ طرفةُ - الناقدُ الصغير العبقريُّ هنا - أن الشاعرَ قد اختار كلمةً لا تصلُحُ للسياق؛ فالشاعرُ يتحدَّث عن جمل، ثم يخونه الفكر فيأتي له بوصفٍ خاصٍّ بالنوق، فتخرج الكلمة الناقدةُ اللاذعة في السخريَّةِ مِن خطأ الشاعر، ومِن شدة سخريَّتها وتكثيفها في وصف الخطأ تصبِحُ مثلًا "يُضرَبُ للمخلِّط، الذي يكون في حديثٍ ثم ينتقل إلى غيرِه ويخلطه به، ولِمَن يظنُّ به غَناءً وجلدًا ثم يكون على خلافِ ذلك، قال الكُمَيت: "الطويل":
هزَزْتُكمُ لو أنَّ فيكم مهزَّةً ♦♦♦ وذكَّرْتُ ذا التأنيث فاستنوَقَ الجملْ"[2]

وقد لاحظ الشاعرُ قوةَ الملاحظة النقدية للصبي الصغير، كما لاحظ فصاحتَه وجَراءَتَه وقسوتَه في التعبير، فرأى أن هذه الصفاتِ لا بد أنها ستشكل نهايةَ صاحبها، وكانت النُّبوءة - كما يقول رواة القصة.

ومِن هذا النوع مِن النقد الذي يلاحِظ وقوعَ الشاعر في خطأ اختيارِ الكلمة: ما رُوِيَ مِن أن الأعشى قد أنشد قيس بن معدي كرب قصيدة في مدحه قال فيها:
ونُبِّئْتُ قيسًا ولم أَبْلُهُ ♦♦♦ كما زعَموا خيرَ أهلِ اليمَنْ

فعابه قيس لقوله: زعموا - والزعمُ مطيَّةُ الكذب، كما يقولون - فالممدوحُ هو الناقد هنا، وقد لاحظ أن الكلمةَ تتناقض مع غرض المدح، بل هي تنقُضُه مِن أساسه، وتجعلُه إلى الهجاء أقرب، وقد كانت هذه الكلمةُ سببًا في حرمان الشاعر؛ فالكلمةُ في النص الشعري هي الواجهةُ، أو العضو الأكثر بروزًا، التي إن لم يوفَّقِ الشاعرُ في انتقائها، ويلاحِظْ تواؤُمَها مع الغاية الشعرية، فإنها قد تُفقِد نصَّه بكليتِه بهاءَه ورونقَه وتأثيره.

3- وعن نقدِ الصورة والرؤية التي تعتمد على المقارنة تروي لنا كتب الأدب:
قصة احتكام علقمة الفحل مع امرئ القيسِ إلى امرأته أم جندب لتحكُمَ بينهما، فقالت: قُولَا شِعرًا تصفانِ فيه الخيل على رويٍّ واحد وقافية واحدة، فقال امرؤُ القيس:
خَلِيليَّ مُرَّا بِي على أُمِّ جُنْدَبِ ♦♦♦ لنَقضِيَ حاجاتِ الفُؤَادِ المُعَذَّبِ

وقال علقمة:
ذَهَبْتَ مِنَ الهِجْرَانِ في كُلِّ مَذْهَبِ ♦♦♦ ولم يَكُ حَقًّا كُلُّ هذا التَّجَنُّبِ

ثم أنشداها جميعًا، فقالت لامرئ القيسِ: علقمةُ أشعرُ منك، فقال: وكيف ذاك؟ قالت: لأنك قلت:
فللسَّوْطِ أُلْهُوبٌ ولِلسَّاقِ درَّةٌ ♦♦♦ وللزَّجْرِ منه وَقْعُ أَخْرَجَ مُهْذِبِ

فجهَدْتَ فرسَك بسوطك، ومَرَيْتَه بساقك، وقال علقمة:
فأَدْرَكَهُنَّ ثانِيًا مِن عِنانِهِ ♦♦♦ يَمُرُّ كمَرِّ الرائِحِ المُتَحَلِّبِ

فأدرك طريدتَه وهو ثانٍ مِن عِنان فرَسِه، لم يضرِبْه بسوط، ولا مَرَاه بساقٍ، ولا زجره، قال: ما هو بأشعرَ مني، ولكنكِ له وامقٌ! فطلَّقها، فخلف عليها علقمة، فسُمِّي بذلك الفحل، ويقال: بل كان في قومه رجلٌ يقال له: علقمةُ الخصيُّ، ففرقوا بينهما بهذا الاسم".

