دمعة أبي
نورا عبدالغني عيتاني





أبي، سلامُ اللهِ عليكَ ورحمتُه وبركاتُه، وسلامًا مِن القلبِ خالصًا عبقًا أُهديهِ لكَ مُعطَّرًا بشذا البخور وعطر الزنبقِ الرقراق، والفلِّ والريحانِ والياسَمين الأبيض والحَبَقِ، وشتَّى أنواع الزهور، تمامًا كما تحبُّ وتهوى.

أتذكرُ يومَ كنتَ تزرع الفلَّ والجاردينيا، وتُشذِّب أحواض الزرع على شُرفتنا الطويلةِ الماتعة بيديك القويَّتينِ الحانيتينِ؟!
أتذكر عروقَ الشاي الأخضر - كما كنتَ تحبُّ أن تُسمِّيَه - ذي الرائحة الأخَّاذة، والذي طالما أخذتَ منه أكوامًا إلى مقرِّ عملك لتُذِيقَه رفاقَك مع ما لذَّ وطاب من الفطائر والأطايب التي يحلو لك أن تنسِّقها بيديك؟ (العينُ تأكل قبل الفم)؛ هكذا كنت تقول، أتذكر؟ فأنا ما زلتُ أذكر لو أنك نسِيت.

أبي، لطالما عهِدتُكَ كريمًا طيِّبًا مع أصحابك، مِعطاءً فوق الحدِّ وضدَّ الحدِّ، كنتَ تُعطِي حتى تذوبَ، ولا تُبقِي لنفسك شيئًا.
أتذكر لطالما كنتَ تحبُّ الناس وتسعى لخدمتِهم، وتؤثرهم على نفسك، وأحيانًا علينا؟!
عندما كنتُ صغيرةً كنتُ أفخرُ بك - وما برِحتُ - وكنتُ أحبُّ السير معك في الطريق؛ لأستمتع بوابلِ التحيَّات والمدائح والسلامات التي تنهمِرُ عليك مِن كلِّ حَدَبٍ وصَوْب - مِن الجيران والأحبة والأعداء - حتى أعداؤك كانوا يُمطِرونك بالمدائح والبسمات يا أبي! ويُسارِعون للسلام عليك والتواصل معك؛ لأنك كنت كريمًا معهم بلا حدود، ولأنهم لا يَجْرُؤون على عضِّك إلا مِن الخلف، حين تُدِير لهم ظهرك، فحين تواجِهُهم يتقلَّصون ويَغْدُون أقزامًا هَلْكَى، فهم يَعُوون تمامًا أنك تعلو على كلِّ غدرٍ أو خيانة أو نميمة، أو بغضاء أو وضاعةٍ، ولأن بياضَك هذا وصدقك ونقاءك ووفاءك معهم يُذكِّرهم بنفوسهم الشائهة المريضة، وقلوبهم السوداء المتورِّمة، ونيَّاتِهم الخبيثة الملتَهِبة، ويَبُوح لهم - بل يؤكد لهم، ويثبت عن يقينٍ وجدارة - بأنهم هم الرقعاءُ والسفهاء، والحقراء والجبناء، والسافلون وناكرو المعروف، الذين تجمَّعت فيهم كلُّ ما في الدنيا من آيات الخسَّة والوضاعةِ والدناءةِ، وانعدام الحياء والخلُق والشرف والدين، كم كَثُرَ أمثال هؤلاء الناس في عالَمِنا يا أبي!

لطالما حذَّرتَنا منهم، إنهم لا يكتفون بعَضِّ اليدِ الكريمة التي امتدَّت إليهم، بل يَسْعَون أيضًا لتدنيسها ونسبةِ كل قذارتِهم إليها، وإلصاق صفاتِهم العَفِنة النَّجِسة بطهارتها ونظافتها وبياضها الآسرِ الناصع!

حقيقٌ يا أبي أنَّ كلَّ شريف في هذه الدنيا يُصارِع السفهاء البُلَهاء ذَوِي القلوب الصَّدِئة الميتة، حقيقٌ أيضًا أنَّ الطاهر العفيف الشريف بين الأنجاس الخبيثين هو الشاذُّ الوحيد، وأن الخائنين، والساقطين، والتافهين، والجاهلين، والمتطفِّلين، وعديمي الخُلُق والدين والشرف، والقيم والمبادئ والضمير - يرون صورتَهم وانعكاسهم البَشِع الشنيع في كل صورة نقية طاهرة شفَّافة بَهيَّة، لا تعرف عن الخِسَّة والوضاعة والعَهْر شيئًا!

