البصيرة في دعوة غير المسلمين



الدعوة إلى الله - تعالى - مهمَّة الأنبياء والرُّسُل - عليهم الصلاة والسلام - قال - تعالى -: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا} [النحل: 36]، فبعَث الله في كلِّ طائفةٍ وجيل مَن يأمُرُهم بعبادته وحدَه لا شريك له، ويُخرِجهم من الظلمات إلى النور، من لدن نوحٍ حتى ختَمَهم الله بإمام الدُّعاة نبيِّنا محمد -صلى الله عليه وسلم - الذي قام بالدعوة أعظمَ قيام بأكمل طريقة وأهداها، ومضى على ما كان عليه الرسولُ -صلى الله عليه وسلم - خيرُ القرون، وهم الصحابة - رضي الله عنهم - والتابعون لهم بإحسان، يُوصِي به الأوَّل الآخِر، ويقتَدِي فيه اللاحق بالسابق، وهم في ذلك كلِّه بنبيِّهم محمد -صلى الله عليه وسلم - مُقتَدُون، وعلى منهاجه سالِكون؛ كما قال - تعالى - في كتابه العزيز: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108]، فإن كان قوله: {وَمَنِ اتَّبَعَنِي} معطوفًا على الضمير في {أَدْعُو } ﴾، فهو دليلٌ على أنَّ أتباعه هم الدعاة إلى الله، وإنْ كان معطوفًا على الضمير المنفصل، فهو صريحٌ في أنَّ أتباعه هم أهل البصيرة فيما جاء به دون غيره، وكلاَ المعنيَيْن حقٌّ، كما قرَّر ذلك العلماء.


ولذا فإنَّ البصيرة من فرائض الدين، وقد ذكَرَها شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب في كتاب "التوحيد"، في باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله، قال: "فيه مسائل... الثالثة: أنَّ البصيرة من الفرائض"؛ أي: لما جعل أتباعه مَن كان على بصيرة ودعا إلى الله على بصيرة، ومَن ليس كذلك فليس منهم حقيقةً، دَلَّ ذلك على أنَّها من الفرائض؛ لأنَّ اتِّباعه فرض.

وإذا كانت البصيرة لها هذه المنزلة والرتبة من الدين، فإنَّ فَهْمَ مدلولها حتمٌ على كلِّ قائم بالدعوة إلى الله، وفي ظِلِّ غِياب مفهوم كثيرٍ من المصطلحات الشرعيَّة لا بُدَّ من أن نقف على مفهوم البصيرة في اللغة والاصطِلاح؛ ليَتبيَّن المفهوم التام لهذه الكلمة العظيمة.

جاء في "لسان العرب": البصيرة: الحجَّة والاستِبصار في الشيء، والبصر نَفاذٌ في القلب، وبصر القلب نظره وخاطره، والبصيرة عقيدة القلب.

قال الليث: البصيرة: اسمٌ لما اعتُقِد في القلب من الدين وتحقيق الأمر، وقيل: البصيرة: الفطنة.

وفعل ذلك على بصيرةٍ؛ أي: على عَمْدٍ، وعلى غير بصيرة؛ أي: على غير يقين، والبصيرة: العبرة، يُقال: أمَا لك بصيرة في هذا؟ أي: عبرة تَعتبر بها.

قال الشاعر:
فِي الذَّاهِبِينَ الأَوَّلِي *** نَ مِنَ الْقُرُونِ لَنَا بَصَائِرْ

أي: عِبر، والبصيرة: الثبات في الدين، والبصيرة: الشاهد؛ قال - تعالى -: {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} [القيامة: 14]؛ ا. هـ.

وقال الراغب: ويُقال لقوَّة القلب المدركة: بصيرة وبصر، نحو قوله - تعالى -: {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق: 22].

وجمع البصر: أبصار، وجمع البصيرة: بصائر، ومنه: "على بصيرة"؛ أي: معرفة وتحقق.

وحولَ هذه المعاني اللغويَّة دارَتْ أقوال المفسِّرين، وفي الوقوف عليها زادٌ للقائم بالدعوة إلى الله.

قال إمام المفسِّرين ابن جرير: على بصيرة بذلك ويقين علم مِنِّي به أنا، ويدعو إليه على بصيرة أيضًا مَن اتَّبعني وصدَّقني وآمَن بي.

قال ابن عباس: يعني: أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - كانوا على أحسن طريقة، وأقصد هداية، معدن العلم، وكنز الإيمان، وجند الرحمن.

