نقدنا العربي الحديث: مثاقفة أم احتذاء؟
د. وليد قصاب





يَعيش النقد العربي الحديث - إذا صحَّ أن هنالك نقدًا عربيًّا حديثًا - إشكاليَّة كبرى تتمثَّل في افتقاده منهجًا يُبلور هُوِيَّة ثقافيَّة ذاتية تُميِّزه من غيره، أو تَجعل له خصوصية حضارية.

وإنه - بسبب ذلك - نقدٌ مريض، مُبتلى بآفات كثيرة، نابعة كلها - في تصوُّري - من أنه نقد تابع مُقلِّد للنقد الغربي، يعيش جميع مشكلاته، وأزماته، وتقلُّباته، ومصطلحاته، وسَخافاته.

وإنَّ هذا التقليد لنقد يُعبِّر عن تصوُّرات ثقافة أخرى مختلفة حتمًا عن تصوراتنا العربية والإسلامية، ومُسْتَقًى من أدب آخر غير أدبنا، بكل ما يحمله هذا الأدب من قِيَم وذوق وحضارة وخصوصية؛ إن هذا التقليد أفقَدَ ما يُسمى النقد العربي الحديث أمرَين؛ هما:
الابتكار.
والهُوية.

فالمُقلِّد لا يَبتكِر، ولا سيَّما إن كان تقليدُه للآخرين "حَذو القُذَّة بالقذَّة" ذلك أنه لا يَرى إلا أفقًا واحدًا، ولا يَنظر إلا في اتجاه معيَّن؛ فهو أعشى عن كل ما حوله، مَبهور بما يأتي به المَتبوع، وهو يَعتقِد فيه العصمة والكَمال.

والمقلِّد لا أصالة عنده؛ أي لا هُوية، وهو عندئذ مغيَّب الشخصية، مُتماهٍ في الآخر، لابسٌ لبوسه، لا يرى إلا بعينَيه، ولا يسمع إلا بأذنيه.

ويَستتبع ذلك ويَنبني عليه أن ما يُسمَّى النقد العربي الحديث ليس فيه مِن العروبة إلا شكل الأحرف والكلمات التي يُكتب بها، ولكنها - بعد ذلك - ألفاظ وعبارات قد غرقت في بحر من العتمة والضبابية والطلسَمة؛ مما جعله مُبهمًا، صعب المنال، حتى على المتخصِّصين أنفسِهِم.

وأما مَعاييره وأسسه، وأما أحكامه ونتائجه، وأما استِحسانه واستقباحه، فهو كله مِن خارج إطاره العربي والإسلامي.

ويَزداد الأمر خطورةً بل سوءًا ألا تكون هذه المعايير بعيدةً عن هويته فحسب، بل أن تكون مُتجافية معها، مُصطدمة بها، معتدية عليها في كثير من الأحيان.

وإنَّ مثل هذا التجافي والاصطِدام والاعتداء لأمر - كما لا يُمكن أن يَخفى على أحد - لأبده مِن البَدَهيِّ؛ إذ إنَّ هذه المعايير مُنحدرة من ثقافة أخرى، ومِن أدب آخر، ومن ذوق آخر، وإنه - مهما التقَت الحضارات والثقافات والآداب - في أسُس ومَعايير معيَّنة، تُسمى المشترك الإنساني - فإن لكل منها خصوصيته، وما بالك إن كانت هذه الخصوصية مصدرها عقيدة ربانية، نزل بها دين سماويٌّ، أراده الله وحده دينًا للبشرية جمعاء، وأراد مُنْزِل هذا الدين - جلَّ جلاله - أن يكون حاملوه شهداءَ على الناس، لا أن يكون الآخَرون هم الشُّهداءَ عليهم.

إنَّ هذا النقد العربيَّ الحديث اليوم يُغيِّب ثقافتنا، يتجاهل منجزاتها بل يَحتقرها، يغير مصطلحاتها، ويَستبدل بها مُصطلحات الآخر.

