أهمية البحث في اللغة العربية
د. عصام فاروق


لسنا في حاجةٍ إلى كثيرِ بيانٍ لأهمية البحث في اللغة العربية بالنسبة للعرب؛ فهو:
ضرورة دينية: كونها لغةَ القرآن الكريم التي تحتاج إلى سَبْر أغوارها، وبيان أسرارها؛ لمعرفة كوامن الإعجاز فيها الذي بهر العرب قديمًا، حتى قال قائلهم: إنَّ عليه لحلاوةً... إلخ، وإذا كان الله عز وجل تكفَّل بحفظ كتابه إلى يوم القيامة، بنصِّ قوله تعالى: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9]، فلا شك أن لهذا الحفظِ أسبابًا؛ منها دراسة هذه اللغة، والمحافظة على قواعدها وخصائصها، والبحث عن وسائل تنميتها.

وهذا ما دعا علماءَنا القُدامى إلى أن يعكُفوا على كتاب الله تبارك وتعالى، يبحثون في كيفية خدمة أصواته؛ من حيث نقط الإعجام، والشكل، والضبط، والرسم...، إلخ، وكذلك على أبنيته، فيبحثون عن أصالتها ونقائها وصفائها، وعلى تراكيبها فيبحثون عن نُظُمها وأنماطها.

ونحن نلاحظ أن الدراسات اللُّغوية - نحوًا، وصرفًا، ومعجمًا، وبلاغةً، وأدبًا، ولهجاتٍ، وقراءاتٍ - ما نشأت إلا في رحاب القرآن الكريم، أو على حدِّ قول الدكتور رمضان عبدالتواب: (لولا القرآنُ ما كانت عربيةٌ)[2].

ضرورة حضارية: من أين لنا أن نعرف كيف كانت حياةُ العرب في جاهليتهم، من حيث المسكن، والمشرب، والمأكل، والأخلاق، والصفات...، إلخ، إلا بدراسةِ أشعارهم ونثرهم، وما سجل حياتهم من هذه الأنماط الإبداعية؟


ضرورة قومية: نردُّ مِن خلالها تلك الهجماتِ الشرسة التي ابتُليت بها أمَّتُنا، مِن قِبَل بعض المستشرقين غيرِ المنصفين وأذيالهم مِن أشباه المستشرقين وتلاميذهم، ممن يبحثون في لغتنا عن ثغرةٍ أو موضع طعنة ينفُذون من خلالها، حتى ردَّدوا كثيرًا مِن الشبهات التي لا تلبث أن تَهْوِيَ أمام البحث اللُّغوي المتعمِّق، ومن هذه الشبهات والدعاوى[3]:
الدعوى الأولى: أن اللغة العربية لغةٌ مُعقَّدة القواعد، صعبةُ التعلُّم، وكانت هذه الدعوى مدخلًا مهمًّا للدعوة إلى استخدام العامية وإحلالها محلَّ الفصحى أو خلطها بها على الأقل.

والبحث المقارِن والتقابلي يُثبِت أن القواعد المعقَّدة والصعبة لا تنفرد بها العربية الفصحى وحدَها، بل هناك لغاتٌ كثيرة لا تزال تحيا بيننا، وفيها مِن ظواهر الإعراب المعقد ما يفوق العربيةَ بكثير، فاللغة الألمانية على سبيل المثال تقسم أسماءها اعتباطًا إلى مذكر ومؤنث، وجنس ثالث لا تعرفه العربية وهو (المحايد)، وتضع لكل واحد من هذه الأجناس الثلاثة أربع حالات إعرابية، هي حالات الفاعلية، والمفعولية، والإضافية، والقابلية، والحالة الأخيرة حالةٌ لا تعرفها العربية، وهي إعراب المفعول الثاني، فهي مِن حالات المفعولية في العربية، وليست حالة خاصة فيها، تلك هي حالاتُ إعراب الاسم المفرد المُعرَّف في الألمانية، والمفرد المُنكَّر له أربع حالات أخرى، وكذلك الجمع المعرف والجمع المنكر، فالصعوبة موجودة في اللغات كلها أو معظمها، لكن قد تعود صعوبة قواعد العربية إلى الطريقة التي تُعرَض بها هذه القواعد، وطرق تعليمها.