لا شك أن احتكامَ امرئ القيس وعلقمةَ إلى أم جندب لم يكن إلا لإدراكهما عِلمَها في الشعر، ومعرفتها بدقائقه وأسراره، ومِن ثم وثِقَا بقدرتها على النقد وإصدار الحكم، وقد كان، واتخذت من البداية خطواتِ الناقد الحصيف، الذي يعتمد على المقارنة الكاشفة؛ حتى يتمكَّنَ مِن إدراك التفاوت في القدرة على تشكيل بنية النص والإبداع في صناعة صوره ومعانيه، ويتأتى ذلك بوضوح مقنع حين يتَّحِد النصانِ في الموضوع والموسيقا، ومن هنا كان طلبُ الناقدة من الشاعرين أن يصُوغَ كل منهما نصًّا في وصف الخيل بذات القافية؛ فهما بذلك يتسابقانِ في حلبة واحدة؛ حتى تتمكن من الحكم بموضوعية، وحتى تستطيع أن تأتي بالحجة الشافية، وبعد استماعها جاء الحكم الذي كان نتاجَ ملاحظتها للتفاوت في تشكيل واحدة مِن صور النصين، نكرر: إن الطلبَ كان في وصف الخيل، فالمطلوب هو رسم الصورة المُثْلى، ولا شك أن علقمة برع في تقديم فرسِه، وأرانا بلفتةٍ ذكية مدى قوته وسرعته على الرغم مِن أنه كان ثانيًا مِن عِنانه، فما بالنا إذا لم يكن؟! أما امرؤ القيس فلم يحالفه خيالُه هنا، وأتى بصور متلاحقة جعلتنا أمام فرس عاجز ضعيف، لا يتحرَّكُ إلا عبر سَوط صاحبه ودرَّته وزجره، حتى رأينا صاحب "الصناعتين" يقول: "فلو وصَف أخسَّ حمارٍ وأضعفه ما زاد على ذلك"،[3] وصاحب "البديع في نقد الشعر" يقول متعجبًا وسائلًا: "فهذا غلط في صفتِه؛ لأنه لو كان حمارًا، لكان ذلك رديًّا في صفته، فكيف يصِفُه بذلك وهو هجنةٌ فيه؟"[4].

3- أيضًا كان هناك النقد الذي ينظر إلى الموسيقا التي عهِدها العربيُّ في القصائد، والحقيقة أن ما وردنا هنا يتعلَّقُ بعيب يختص بالقافية التي هي ركيزة نغمية، لها وقعُها على السمع، وتأثيرها في النفس، إضافة إلى أنه في القافية تكمن الكلمة التي تشتمل على الحروف التي تتكرر في نهاية كل بيت؛ فهي مكمَن تشوُّق أيضًا بالنسبة للسامع الذي يستطلع بأذنه ويدرك بعقله قدرة الشاعر على اختيار الكلمة التي يجب أن تكون في غاية التألُّق والتناسب والانسجام مع مكانها بحيث تبدو وكأنها خُلقت له، ولم تأتِ قصرًا أو عبثًا؛ حتى تحقق تأثيرها النفسي والوجداني والموسيقي الممتع للعقل والروح معًا، وما ورد إلينا من نقد جاهلي تحدث إلينا بشكل أدق عن عيب الإقواء - اختلاف حركات الروي - يقول الأخفش الأوسط: " أمَّا الإقواءُ فمَعيبٌ، وقد تكلمَتْ به العرب كثيرًا"[5].