لَكَمْ رأيتُ منهم يا أبي يتصارعون بقارعةِ الطريق على جِيفة الدنيا؛ كالكلاب الضالة النجسة، ويُمزق بعضهم بعضًا، عُدت بالذاكرة إلى الوراء، وتذكَّرت كلامَك وتحذيراتِك، فأنت تعرِفنا جيدًا، يا مَن ربَّيتنا على خير الأخلاق وأسماها، أنت الذي لطالما رفعتَ رأسك بنا، أنت الذي كانوا يُلقِّبونك بأبي البنات المُهذَّبات الخَلُوقات المجهولات، اللواتي لا يَعرِفُهُنَّ أحدٌ، نعم، فنحن كنا قليلًا ما نخرج من البيت، وقليلًا ما نخالط الناس، وكنا - كما عوَّدتنا - لا نُصاحِب إلا الشرفاء والنَّزيهين، فما وُجِدت في عُرْفنا مفردات لصداقة الرجال ولا الاختلاط بهم.

كانوا يقولون عنك: معقد؛ لأنك وَدِدْتَ حفِظنا؛ لأنك عرَفت الدنيا جيدًا وخبَرْتَها، ورأيتَ ما يختبئ فيها من الذئاب الماكرة المختبئة خلف ستائر الطُّهر والعِفَّة والحبِّ الزائف!

لطالما رفعتَ رأسَك بنا بين الناس، فنحن ما خيَّبنا ظنَّك فينا يومًا، ولا أخفَضْنا رأسك، كنا - وما زلنا - سائراتٍ على وصيتِك وعهدك، نحذَرُ الدنيا وما فيها من الأشباح الهادرة، والثعالب الغادرة، والأفواه المتشدِّقة العابرة، والعناوين الزائفة المزوَّرة، والمخالب المدبَّبة الأطراف التي تلاطفُ قبل أن تجرح!

كنت تقول لنا: احذَروا الأصحابَ وغدرَهم، وكنتُ أستغرب حينها وأنا في عمر الزهر: أنحذَرُ الأصحاب وهم لنا لون الحياة ورائحة الفرح والبهجة والسرور؟! كيف وهم أريج البخور؟!
لكني عرَفتُ الآن جيدًا، بل ليس الآن فقط، فقد عرَفتُ هذا قبل عقدٍ مِن الزمان وأكثر، مذ تفتَّحت عيناي على هذه الدنيا، وعلى أُناسِها المادِّيينَ ذوي الأرواح المجوَّفة والأَنْفُس الملطَّخة بالدماء، وذوي الشهوات المنحطَّة الدنيَّة، عرَفتُ الناس يا أبي، وعرفتُ غدر الأصحاب المتملِّقين المُرائين المنافِقين الماكرين، الراكضين خلفَ مصالحهم وعالَمِهم الضيِّق المتفتِّق عليهم.

لم أَعُدْ أستغربُ شيئًا مِن كلامك يا أبي، صدقتَ وصدقَتْ نُبوءاتك، كم أنتَ حكيمٌ يا أبي! أنت عالِمٌ بالحياة وأسرار الحياة، أنتَ سرُّ قوَّتي بعد الله تعالى والإيمان وأمِّي.

ما زلتُ أذكر جيِّدًا ذلك اليوم الذي أمسكتَ فيه يدي الصغيرةَ لَمَّا كنتُ في التاسعة من العمر، لتسيرَ بي إلى محل الألعاب، وتنتقي لي أجملَ هديةٍ بمناسبة تفوُّقي في الصفِّ ونَيْلِي المرتبةَ الثانية، وكنتَ تَطمَحُ للمزيد، كنتَ ترفَعُ رأسَك بي، وتُحيطُ بي بكلِّ عطفٍ وقوَّة، كنتَ الشَّجاعةَ والجرأة والإقدام والحماس الذي يُوقِد عَتَمَة الأشياء الباهتةِ المُنطفِئة الخاملة؛ ليُحْيِيَ فيها الهمَّة، ويُوقِظ فيها التميُّز والنبوغَ، لم يُضِئ فَجْرِي بدونك، كنتَ أنت شعاعَ النور الذي تسلَّل إلى فَجْرِي، فأيقظه وجاء الصبح القريب.