وقال ابن كثيرٍ: يدعو إلى الله على بصيرةٍ من ذلك ويَقِين وبرهان، هو وكلُّ مَن اتَّبَعه يدعو إلى ما دعا إليه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على بصيرةٍ ويقينٍ وبرهان عقلي وشرعي.

وقال البيضاوي: {عَلَى بَصِيرَةٍ}: بيان وحجة واضحة غير عمياء.

وفي "تنوير المقباس": على دين وبيان.

ومن المعاني الجامعة ما ذكَرَه البقاعي في "نظْم الدرر"، حيث قال: {عَلَى بَصِيرَةٍ}؛ أي: حجَّة واضحة من أمري، بنظري الأدلَّة القاطعة والبراهين الساطعة، وترك التقليد الدالِّ على الغَباوة والجُمُود؛ لأنَّ البَصِيرة هي المعرفة التي يميز بها الحق من الباطل دينًا ودنيا، بحيث يكون كأنَّه يُبصِر المعنى بالعين.

وقال ابن الجوزي، والقرطبي، والبغوي: {عَلَى بَصِيرَةٍ}: على يقينٍ وحقٍّ، والبصيرة هي المعرفة التي تُميِّز بها بين الحق والباطل.

وقال ابن القيِّم: البصيرة: نورٌ يقذفه الله في القلب، يرَى به حقيقةَ ما أخبَرَتْ به الرسل كأنَّه يشاهده رأيَ عين.

وفي "التحرير والتنوير"؛ لابن عاشور: {عَلَى بَصِيرَةٍ}: {عَلَى} للاستِعلاء المجازيِّ المُراد به التمكُّن مثل: {عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 5]، و(البصيرة) فعيلة بمعنى فاعلة، وهي الحجَّة الواضِحَة، والمعنى: أدعو إلى الله ببصيرة متمكِّنًا منها، ووصفُ الحجة ببصيرة مجازٌ عقلي.

والبصير: صاحبُ الحجَّة؛ لأنَّه صار بها بصيرًا بالحقيقة، ومثله وصف الآية بمبصرة في قوله - تعالى -: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً} [النمل: 13]، وبعكسه يُوصَف الخفاء بالعمى؛ كقوله - تعالى -: {وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ} [هود: 28].

وقال السعدي: {عَلَى بَصِيرَةٍ} من ديني؛ أي: علمٍ ويقين من غير شك ولا امتِراء ولا مرية.

ومن حاصِل هذه الأقوال يتبيَّن لنا شمولُ هذه الكلمة على معانٍ عظيمة من: العلم، والمعرفة، والتحقُّق، واليقين، والبيان، والبرهان العقلي والشرعي، والعبرة، والحجَّة، والفِطنة، والقصد، والثَّبات على الدين، وكلُّ هذه المعاني وغيرها ممَّا ينبغي أن يتحلَّى به الداعية إلى الله ويستَعلِي به في دعوته، ولقد بلَغ النبي -صلى الله عليه وسلم - الغاية في العلم والمعرفة والحجَّة والبيان.

قال ابن باديس:
كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو إلى الله على بيِّنة وحجَّة يحصل بها الإدراك التامُّ للعقل، حتى يصير الأمرُ المدرك واضِحًا لديه كوضوح الأمر المُشاهَد بالبصر، فهو على بيِّنة ويَقِين من كلِّ ما يقول ويفعل، وفي كلِّ ما يدعو من وجوه الدعوة إلى الله في حياته كلها وفي جميع أحواله.

إنَّ تطبيق هذه المعاني على واقِع القائِمين بالدعوة، يبيِّن مَدَى الانفِصام الشديد بين الدُّعاة ودعوتهم.

ولذا فإنَّ فهْم الداعي إلى الله لمعاني هذه الكلمة العظيمة وتطبيقها في نفسه وفي دعوته، من أهمِّ المهمَّات التي ينبَغِي السعيُ إليها، فلا يَكفِي العلم في القائم بدعوة غيرِ المسلمين ما لم يكن لدَيْه حجَّة دامِغَة، ومعرفة صادقة، وقصْد صحيح، وفطنة حادَّة، وبيان واضِح، ويَقِين راسِخ، واستِعلاء كامل، فهذه المعاني وغيرها من البصيرة التي يجب على كلِّ داعية أن يسعى إلى تحصيلها، والله الموفِّق.
______________________________ ___________________________

الكاتب: د. عبدالله بن إبراهيم اللحيدان