ابن تيمية وابن حزم وموقفهما من أئمة العلم
عمر السنوي الخالدى


يتساءل الكثيرُ من المتتبِّعينَ لأحوال أهل العلم ومناهجهم وطروحاتهم: هل تأثَّر شيخُ الإسلام ابنُ تيمية بالإمامِ ابنِ حزم؟
والجواب الذي نجهر به ونجزم به: أنَّ ابْن تيمية من أكثَر العُلماء تأثُّرًا بابْن حزم؛ فقد قرأ تراث ابْن حزم واستوعبه وتشرَّبه؛ بل ليس من الكذب في شيء إن قيل: إنه أعاد صياغته في سائر كتبه الفقهية.
وتكاد الكلمةُ تتفق على أنه لم يأتِ بعد الأئمة الأربعة في القرون الأولى كابن حزم في القرن الخامس، ولم يأتِ بعد ابن حزم كابن تيمية في القرن السابع، وهذا لا يُنافي القول ببروز فقهاء أكابر كُثُر ومجدِّدين على امتداد التاريخ، وعلماء في سائر الفنون كانت لهم الريادة في آحادها، إلا أننا عندما نتحدَّث عمَّن اجتمعت له آلةُ الاجتهاد الكاملة، مع تأثير عميق في الأمَّة الإسلامية، فستكون لهؤلاء ميزة عن غيرهم.
جاء ابن حزم في زمان كانَ الرأيُ قد توحَّد على لزوم تقليد مذهب من المذاهب الأربعة وعدم جواز الخروج عنها؛ بَل قُعِّدَت القواعدُ على عدم جواز الاجتهاد أصلًا! فمِن هنا كان نضال ابن حزم نضالًا مريرًا في سبيل فتح باب الاجتهاد، وإبطال دعاوى التقليد والجمود، والنهي عن تقديس أقوال مَن هُم دون رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فشكَّل ابن حزم مرحلةً جديدةً، زلزلَت المسلَّمات المُبتدَعة والجهالات المُتَّبَعة، وسار على دربه واستنار بسراجه علماء آخرون من بعده، كان أبرزَ هؤلاء العلماء: ابنُ تيمية الحرانيُّ؛ لذلك قال الأستاذ الدكتور عبدالحليم عويس في كتابه «ابن حزم وجهوده في البحث التاريخي» (ص351): «وفي سنة (661هـ) ولد بِحرَّان الإمام أبو العباس أحمد بن عبدالحليم ابن تيمية، فكان أينعَ ثمرة أبرزَها تيَّارُ الدعوة إلى ضرورة الاجتهاد الذي هزَّ العقل الإسلامي هزَّة عنيفة، وهو التيار الذي غذَّاه وجاهد في سبيله ابنُ حزم (ت 454هـ)».
كيف لا يكون هذا حال ابن تيمية وهو الذي قال عنه تلميذه الصفدي في ترجمته له في كتابه «أعيان العصر» (1/142): «قد تحلَّى بـ (المحلَّى)، وتولَّى من تقليده ما تولَّى، فلو شاء أوردَه عن ظهر قلب»؛ ولهذا لم يكن مبالِغًا شيخُنا مشهور بن حسن آل سلمان حين قال- في كلمة منشورة له على موقعه الرسمي الإلكتروني-: «ابن تيمية وابن القيم هما ابن حزم المحقَّق؛ أي: إذا حققتَ ابنَ حزم تحقيقًا قويًّا يظهر عندك ابنُ تيمية وابنُ القيم، وابن حزم عالم كبير ظلمَه كثيرٌ من الناس، وشرب وأكل مذهبه ابنُ تيمية بإنصاف... أقولُ بعد تجربة طويلة بلغَت سنوات: كلُّ أثر مذكور في كتب ابن تيمية وابن القيم إذا أردتَ أن تخرِّجه فهو عند ابن حزم، فإنْ وجدته عند ابن حزم في (المحلَّى) وجدتَ إسناده، وإذا ما وجدتَه فهو في كتب ابن حزم الأخرى، وظهر لي هذا واضحًا».
ومِن قبلُ قال العلَّامة محمد أبو زهرة في كتابه «ابن حزم: حياته وعصره» (ص209): «ولقد جاء ابن تيمية في القرن السابع والثامن ودعا إلى مثل الدعوة التي بدأها العبقري ابنُ حزم، وصال فيها وجال... وإذا كان أخص ما دعا إليه ابنُ تيمية هو منع التوسُّل والوسيلة بالصالحين، فيجب أن يُعلم أنَّ أوَّلَ مَن دعا إلى ذلك هو ابنُ حزم».
وقد بانَ أثر ابن حزم في ابن تيمية جليًّا في مسائل أكثر من أن تُحصى في الأصول والفروع، وقد كتبَ فيها بعض الباحثين المعاصرين دراسات عديدة، رأيتُ أن أسوق بعض ما وقفتُ عليه منها، فهي تدل على مدى التشابُه بينهما ولا سيما في المنهج، وتدل على تأثُّر ابن تيمية بابن حزم:
المسائل التي خالف فيها الظاهرية الجمهور واختارها شيخ الإسلام ابن تيمية (الأحوال الشخصية أنموذجًا)، للدكتورة مهاء بنت سالم السويداء.
ابن تيمية وابن حزم والدراسات المقارنة (مقاربة في أخلاق العلم وأمزجة العلماء)، للدكتور حمزة النهيري.
موقف شيخ الإسلام ابن تيمية من الآراء الفقهية (الإمام ابن حزم أنموذجًا)، للباحث سفر بن ردة المالكي.
منهج الرد على النصارى بين ابن حزم وابن تيمية (دراسة تحليلية مقارنة)، للأستاذ سيدي محمد زهير.
منهج الإمام ابن حزم وابن تيمية في عقيدة الروح القدس ومفهوم النصارى عنه، للباحثة لطيفة مرتضى.
آراء ابن حزم الاعتقادية من خلال مؤلفات ابن تيمية، للباحث عبدالله بن محمد الزهراني.
أثر التكوين النسوي في شخصية ابن حزم وابن تيمية، للدكتور فؤاد بن يحيى الهاشمي.
أثر التكوين الرجولي بين ابن حزم وابن تيمية، للدكتور فؤاد بن يحيى الهاشمي.
القياس القطعي بين ابن حزم وابن تيمية، للدكتور سامي محمد الصلاحات.
اللغة والمعنى بين ابن حزم وابن تيمية، للباحثة فتحية مراح.
والغرض من الكشف عن علاقة ابن تيمية بابن حزم: الوصول إلى ما يتعلَّق بكتاب «رفع المَلام عن الأئمة الأعلام» لابن تيمية، الذي هو في أصْلِه مأخوذٌ عن ابن حزم الأندلسي في كتابه «الإحكام في أصول الأحكام»؛ إذْ خصَّص فيه فصلًا سمَّاه: (فصلٌ فيه بيانُ سبب الاختلاف الواقع بين الأئمة في صدر هذه الأمة)، ذكرَ فيه النقاط العشر التي توسَّع في شرحها ابنُ تيمية في «رفع المَلام» لبيان معاذير العلماء الربانيين.
وفي الجدول التالي ملخَّص النقاط العشر مقارنةً بنقاط ابن حزم:
ت