كنتَ دائمًا تُشجِّعني وتَدْعَمُني، وتضخُّ بي كلَّ الثقة، كنتَ نبعًا من الإيمان الذي لا يَنضُبُ فيَّ، ولا يَخبو ولا يزول، كنتَ تحبُّ أن تَسْمَعَني أقرأ القرآن، وتُباهِي بي أمام رِفاقِك والأقارب، وأنا أُرتِّله وأُجوِّده أمامَهم، كنت دومًا نِعْمَ المُدرِّبُ، حتى حين كبرنا وابتعَدْتَ وغِبْتَ عنا، حين صرتَ بعيدًا جدًّا، بقِيتَ أنت القريبَ الغريبَ، وظلِلْتَ تُشكِّل الحَجَر الأساس في حنايايَ وخافقي وملامح حياتي التي بدأت ترتسم باكرًا جدًّا على لوحتِك الفنية الإبداعية الجميلة التي رسَمْتَها لي وأنا ما زلتُ طفلةً صغيرة، ترنو للحياةِ ببراءةٍ عامرة وفضولٍ فطريٍّ عجيب منقطع النظير، لكني لا أُخفِيك سرًّا، لقد صُدِمتُ يا أبي، صدمتُ رغم تحذيراتِك؛ وما زلتُ أُصدَم كلَّ يوم صدمةً أخرى جديدةً بالناس والأصحاب والمعارف، وكأني لم أَفقَه شيئًا، وكأني لم أتعلَّم الدرس بعدُ! ألا ليتني أتعلم الدرس وأفهَم!

لماذا يغدِرُ الناس يا أبي؟
لماذا يُظهِرون لنا التآلفَ والأمان، ويَلبَسُون ثوب المحبِّين الناصحين، وفي باطنِهم سكاكين؟
لماذا يُراسِلون ويتواصلون ويتقرَّبون، ومِن خلف ظهورنا أخطاءَنا وعيوبَنا وسقطاتِنا يتصيَّدون، بل يبتدعون؟!
هل الناس أشرارٌ يا أبي، يلبَسُون ثوبَ ملائكة، وبجوفهم شياطين إنس؟!
نعوذ بالله منهم، دَعْنا منهم ومِن أذاهم، ألا لا نامَتْ أعين الرقعاء!

اشتقتُ إليك كثيرًا، إلى صمتِك وكلماتك، اشتقتُ حتى إلى غيابك، رأيتُ صورتك البارحة في هاتفِ عمِّي، تلك التي التقطتُها لك على حينِ غفلةٍ وأنت تبتسم بعفويَّةٍ في إحدى المناسبات العائلية، تلك البسمة الطفولية الظاهرية التي لم تَقدِرْ أن تُخفِي خلفَها أكوامًا مِن التعب والحنين والألم والفَقْد الذي يقطَع أوصالَك، لم تَملِك أن تُخفِي لَهْفَتك عليَّ وعلى أختي الصغرى التي لم أرها منذ ستِّ سنوات، ولم أرَ أولادها حتى الآن إلا في الصورةِ، ما خلا (زيادًا) الذي رأيتُه مرةً حين كان عمرُه ستةَ أشهر، كبر (زياد) يا أبي، وكبرنا جميعًا، ورأيتُ دمعتَك المخفيَّة البرَّاقة، تلك الدمعة النقية العالقة بعينِك اليسرى، لم تستطع أن تُخْفِيَها، شاهدتُها يا أبي تلمَعُ في عينِك كحبَّة لؤلؤ برَّاقة، كم ودِدْتُ قطافَها، لكني بعيدة جدًّا، وأنت قريب رغم البعد!

ظلَّ السؤال عالقًا في ذهني طوال الليل، أُقلِّبه ذات اليمين وذات الشمال، وأسأل نفسي عن سر تلك الدمعة السحرية العالقة التي تأبى أن تُفارِق عينك؛ لتتدحرَج على خدك وتتبخَّر!

تلك الحبة التي لا تُفارِق عينك اليسرى في كل صورة عائليَّة تضمُّنا بإطار من الفرح والمناسبات العائلية المعدودة الهاربة، أتُرَاكَ يا أبي تَهابُ الفرح؛ لأنه سيَخْطَفُنا منك كما اختَطَف اثنتينِ مِن بناتك، ونأى بهما بعيدًا عنك، فواحدة في أقصى الشرق وأخرى في أقصى الغرب؟!