يحدثنا ابن سلام عن واحد مِن أشهر شعراء الجاهلية، بل ومِن نقَّادها، وهو النابغة، فيقول: "ولم يُقْوِ مِن هذه الطبقة - أي: مِن شعراء الطبقة الأولى - ولا مِن أشباههم إلا النابغةُ في بيتين، قوله:
مِنْ آلِ ميَّة رائحٌ أو مُغْتدِي
عَجْلانَ، ذا زادٍ، وغيرَ مزوَّدِ


زَعَم البوارحُ أنَّ رحلتنا غدًا
وبذاك خبَّرنا الغُدافُ الأسودُ



وقوله:
سقَطَ النَّصيفُ ولم تُرِدْ إسقاطَهُ
فتناولَتْهُ واتقَتْنا باليدِ


بمُخضَّبٍ رخصٍ كأن بَنانَه
عَنَمٌ يكادُ مِن اللَّطافةِ يُعقَدُ


(العَنَم: نَبْتٌ أحمرُ يُصبَغ به).

فقدِم المدينة، فعِيبَ ذلك عليه، فلم يأبَهْ لهما، حتى أسمعوه إياه في غناءٍ - وأهل القرى ألطفُ نظرًا من أهل البدوِ، وكانوا يكتبون؛ لجوارِهم أهلَ الكتاب - فقالوا للجارية: إذا صِرتِ إلى القافية فرتِّلي، فلما قالت: الغُداف الأسود، ويعقد وباليدِ، علِم وانتبه، فلم يعُدْ فيه، وقال: قدمتُ الحجاز وفي شِعري صنعة، ورحلتُ عنها أشعرَ الناس"[6].

وفي القصةِ السابقة تبدو - بوضوح - الطبيعةُ العربية التي ترفض النشازَ، وتصرُّ إصرارًا على إصلاحه، ولا تيئَسْ، كما تظهرُ الحيلةُ اللطيفة في إيصال الرسالة النقدية، بحيث يبدو العيبُ أكثرَ وضوحًا، وممَّن كان يُقْوِي مِن شعراء الجاهلية بشر بن أبي خازم، الذي نبَّهه أخوه سوادة إلى ذلك العيبِ في شِعره.

والإقواءُ كما يقول الأستاذ طه إبراهيم: "أثرٌ مِن آثار طفولة الشِّعر، ودليل على أن العربيَّ لم يهتدِ مرةً واحدة إلى حركة الرويِّ؛ فذمُّه نوعٌ مِن البصرِ بالشِّعر، نوع مِن النقد قائمٌ على وَقْع الشِّعر في السمع، وعلى الانسجامِ والتماثُلِ في القافية"[7].

4- نرى أيضًا ما نظُنُّ أنه يمكن أن نسميَه: نقد البنية الأسلوبية أو التراكيب بكل ما تتطلَّبُه مِن قوة وإحكام، وما تستخدمه مِن جماليات، وإن لم نرَ فيه تعليلًا فإننا نعتقد أن ذلك لم يكُنْ عن عجزٍ - بدليل أننا رأينا تعليلاتٍ نقديةً حين يتطلب الأمر - كما حدث مع النابغة وحسان ومع أم جندب - ولعل عدمَ التعليل كان لإدراكِ الناقدِ لذكاء السامع ووعيِه ومعرفته، فإذا ظهر الاعتراضُ برَز التعليل، وتظهرُ هذه الرؤية في القصةِ التي تحكي لنا عن اجتماع "الزبرقان بن بدر والمخبل السعدي وعبدة بن الطبيب وعمرو بن الأهتم قبل أن يُسلِموا، وبعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، فنحَروا جَزُورًا، واشترَوْا خمرًا ببعير، وجلسوا يشوُون ويأكلون، فقال بعضهم: لو أن قومًا طاروا مِن جودة أشعارهم لطِرْنا، فتحاكَموا إلى أولِ مَن يطلُعُ عليهم، فطلع عليهم ربيعة بن حذار الأسدي، وقال اليزيدي: فجاءهم رجلٌ مِن بني يربوع يسأل عنهم، فدُلَّ عليهم وقد نزلوا بطن وادٍ وهم جلوس يشربون، فلما رأَوْه سرَّهم، وقالوا له: أخبرنا أيُّنا أشعَرُ؟ قال: أخاف أن تغضبوا، فآمَنوه مِن ذلك، فقال: أما عمرو فشعره برودٌ يمنية تُنشَر وتطوى، وأما أنت يا زبرقان فكأنك رجلٌ أتى جزورًا قد نُحِرَتْ، فأخَذ مِن أطايبِها وخلَطه بغير ذلك.