ملخص نقاط ابن تيمية التي ساقها في سياق إعذار العلماء

ملخصنقاط ابن حزم التي ساقها في سياق أسباب اختلاف العلماء

1

ألا يكون الحديث قد بلغه

ألا يبلُغ العالِمَ الخبرُ فيُفتي فيه بنصٍّ آخر بلَغه

2

أن يكون الحديث قد بلغه لكنه لم يثبت عنده

أن يقع في نفسه أنَّ راوي الخبر لم يحفظ وأنَّه وهم

3

اعتقاده ضعف الحديث باجتهادٍ قد خالفه فيه غيرُه

أن يقع في نفسه أنه منسوخ

4

اشتراطه في خبر الآحاد شروطًا يخالفه فيها غيرُه

أن يُغلِّب نصًّا على نصٍّ بأنه أحوط

5

أن يكون الحديث قد بلغه وثبت عنده لكنْ نسيه

أن يُغلِّب نصًّا على نص لكثرة العاملين به أو لجلالتهم

6

عدم معرفته بدلالة الحديث؛ إما لغرابة لفظه أو اختلاف استعمال اللَّفظ أو غير ذلك

أن يُغلِّب نصًّا لم يصحَّ على نصٍّ صحيح، وهو لا يعلم بفساد الذي غلَّبه

7

اعتقاده بأنَّ دلالة الحديث لا يؤخذ بها؛ إمَّا لأنَّ الأمر المجرد لا يقتضي الوجوب، أو لا يقتضي الفور، أو أن المعرَّف باللام لا عموم له، وغير ذلك

أن يخصص عمومًا بظنه

8

اعتقاده أن دلالة الحديث قد عارضَها ما يدل على أنها ليست مرادة؛ كمعارضة العام بالخاص، والمطلق بالمقيد، وغير ذلك