لقد أصبح رجال عظماء في تراثنا العربي الإسلامي؛ كالخليل بن أحمد، والجاحظ، ، وابن جني، والآمدي، والقاضي الجرجاني، وعبدالقاهر الجرجاني، وابن رشيق، وابن سينا، والفارابي، وحازم القرطاجني، وعشرات غيرهم بل مئات من علمائنا وصانعي ثقافتنا؛ تلاميذ عند دوسوسير، وبارت، وجاك دريدا، وجرار جنيت، وجاكبسون، و تودوروف، وأمبرتو إيكو، وغريماس، وميشيل فوكو، ومئات غيرهم، وأصبحت آراء هؤلاء العلماء الأفذاذ تُحاكم وتُقوَّم بما ابتدعه هؤلاء الغربيون مِن القواعد والمعايير.

وما يبتدعه هؤلاء الغربيون عرضة في كل يوم للتبدُّل والتغيُّر، وصار الخروج عندهم على من سبقهم سنَّة متَّبعة، سواء ترتب على هذا الخروج حق أو باطل، جمال أو قُبْح، وسواء أكان الخروج إلى درب أقوم وأسَدَّ أم كان إلى درب مُبهَم معوجٍّ.

لم تعد مَسيرة هذا النقد الغربيِّ، الذي يَحتذيه نقدنا العربي، ويلاحق خطواته ذليلًا منبهرًا، مسيرةً خطيةً مُستقيمة، يتبنَّى فيها اللاحق ما أنجزه السابق، أو يتبنى الجميلَ منه على الأقل، ولكنها أصبحت مسيرةَ هدم وتقويض، تقويض ما سلف - بحلوه ومرِّه، وحقِّه وباطله - والانتقال إلى شيء جديد ما يلبث إلا حينًا قصيرًا من الدهر حتى يَخبو بَريقُه، ويتَلاشى ألقه، فيصبح مُجْتوى منبوذًا، ينبغي أن يُطرح.

ولست الآن في موطن نقد هذه المناهج الغربية، وبيان ما حملته من عُوار وتفاهات تحدث عنها الغربيون أنفسهم[1]، عندما راح لاحقُهم يُسفِّه سابقَهم، ويلعن مُتأخِّرُهم مُتقدِّمَهم، ولكني أقول: إنَّ على أدبنا العربي والإسلامي أن يبحث عن مذهبه الإبداعي الخاص، وأن يكون له منهجُه النقديُّ الخاص؛ فالمذاهب والمناهج لا تُستورَد؛ لأنها - في العادة - هوية حضاريَّة ذاتية، فيها الشخصية والثقافة، فيها فكر الأمة التي أنتجتها وعقيدتها وتُراثها وذَوقها، واستيرادها جاهزةً يعني استيراد ذلك كله.

المطلوب هو المثاقفة، والمثاقفة غير التبعية والاحتذاء، المثاقفة تعارُف بين الأمم والشعوب؛ ﴿ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ﴾ [الحجرات: 13]، المثاقَفة أخذٌ وعطاء، تخيُّر وانتقاء، فما كل ما يَصنعه الآخرون يَصلُح لغيرهم، ومِن ثمَّ فإن المنهج العربيَّ الإسلامي الذي ندعو إليه يقوم على المثاقَفة؛ أي: على التخيُّر والاصطِفاء، وهو تخيُّر يحفظ الهوية، ويَعرف الخصوصية، وهو منهج يستفيد مِن إنجازات الفكر الغربي - وإن فيه الكثير مما يُستفاد منه - ولكنه لا يَكتفي به وحده، ولا يَنظر إليه بعين الانبهار العمياء؛ إذ إنَّ فيه كذلك سفهًا كثيرًا، وسخفًا وبيلًا، ولكنه يُغربله في مَصفاة الهوية والعقيدة، ويَصطنع منه، ومِن إنجازات نقدنا العربي - في مراحله المختلفة - منهجًا عربيًّا إسلاميًّا حديثًا، يُبلور الهوية، ويصدر عنها.



[1] انظر ما سقناه في كتابنا " مناهج النقد الأدبي الحديث: رؤية إسلامية" دار الفكر – دمشق.