واقعية الاختلاف الفقهي ومداه
أ. د. أركان يوسف حالوب العزي


الحمد لله رب العالمين، والصلاة على المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
فإن الناظر إلى واقعنا الفكري والثقافي من مختلف الاتجاهات، ليلمس ذلك التسابق لتقديم ما يُسهم في رقي الأمة الإسلامية وتجنبها الرواسب التي تعيق حركتها، وممارسة دورها باعتبارها الأمة الوسط، وكونها خير أمة أُخرجت للناس، وهذا الأمر يستوجب من كل دارس وباحث في شؤونها تحرِّي القراءة الواعية والموضوعية، وأن ينأى بنفسه عن الميول والعصبية، وألا يقف أمام المناهج الفكرية المسورة بالكلية الإسلامية موقف التطرف الفكري والاتجاه نحو منطق الفردية، بل لا بد أن يجعل من الاختلاف في الرأي عنصرًا فاعلًا يُسهم في إتمام عملية البناء الفكري.

ولما قرَّر القرآن الكريم أن الاختلاف لا يخضع لمشيئة الإنسان، بل هو أمر تقرِّره سنن الكون؛ كما في قوله تعالى: ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ﴾ [هود: 118].

فليس غريبًا اختلاف البشر في الأفكار والتصورات، والعادات والتقاليد، بل نجد الاختلاف موجودًا في المجال التشريعي أيضًا، فنلاحظ الاختلاف بين الفقهاء بدرجة من الوضوح حتى إن ما أجمعوا عليه من القضايا النزر اليسير الذي لا يصعب معه حصر أو تحديد، وإن محاولة جمع الناس على رأي واحد في أحكام العبادات والمعاملات ونحوهما من فروع الدين، هو محاولة فيما لا يمكن إيقاعه، فإن الاختلاف في فهم الأحكام الشرعية أوجبته طبيعة النصوص الظنية[1]، وطبيعة اللغة العربية التي نزل التشريع على وَفقها.

إن البناء الفقهي الإسلامي لم ينشأ عن فراغ، وانما نشأ عن مناهج وأسس وضوابط علمية اتبعها أصحاب المذاهب في الاستنباط والاستخراج، ولقد توارث العلماء قديمًا، ودرَّسوا من بعدهم أن للعلم طرقًا ومراتبَ في التحصيل، وأن العالم يسمى عالِمًا بعد علمه بمواقع اختلاف العلماء، ووجوه استدلالهم، وحسن النظر، إذ كيف يكون عالِمًا من لم يضف علم غيره إلى علمه، ومن لم يقارن بين ما عنده وعند غيره، ويعلم الوجوه المرجحة عند كل قوم، فمن قعد عن ذلك السبيل، وظن أن العلم في قول واحد يعلمه، فقد جانب الصواب، وفوَّت إدراك الخير على نفسه، وردَّ من العلم ما هو أوثق من الذي في يديه، وخرج من طائفة العلماء إلى حد الأدعياء؛ قال الامام الشاطبي رحمه الله: (جعل الناس العلم معرفة الاختلاف)[2]، وما ورد عن عطاء أنه قال: (لا ينبغي لأحد أن يفتي الناس حتى يكون عالِمًا باختلاف الناس، فإنه إن لم يكن كذلك رد من العلم ما هو أوثق من الذي في يديه)[3].

ولعلم الاختلاف فوائد جمة أجملها الإمام النووي رحمه الله في تقدمة كتابه المجموع، فقال كلامًا نفيسًا ما نصه: (واعلم أن معرفة مذاهب السلف بأدلتها من أهم ما يحتاج إليه؛ لأن اختلافهم في الفروع رحمة، وبذكر مذاهبهم بأدلتها يعرف المتمكنُ المذاهبَ على وجهها، والراجح من المرجوح، ويتَّضح له ولغيره المشكلات، وتظهر الفوائد النفيسات، ويتدرب الناظر فيها بالسؤال والجواب، ويتفتح ذهنه، ويتميز عند ذوي البصائر والألباب، ويعرف الأحاديث الصحيحة من الضعيفة والدلائل الراجحة من المرجوحة، ويقوم بالجمع بين الأحاديث المتعارضات بظاهرها) [4].