أن يأخذ بعموم لم يجب الأخذ به، ويترك الذي يُثبت تخصيصه

9

اعتقاده بأنَّ الحديث معارَض بغيره مما اتُّفق على ثبوته

أن يتأوَّل في الخبـر غير ظاهره بغير برهان؛ لعلةٍ ظنها بغير برهان

10

معارضته بما لا يعتقده غيرُه معارِضًا

أن يترك نصًّا صحيحًا لقول صحابيٍّ بلَغه، فيظن أنه لم يترك ذلك النصَّ إلا لعلمٍ كان عنده
عندما نقرأ هذه النقاط مجرَّدةً، نُدرك الصِّلة القويَّة بين كلام هذَين الإمامَينِ، إلا في نقطتين كانت الصِّلة ضعيفة، كالنقطة الخامسة عند ابن حزم التي يمكن إدراجها مع التي قبلَها ضمن النقطة الرابعة عند ابن تيمية، وكذلك النقطة السادسة عند ابن تيمية التي يمكن أن تُدرَج ضمن النقطة التاسعة عند ابن حزم؛ ولكن إذا قرأنا تفاصيل الأمثلة التي ذكرها كلٌّ منهما في هذا الباب، سنتيقَّن من مدى التطابق بينهما؛ مثال ذلك: النقطة الخامسة عند ابن تيمية (عن النسيان) التي لم نجد في نقاط ابن حزم ما يقابلها؛ لكننا نجد في مقدِّمة الفصْل الذي أوردَ فيه ابنُ حزم هذه النقاط قولَه عن العالِم بأنَّه (بشَر ينسى كما ينسى سائرُ الناس، قد تجد الرجل يحفظ الحديث ولا يحضره ذِكره حتى يُفتي بخلافه).
ولابن حزم فصلٌ آخَر شَبيه بهذا الفصل، وهو أكبر منه بقليل، وأكثر منه في التمثيل والتفصيل، بعنوان: (بَيَان أصْل الاخْتِلاف الشَّرْعِيِّ وأَسْبابه)، ولم أقف عليه فيما طُبِع من تراث ابن حزم؛ لكنْ رواه عنه تلميذُه الحافظ الحميدي في خاتمة كتابه «الجمع بين الصحيحين» (4 /323)، واستفاده منه ابنُ قيم الجوزية، فنقلَه بتمامه في كتابه «الصواعق المرسلة» في الفصل الثالث والعشرين، بعنوان (أسباب الخلاف الواقع بين الأئمة بعد اتفاقهم على أصل واحد وتحاكمهم إليه وهو كتاب الله وسنة رسوله)، ضمَّنَه رسالة ابن حزم هذه، ثم جُلَّ رسالة «رفع الملام» لشيخه ابن تيمية.
وأما رسالة ابن حزم فقد قال في خِتامِها: «فعلى هذه الوجوه ترَك بعضُ العلماء ما تركوا من الحديث ومن الآيات، وعلى هذه الوجوه خالفَهم نظراؤهم فأخذ هؤلاء ما ترَك أولئك، وأخذ أولئك ما ترَك هؤلاء، لا قصدًا إلى خلاف النصوص، ولا تركًا لطاعتها؛ ولكن لأحد الأعذار التي ذكرنا؛ إمَّا من نسيان، وإمَّا أنها لم تبلغهم، وإمَّا لتأويلٍ ما، وإمَّا لأخذٍ بخبر ضعيف لم يعلم الآخذُ به ضعفَ رواته وعَلِمَه غيرُه، فيأخذ بخبر آخر أصح منه أو بظاهر آية، وقد يتنبَّه بعضهم في النصوص الواردة إلى معنى، ويلوح منه حكم بدليلٍ ما، ويغيب عن غيره...».
وإنْ تعجَب فعجبٌ زعْمُ مَن قال بأنَّ ابن حزم كان يقع في أئمة الإسلام بالطعن والتشنيع والسبِّ والتقريع! وأنَّه لم يتأدَّب مع العلماء! وأنَّ لسانه في العلماء كسيف الحجَّاج بن يوسف الثقفي! وأنَّ الله جازاه من جنس عمله! وغير ذلك من طعونات في حق هذا الإمام؛ إما بدافع الخصومة المذهبية، أو بسبب الجهل بحقيقة حاله، وعدم التحقُّق مِن صِحة الدَّعاوى الكثيرة عليه، وكيف يكون ما قالوه فيهِ صوابًا وهو صاحب السبق في باب التقعيد لأعذار العلماء فيما خالفوا فيه النصَّ!