وقال لقيط في خبره، قال له ربيعةُ بن حذار: وأما أنت يا زبرقانُ، فشعرُك كلحمٍ لم ينضَجْ فيؤكل، ولم يُترَكْ نِيئًا فينتفع به، وأما أنت يا مخبل فشعرك شهبٌ من نار الله، يُلقيها على مَن يشاء، وأما أنت يا عبدةُ، فشعرك كمَزادةٍ أُحكِمَ خَرزُها فليس يقطُرُ منها شيء"[8].

هنا رؤية نقدية ترى للشعر لونًا وطعمًا وملمسًا، فنرى شعرَ عمرو بن الأهتم في قوة النسيج وحَبْكة الصياغة وجمال التصوير كأنها حُلَل يمانية، ولعل ذلك ما جعَلهم يقولون فيه: "إنما شِعره حُلَلٌ مُنشَّرة بين أيدي الملوك، تأخُذُ منه ما شاءت"[9]، أما الزبرقان ففي الرواية الأولى يراه الناقد يجمَعُ بين الجيدِ والرديء، أما في الثانية فكان الحكمُ أقسى؛ فشِعرُه غيرُ مستساغ.

ويبدو أن اشتهارَ المخبل بالهجاء وإتقانَه فيه وحَبْكته له هو الدافعُ لوصفه بأن شِعره شُهبٌ مِن نار الله يلقيها على مَن يشاء؛ ولذلك رأينا ناقدًا كبيرًا - هو ابن سلام - يقول فيه: "وللمخبل شِعر كثير جيد، هجَا به الزبرقان وغيره"[10]، وهو يجعلُه في الطبقة الخامسة مِن طبقات فحول الشعراء، ويصِفُه مرة بأنه "شاعر مفلق"[11]، ومرة أخرى بأنه "شاعرٌ فحل"[12].

أما عبدةُ بن الطبيب فقد كان "شاعرًا مجيدًا، ليس بالمكثر"[13]، ولعل قلةَ شِعره راجعةٌ إلى حرصِه على الإتقان، بحيث يخرج شِعره محكمًا قويًّا، أو كالمزادة أُحكِمَ خَرزُها لا يقطُرُ منها شيء.

5- وفي العصر الجاهلي توفَّرَتْ لقُريش أسباب دِينية واقتصادية وثقافية، جعلَتْ لهجتها هي اللهجةَ الأدبية التي يكتُبُ بها الشعراء قصائدهم، ولا شك أن قريشًا كانت تتمتع بثقافة مميزة، اكتسبَتْها مِن رِحلاتها، ومِن قدوم العرب إليها، ونظرًا لذلك فإن العربَ كانت "تعرِضُ أشعارها على قريش؛ فما قبِلوه منها كان مقبولًا، وما ردُّوه منها كان مردودًا، فقدِم عليهم علقمةُ بن عبدة، فأنشدهم قصيدتَه التي يقول فيها:
هل ما علِمْتَ وما استُودِعْتَ مكتومُ ♦♦♦ أم حَبْلُها أنْ نَأَتْكَ اليومَ مصرومُ

فقالوا: هذه سِمط الدهر، ثم عاد إليهم العامَ المقبل فأنشدهم:
طحَا بك قلبٌ في الحِسانِ طَرُوبُ ♦♦♦ بُعَيدَ الشَّبابِ عصرَ حانَ مَشِيبُ