وتبقى هذه الدمعةُ عالقةً مكابرة تأبى النزولَ، وتبقى يا أبي - كما عهِدتُك دومًا - عصيَّ الدمعِ شيمتُك المَرَحُ!
أنا أعلم أنك تبكي مِن الداخل، وتتمنَّى لو نعود صغارًا، أعلم أن بجوفِك طفلًا صغيرًا، صغيرًا جدًّا، لا يَكبرُ ولا يتغيَّر، أصغر مِن مريم، وأروى، ورهف، أصغر مِن زياد وهدى ومحمد، وعبدالغني وماريا، بل أصغر حتى مِن حفيدك الذي لم يأتِ بعدُ، لَأنت أصغر مِن جنين ما زال يتكوَّن في رحم أمٍّ لا تعرِفُ عنه شيئًا!

أبي، أنت الفرحة التي لن تموتَ، والاشتياقُ الذي لن يُفارقني، أنت الغياب الذي أتعلَّق به وأتتبَّعُه حتى يعودَ، واللقاء الذي أنتظر قدومَه كلَّ يومٍ في كل آنٍ وكل حين.

أربعُ سنواتٍ مَضَت وانقضت، وأنا لم أُمتِّع ناظريَّ برؤيتك، اشتقتُ إليك كثيرًا، وأعلم أنك اشتقتَ إليَّ أكثر، لكنك لن تقولها؛ فأنت أنت - كما عهِدتُك - مقطِرٌ في التعابير، تحوي بحر العبَر، جامع الأضداد أنت يا أبي!

لَكَمْ تمنَّيتُ لو كنتُ قربَك، تُغدِقُ على بناتي بالهدايا والقُبَل والأحضان وبالأشياء الطيبة، لا بأس، أَطعِمْ (رهفَ) شيئًا مِن الشوكولاتة والمثلَّجات، لن أقول لك شيئًا، لن أعترض، ولن أجادلَك أكثر، حتى ولو أطعَمْتَها صحنًا صغيرًا مِن المربَّى، كما فعلت مع (زياد) حين كان في ستة الأشهرِ، أتذكُر؟! ستظلُّ أنت المُصِيبَ الوحيد، وأنا العنيدة الثائرة التي ورِثت عنك كل هذا العناد.

لو تعرف يا أبي كم تَحنُّ إليك (مريمُ)، فرغمَ أنها في آخر مرة رأَتْك كانت في عمر سنة ونصف، فإنها ما زالت تذكرُك جيدًا، وتذكر هذا الوجه المتهلِّل، هي تستطيع أن تصفَك بكل دقة، حتى بدون أن أُرِيَها صورتَك، هل تُصدِّق؟ فأنت مطبوعٌ بمُخيِّلَتِها الصغيرة.

(أروى) تعرِفُك بالصوت فحَسْب، لكنها تُحبُّك كثيرًا، وتنتظر اليوم الذي تلقاك فيه.
(رهف) ما زالت صغيرةً، لا تعرف عنك شيئًا، لكنها ستحبك من النظرة الأولى، لا ريب في الأمر، فأنت ببساطةٍ تُحَبُّ.

أعرف كم تحبُّ الأطفال، وأفهم جيدًا ماذا يَعْنُون لك، فأنت طفلٌ مثلُهم، تتوقُ للعناية والرعاية والحب والحنان، تجدُ نفسَك بينهم، تُلاعِبُهم كطفلٍ صغير، وتَغِيب عن دنياك المضنية كلما شاهدتَ طفلًا يحبو ويَملأ البيتَ بهجةً ونقاءً وحياةً، وأنت يا عاشقَ البهجةِ والضحك، فرحةُ هذا البيت، وجامع شَمْلِه، وشعاع النور الذي يزرع الأمل والبسمة والثقة في غدِه، وغد كل مَن يزورُه ويمرُّ به، يا قاطفَ الحُلم البعيد مِن شجرة الأحلام المُزْدانَة الهاربة أبدًا.

أخبرني، أما زلتَ تشتري صناديق الحلوى والشوكولاتة وتخبِّئها كعادتِك في أدراجك التي لطالما غَزَوْناها؟
أما زلتَ يا أبي تحبُّ السكاكر والأطايب والكنافة؟
اشتقتُ إليك حقًّا، هلَّا أتيتَ لعلي أراك بإذن الله؟
عسى يكون اللقاء قريبًا، فهيِّئ للصغار الحلوى، وهيِّئ لي أكبرَ قطعة منها وأحلاها، التي هي قلبُك، والسلام.
ابنتك المُحبة