الدعوى الثانية: أن العربية قاصرةٌ عن استيعاب علوم العصر.

الدعوى الثالثة: صعوبة الكتابة بالفصحى، وتنبني على هذه الدعوى دعوةٌ بهجرها والكتابة بالعامية.
مِن أين لنا أن نردَّ على مثل هذه الدعاوى مِن غير دراسة العربية دراسةً مُتعمِّقة؟ يضحِّي كلُّ واحد منا في سبيل ذلك بكل غالٍ ونفيس، في سبيل إعلاء كلمتِها، ورَدِّ الشبهات عن ساحتها.

أهمية دراسة العربية بالنسبة للمستشرقين وآثار ذلك:
يرى البعض أن النقطة الأهم في بَدْء تاريخ الاستشراق تتمثَّل في اهتمامِ الكنيسة الرومانية باللغات السامية - ومنها العربية - بهدف توحيد الكنائس الشرقية التابعة لها، وكان ذلك في القرن الثاني عشر الميلادي.

وقد يعود هذا الاهتمام إلى الدافع اللاهوتي، ويتأتى هذا الدافع من ارتباط اللغة العربية باللغة الآرامية، وهي لغة النصرانية الأولى، وبها جاء الإنجيل الأصلي[4]، وثمة عَلاقةٌ أخرى تربط العربية بالعبرية، وهي لغةُ العهد القديم (التوراة)، فهذه اللغات الثلاثُ تنتمي إلى نسبٍ واحد، وأمٍّ واحدة، هي اللغة السامية الأم، وكونُ العربية اللغة الوحيدة التي عُمِّرت هذا العمرَ المديد، جعل الغربيين يتطلَّعون إلى دراساتها للربط بينها وبين لغة الإنجيل الأصلية المندثرة[5].

يضاف إلى ذلك الدوافعُ التِّجارية والاستعمارية، ويأتي الدافع العلمي في ذيل هذه القاعدة، على نحو ما نراه عند قلة مِن المستشرقين.

وهذا كله تمخَّض عن حركة علمية واسعة للمستشرقين بدؤوها بتحقيق التراث وخدمة المخطوطات؛ لأنها كانتِ العقبةَ الأولى أمامهم في سبيل قراءتِهم للنصوص العربية القديمة، ففي مجال التحقيق نجد أنهم عُنُوا بترجمة كثيرٍ مِن الكتب والدواوين، فعلى سبيل المثال حقَّق المستشرق السويدي لندبرج (ديوان زهير) سنة 1881م، وفي الجانب التنظيري للتحقيق نجد مثلًا كتاب (أصول نقد النصوص ونشر الكتب) لبرجستراسر، وله أيضًا كتاب (التطور النَّحْوي للغة العربية)، ثم نجد لهم إسهاماتٍ كبيرةً في المعجم، ومِن أبرز هذه الجهود (تكملة المعاجم العربية) لدوزي، والدراسات المقارِنة بين العربية وغيرها من اللغات السامية، ومنها كتاب (فقه اللغات السامية).

----------------------------------------------


[1] د. عصام فاروق/ أستاذ أصول اللغة المساعد بجامعة الأزهر.

[2] فصول في فقه العربية (108).

[3] ينظر في هذه الدعاوى: بحوث ومقالات في اللغة (166 وما بعدها)؛ د. رمضان عبدالتواب، مكتبة الخانجي بالقاهرة - دار الرفاعي بالرياض، أولى 1403 هـ - 1982م.

[4] يضيف د. عمايرة: أما الأناجيل الموجودة بين أيدي الناس الآن، فمَردُّها إلى الترجمة الإغريقية، وليس ثمة نصٌّ آرامي أصلي للأناجيل.


[5] ينظر: المستشرقون ونظرياتهم في نشأة الدراسات اللغوية، (28 وما بعدها).