وموضوع علم الاختلاف الفقهي هو المسائل الفقهية التي جرى فيها الاختلاف بين الفقهاء، فالباحث في هذا العلم يبحث فيما اختلف فيه أهل العلم من الأحكام الفقهية، بعد أن يحرر محل النزاع بينهم بأن يبيِّن محل الاتفاق إن وُجد، ومن ثم يشرع في بيان محل الاختلاف مع بيان أدلة كل فريق منهم، ويسوق حججهم، وما يرد عليها من اعتراضات وردود وسبل دفعها، حتى ينتهي ببيان ما يترجح له منها، والأسباب التي دعته إلى ترجيحه.

وإن ثبت أن الاختلاف علم له أسس وضوابط، فهل له مدى يحدُّه؟ وهل يمكن أن يصل مداه ليعم كل المسائل التي تناولها العلماء بالبحث والاستقصاء؟

وقد أجاب عن هذا التساؤل قديمًا الإمام الشافعي رحمه الله تعالى حين حاوره أحدهم قائلًا: (إني أجد أهل العلم قديمًا وحديثًا مختلفين في بعض أمورهم، فهل يسعهم ذلك؟ فقلت له: الاختلاف من وجهين أحدهما: محرم، ولا أقول ذلك في الآخر، قال: فما الاختلاف المحرم؟ قلت: كل ما أقام الله به الحجة في كتابه، أو على لسان نبيه منصوصًا بيِّنًا لم يحل الاختلاف فيه لمن علمه، وما كان من ذلك يحتمل التأويل ويدرك قياسًا، فذهب المتأول أو القايس إلى معنى يحتمله الخبر أو القياس، وإن خالفه فيه غيره، لم أقل: إنه يضيق الخلاف في المنصوص) [5].

فبيَّن الإمام الشافعي أن للاختلاف مدًى واحدًا لا يجوز مجاوزته، فما بُيِّن حكمُه بنصوص قطعية، فهذا (الضرب الذي لا يسوغ فيه الاختلاف، كأصول الديانات من التوحيد، وصفات الباري عز اسمه، وهي تكون على وجه واحد لا يجوز فيها الاختلاف، وكذلك في فروع الديانات التي يعلم وجوبها بدليل مقطوع به؛ مثل: الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، وكذلك المناهي الثابتة بدليل مقطوع به، فلا يجوز اختلاف القول في شيء من ذلك)[6]، فالاختلاف فيها محرم، وهذا النوع ما يعبر عنه العلماء بالاختلاف المذموم، ومنهم من يعبر عنه باختلاف التضاد.

وما ثبت حكمه بدليل ظني (يسوغ فيه الاختلاف، وهي فروع الديانات إذا استخرجت أحكامها بأمارات الاجتهاد ومعاني الاستنباط، فاختلاف العلماء فيه مسوغ، ولكل واحد منهم أن يعمل فيه مما يؤدي إليه اجتهاده)[7] ، ولا يمنع مودَّة، ولا يلزم منه نفي الإيمان والأخوة في الدين، ويعبر أيضًا عن هذا النوع من الاختلاف بـ (اختلاف تنوع)، وهذا النوع هو الذي جرى بين فقهاء المسلمين وتفاوتت فيه وجهات نظرهم.

وختامًا: أسأل الله تعالى أن ينفعنا بما علَّمنا، ويعلِّمنا ما ينفعنا، وأن يجعل علمنا وعملنا خالصًا لوجهه الكريم، إنه نعم المولى ونعم النصير، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
-----------------------------------
[1] من المعلوم ان المراد بالنصوص هنا النصوص الظنية اذ لا اختلاف في النصوص القطعية دلالة وثبوتا.

[2] الموافقات في أصول الفقه، تأليف: إبراهيم بن موسى اللخمي الغرناطي المالكي، دار النشر: دار المعرفة - بيروت، تحقيق: عبد الله دراز، 4 /161.

[3] جامع بيان العلم وفضله، تأليف: يوسف بن عبد البر النمري، دار النشر: دار الكتب العلمية - بيروت - 1398، 2 /95.

[4] المجموع 1 /5.

[5] الرسالة، تأليف: محمد بن إدريس أبو عبد الله الشافعي، تحقيق: أحمد محمد شاكر، القاهرة - 1358 - 1939، 1 /560.

[6] قواطع الأدلة في الأصول، تأليف: أبو المظفر منصور بن محمد بن عبد الجبار السمعاني، دار النشر: دار الكتب العلمية - بيروت - 1418هـ - 1997م، تحقيق: محمد حسن محمد حسن إسماعيل الشافعي، 2/326.

[7] المصدر نفسه.