قال شيخ الإسلام ابن تيمية _رحمه الله_ في مجموعة الفتاوى (وكذلك ما يجمعه عبد الرحمن بن مَنْدَه [هو أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد بن إسحاق بن منده العبدي الأصبهاني، حافظ مؤرخ، جليل القدر، واسع الرواية، وصنف كتبًا كثيرة، ولد عام 383 وتوفي 470هـ بأصبهان. قال الذهبى: له محاسن، وقالوا: إنه حاطب ليل يروى الغث والثمين] مع أنه من أكثر الناس حديثـًا، لكن يروى شيئًا كثيرًا من الأحاديث الضعيفة، ولا يميز بين الصحيح والضعيف. وربما جمع بابًا وكل أحاديثه ضعيفة، كأحاديث أكل الطين وغيرها. وهو يروى عن أبي علي الأهوازي.
وقد وقع ما رواه من الغرائب الموضوعة إلى حسن بن عدى فبنى على ذلك عقائد باطلة، وادعى أن الله يرى في الدنيا عيانًا. ثم الذين يقولون بهذا من أتباعه يكفرون من خالفهم. وهذا كما تقدم من فعل أهل البدع، كما فعلت الخوارج.
ومن ذلك: حديث عبد الله بن خليفة المشهور، الذي يروى عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد رواه أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسى في [مختاره].
وطائفة من أهل الحديث ترده لاضطرابه، كما فعـل ذلك أبو بكر الإسماعيلي، وابن الجوزي، وغيرهم. لكن أكثر أهل السنة قبلوه.
وفيه قال: [إن عرشه أو كرسيه وسع السموات والأرض، وإنه يجلس عليه فما يفضل منه قدر أربعة أصابع ـ أو فما يفضل منه إلا قدر أربعة أصابع ـ وإنه لَىَئِط به أطيط الرَّحْل الجديد براكبه].
ولفظ [الأطيط] قد جاء في حديث جبير بن مطعم الذي رواه أبو داود في السنن. وابن عساكر عمل فيه جزءًا، وجعل عمدة الطعن في ابن إسحاق..وال حديث قد رواه علماء السنة كأحمد، وأبي داود وغيرهما، وليس فيه إلا ما له شاهد من رواية أخرى. ولفظ [الأطيط] قد جاء في غيره.
وحديث ابن خليفة رواه الإمام أحمد وغيره مختصرًا، وذكر أنه حدث به وكيع.
لكن كثير ممن رواه رووه بقوله: [إنه ما يفضل منه إلا أربع أصابع، فجعل العرش يفضل منه أربع أصابع] واعتقد القاضي، وابن الزَّاغُوني، ونحوهما، صحة هذا اللفظ، فأمروه وتكلموا على معناه بأن ذلك القدر لا يحصل عليه الاستواء. وذكر عن ابن العايذ أنه قال: هو موضع جلوس محمد صلى الله عليه وسلم.
والحديث قد رواه ابن جرير الطبري في تفسيره وغيره، ولفظه: [وإنه ليجلس عليه، فما يفضل منه قدر أربع أصابع] بالنفي.
فلو لم يكن في الحديث إلا اختلاف الروايتين ـ هذه تنفي ما أثبتت هذه. ولا يمكن مع ذلك الجزم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد الإثبات، وأنه يفضل من العرش أربع أصابع لا يستوى عليها الرب. وهذا معنى غريب ليس له قط شاهد في شيء من الروايات. بل هو يقتضي أن يكون العرش أعظم من الرب وأكبر. وهذا باطل، مخالف للكتاب والسنة، وللعقل.
ويقتضي ـ أيضًا ـ أنه إنما عرف عظمة الرب بتعظيم العرش المخلوق وقد جعل العرش أعظم منه. فما عظم الرب إلا بالمقايسة بمخلوق، وهو أعظم من الرب. وهذا معنى فاسد، مخالف لما علم من الكتاب والسنة والعقل.
