رسالة إلى صديقتي التي خفت نجمها قبل أن يبزغ!


منذ عرفتُها كانت فتاةً ذات ألَقٍ خاصٍّ، لم تترك بحرًا من العلوم إلا ونهلَتْ من معينه؛ مما كان له أكبر الأثر في شخصيَّتها وثقافتها وسعة اطِّلاعها، وهي التي بسبب ظروفها لم يتسَنَّ لها أن تدخل الجامعة ولا وقفَتْ على أعتابها؛ بل أخالها بتعلُّمها الذاتي قد بزَّت جحافل خريجي الجامعات العريقة.


وقد حاولتُ غير مرة أن أحُثَّها أن تُخالِطَ الناس وتُبرِز عِلْمَها لمَن حولَها ولو عن طريق كِتابتِها التي اطَّلعْتُ على بعضِها وشَدَّني فيها جمالُ الأسلوب وسموُّ العبارة، وعَزَّ عليَّ أن تكون حبيسةَ أدراجِها، لا يستفيد منها أحدٌ؛ ولكن كان دومًا هناك حاجزٌ ما يمنعها من الاستجابة، وتتوارى خلفَه قانعةً بالبقاء هناك.

إلى أن حادثتْنِي يومًا عن سبب توقُّفِها عن الكتابة والنشر بسبب خشيتها من الرياء، وأن ينطبق عليها حديثُ النبي صلى الله وسلم الذي جاء فيه: «...ورجُلٌ تعلَّم العِلْمَ وعلَّمَه، وقرَأ القرآنَ، فأُتِي به، فعرَّفَه نِعَمَه فعرَفَها، قال: فما عمِلْتَ فيها؟ قال: تعلَّمْتُ العِلْمَ وعلَّمتُه، وقرَأتُ فيكَ القرآنَ، قال: كذَبْتَ؛ ولكنَّكَ تعلَّمْتَ العِلْمَ لِيُقالَ: عالِمٌ، وقرَأتَ القُرآنَ لِيُقالَ: هو قارِئٌ، فقد قيل، ثم أُمِر به فسُحِبَ على وجْهِه حتى أُلقِي في النارِ...»؛ (رواه مسلم).

وكيف أنها كلما أتاها خاطر الكتابة ونشْر ما تكتبُه تمثَّل لها الحديث وخشيت على نفسها نَفْسَ المصير وأن يُقال لها: ((فقد قيل))، وما زاد الأمر أن عينها وقعَتْ وقتها على مقالٍ فيما يبدو قد كان كاتبُه يقوم بمحاسبة نفسِه فيه! لأنه ما فَتِئ يُرسِّخ مفهومَ أنَّ مَن يكتب غالبًا فإنما يكتب ليُرائي؛ لا ليفيد غيرَه؛ مما جعل صاحبتي تزدادُ يقينًا بصحَّة خوفِها، وقالت لي: ومنذ قرأتُ ذلك المقال، تضاعَفَ شعوري بالخوف وتوقَّفْتُ عن الكتابة! فأجبتها وأنا كلي أسًى على خفُوت نَجْم كاتبة قبل أن يتوهَّج في سماء الأدب: ولماذا؟ لماذا يا رفيقتي تسمحين لنفسك أن تتوقَّفي بينما كان بإمكانك المواصلة مع المجاهدة والمقاومة حتى لا يحبط عملُك! ألا تعلمين يا صديقتي أن بعض العلماء قال: إن "ترك العمل من أجل الناس رياء، والعمل من أجل الناس شِرْك، والإخلاص أن يُعافيك اللهُ منهما".

إنَّ خوفَك هذا دليلٌ على أن الشيطان يُوسُوس لك وقد غاظَه أن ينطلق مثل قلمك ناشرًا عبيرَه في سماء أهل الإسلام، ولو أنك رغبت العمل من أجل الناس فعلًا لما توقفت حقًّا ولا حاسبت نفسك أبدًا، ولظللْتِ تكتبين وتنشرين ليُقال: كاتبة، وحينها كان حقًّا عليك الفزعُ عند قراءة ذلك المقال؛ ولكنك يا صديقتي بفعلك هذا إنما تعطين النصر للشيطان أن أزاحَكِ من طريق كان مهيَّأً لكِ بإذن الله لنَشْر الخير عَبْرَه، وبفعلك هذا أخشى أن تكوني قد وقعْتِ في الرياء وأنت تهربين منه! فهلَّا جلستِ مجددًا مع نفسك وأخبرتِها بحقيقة أنَّ مَن حولنا حاليًّا هم في أمَسِّ الحاجة إلى كل عِلْمٍ وكل يدٍ تمتدُّ لهم بالخير!

إن الإخلاص غاية وهدف عزيز، والحصول عليه لا يكون بالهرب منه؛ بل بالسعي والمقاومة والمجاهدة لكل ما يُثبِّط عزيمتنا أو ما قد يُلقي في روعنا من وسوسة شيطان إنسٍ أو جان، وإن هرِبْنا فلَيْتَنا نسأل أنفسَنا: لمَنْ سنَتْرُك ساحةَ الدعوة إذًا لو ترك الجميع البَذْلَ والعطاءَ حتى لا يقعوا في الرِّياء؟!

أنْهَيْتُ حديثي مع صديقتي وما زالَتْ تتوارى خلفَ جدارِها الذي بَنَتْه عاليًا، وأتمنَّى أن تكون كلماتي قد ساهمَتْ ولو بهدِّ أساسِه مُسهِّلةً الطريقَ لسقوطه ولو لاحقًا، فمثلها والله -وغيرها كثيرون- خسارةٌ أن يسمحوا لأنفسهم بالتواري؛ فلا يستفيد منهم أهلُ الإسلام في زمان انتشار أصحاب الرسالات الهدَّامة، والله المستعان.
منقول