فقالوا: "هاتان سِمطا الدهر"[14]، و"السِّمط: الخيطُ ما دام فيه الخرز"[15]، والحقيقة أن القصيدتينِ - في الأسلوبِ والأفكار والصور - مِن عيونِ القصائد العربية، ولا نكاد نجد كتابًا من كتب الأدب إلا ويتمثَّلُ بأبياتٍ منهما، يقول ابن سلام: "ولابن عبدةَ ثلاثُ روائعَ جياد، لا يفُوقُهنَّ شِعرٌ:
ذهَبْتَ مِن الهِجْرانِ في كلِّ مذْهَبِ ♦♦♦ ولم يكُ حقًّا كلُّ هذا التَّجنُّبِ

والثانية:
طَحَا بك قلبٌ في الحسانِ طَرُوبُ ♦♦♦ بُعَيدَ الشَّبابِ عصرَ حانَ مَشِيبُ

والثالثة:
هلْ ما علِمْتَ وما استُودِعْتَ مكتومُ ♦♦♦ أم حبْلُها إذ نَأَتْكَ اليومَ مَصْرومُ

ولا شيء بعدَهن يُذكَر"[16].
إذًا عندما أعطَتْ قريشٌ هذا اللقبَ للقصيدين نظرَتْ إلى ما فيهما مِن إحكام وجمال وجِدَة وروعة نظم، فوجَدَتْ أنهما تزينان الدهر بما لهما مِن روعة، كما يزين السمطانِ عنقَ الفتاة؛ فمِن عادة النقَّاد العربِ أن يمنحوا ألقابًا للقصيدة التي يرَوْن أنها فاقَتْ وتميَّزت عن غيرها، ومِن ذلك أيضًا: قصيدةُ سويد بن أبي كاهل، التي مطلعها:
بَسَطَتْ رابعةُ الحبلَ لنا ♦♦♦ فوصَلْنا الحبلَ منها ما اتَّسَع

قال الأصمعي: "حدَّثني عيسى بن عمر أنها في الجاهليةِ كانت تسمَّى اليتيمةَ"[17].

وهكذا تنوَّعَتْ أشكال النقد، كما تنوَّع النقاد، لكن يبدو أن الرواةَ لم يحرصوا على رواية هذه الآراء حِرصَهم على رواية الشعر الذي هو سِجلُّ مفاخرهم، والذي كان يتبلَّغُ به القومُ في ناديهم، ولو فعلوا لوصل إلينا نقدٌ كثير.
---------------------------------------

[1] ابن سلام الجمحي: طبقات فحول العشراء، جدة: مطبعة المدني، ج1 ص 25.

[2] السابق: ج1 ص159.

[3] أبو هلال العسكري: الصناعتين، بيروت: المكتبة العصرية 1419هــ، ج1 ص74.

[4] أسامة بن منقذ: البديع في نقد الشعر، القاهرة: وزارة الثقافة والإرشاد القومي، ج1 ص142.

[5] الأخفش الأوسط: القوافي، دار الأمانة، 1974، ص46.

[6] ابن سلام الجمحي: طبقات فحول الشعراء ج1 ص68.

[7] طه أحمد إبراهيم: تاريخ النقد الأدبي عند العرب من العصر الجاهلي إلى القرن الرابع الهجري، مكة المكرمة: المكتبة الفيصلية 2004م ، ص26.

[8] أبو الفرج الأصفهاني: الأغاني، بيروت، دار إحياء التراث العربي 1415هــ، ج13، ص 135، 136.

[9] الجاحظ: البيان والتبيين، بيروت: دار ومكتبة الهلال 1423هـ، ج1، ص 286.

[10] طبقات فحول الشعراء: ج1، ص 150.

[11] السابق: ج1، ص 115.

[12] السابق :ج1، ص 149.

[13] الأغاني :ج21، ص 21.

[14] الأغاني: ج12، ص133.

[15] الجوهري: الصحاح، بيروت: دار العلم للملايين 1407هــ ،ج3، ص 1134.

[16] طبقات فحول الشعراء: ج 1، ص 139.


[17] الأغاني: ج 13، ص 71.