فإن طريقة القرآن في ذلك؛ أن يبين عظمة الرب، فإنه أعظم من كل ما يعلم عظمته. فيذكر عظمة المخلوقات ويبين أن الرب أعظم منها.
كما في الحديث الآخر الذي في سنن أبي داود، والترمذي، وغيرهما ـ حديث الأطيط ـ لما قال الأعرأبي: إنا نستشفع بالله عليك، ونستشفع بك على الله ـ تعالى ـ فسبح رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه، ثم قال: [ويحك! أتدرى ماتقول؟ أتدرى ما الله؟ شأن الله أعظم من ذلك. إن عرشه على سمواته هكذا] ـ وقال بيده مثل القبة ـ: [وإنه لىئط به أطيط الرحل الجديد براكبه].
فبين عظمة العرش، وأنه فوق السموات مثل القبة. ثم بين تصاغره لعظمة الله، وأنه يئط به أطيط الرحل الجديد براكبه. فهذا فيه تعظيم العرش، وفيه أن الرب أعظم من ذلك. كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [أتعجبون من غيرة سعد؟ لأنا أغير منه، والله أغير منى]. وقال: [لا أحد أغير من الله. من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن] ومثل هذا كثير.
وهذا وغيره يدل على أن الصواب في روايته النفي، وأنه ذكر عظمة العرش، وأنه مع هذه العظمة فالرب مستو عليه كله لا يفضل منه قدر أربعة أصابع. وهذه غاية ما يقدر به في المساحة من أعضاء الإنسان، كما يقدر في الميزان قدره فيقال: ما في السماء قدر كف سحابًا. فإن الناس يقدرون الممسوح بالباع والذراع، وأصغر ما عندهم الكف. فإذا أرادوا نفي القليل والكثير قدروا به، فقالوا: ما في السماء قدر كف سحابًا، كما يقولون في النفي العام: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء: 40]، و{مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ} [فاطر: 13]، ونحو ذلك.
فبين الرسـول أنه لا يفضل من العرش شيء، ولا هذا القدر اليسير الذي هو أيسر ما يقدر به، وهو أربع أصابع. وهذا معنى صحيح موافق للغة العرب، وموافق لما دل عليه الكتاب والسنة، وموافق لطريقة بيان الرسول،له شواهد. فهو الذي يجزم بأنه في الحديث.
ومن قال: [ما يفضل إلا مقدار أربع أصابع]، فما فهموا هذا المعنى، فظنوا أنه استثنى، فاستثنوا، فغلطوا. وإنما هو توكيد للنفي وتحقيق للنفي العام. وإلا فأي حكمة في كون العرش يبقى منه قدر أربع أصابع خالية، وتلك الأصابع أصابع من الناس، والمفهوم من هذا أصابع الإنسان. فما بال هذا القدر اليسير لم يستو الرب عليه؟
والعرش صغير في عظمة الله ـ تعالى. وقد جاء حديث رواه ابن أبي حاتم في قوله: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام: 103]، لمعناه شواهد تدل على هذا. فينبغي أنا نعتبر الحديث، فنطابق بين الكتاب والسنة. فهذا هذا والله أعلم.
قال: حدثنا أبو زُرْعة، ثنا مِنْجاب بن الحارث، أنبأ بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن عطية العوفي، عن أبي سعيد الخدرى، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} [الأنعام: 103]، قال: (لو أن الجن والإنس والشياطين والملائكة ـ منذ خلقوا إلى أن فنوا ـ صفوا صفًا واحدًا ما أحاطوا بالله أبدًا).
وهذا له شواهد، مثل ما في الصحاح في تفسير قوله تعالى: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67]، قال ابن عباس: ما السموات السبع والأرضون السبع ومن فيهن في يد الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم.
ومعلوم أن العرش لا يبلغ هذا، فإن له حملة وله حول، قال تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ} [غافر: 7].
وهذا قد بسط في موضع آخر في [مسألة الإحاطة] وغيرها. والله أعلم.)