كتابة البحث
أحمد محمد عبد الرؤوف المنيفي




إرشادات للباحث والمؤلف المبتدئ

(3) كتابة البحث


تمهيد:
كما تقدَّم في المقال السابق، فإن عنوانَ الفصل أو المبحث هو فكرة عامَّة مستنبَطة من مجموعةٍ واسعةٍ ومتنوعةٍ من المعلومات، أمَّا المسائل الفرعية وعناوين الموضوعات، فهي معانٍ أو أفكار جزئية عامَّة يستنبطها الباحثُ من المعلومات التي تقع تحت عنوانِ هذا الفصل، ويتدرَّج الباحث في عملية الاستنباط، فيبدأ أولًا باستنباط عناوين المباحث أو الفصول، ثم يقوم بتجميع المعلومات التي تتعلَّق بكلِّ مبحث، ويقوم باستنباط أفكارٍ رئيسة منها، ثم يكوِّن من هذه الأفكار الرئيسية عناوينَ الموضوعات والمسائل الفرعية، ويستعمل الباحث في ذلك مَلَكَة الاستنباط التي تحصل له من تدارُس طرق الفقهاء في استنباط المبادئ العامة والقواعد الكليَّة في الشريعة، وقد تقدَّم في المقال السابق أنَّ مِن أهمِّ الكتب الحديثة التي تُعَلِّم مَلَكَة الاستنباط: كتابَ نظريةِ المصلحة في الفقه الإسلامي؛ للدكتور حسين حامد حسَّان، أمَّا الكتب القديمة، فمِن أهمِّها مبحث الفَرْق بين المصلحة والبدعة في كتاب الاعتصام للشاطبيِّ، ومبحث العموم المعنوي في كتاب الموافقات للشاطبيِّ.

1- استنباط عناوين الفصول والمباحث:
استنباط عناوين الفصول أو المباحث الرئيسية هو أول عمل يقوم به الباحث، ويكون قبل تدوين المعلومات وجمعها في البطاقات أو الدفاتر؛ لأن جمع وتدوين المعلومات يتمُّ على أساس هذه الأفكار والعناوين، ثم يتمُّ بعد ذلك جمعُ المعلومات وتوزيعها على المباحث التي تمَّ استنباطُها، ويقوم الباحث باستنباط عناوين المباحث من واقع قراءته في المراجع المتصلة بالموضوع الذي يبحث فيه، ويستخدم في ذلك مَلَكَة الاستنباط التي تدرَّب عليها في المقال السابق، وعندما يريد استنباطَ عنوان أو فكرةِ مبحث، فإن عليه أن يبحث عن فكرةٍ عامة تعبِّر عن مجموعات واسعة من المعلومات، أو بمعنى آخر يندرج فيها قِسْم كبير من المعلومات التي قرأها في الكتب والمراجع المختلفة للبحث، وإذا تمكَّن من استنباطِ فكرةٍ جديدة، فإنه يجعل منها عنوان فصلٍ أو مبحث رئيسيٍّ، وكلما كانت الفكرة جديدةً، كان الإبداع والتميُّز متوفِّرًا في البحث.

ويجب أن تستوعب المباحثُ الرئيسية التي يستنبطها الباحث كافَّةَ الجوانب المتعلِّقة بموضوع البحث، وهذا ما يسمَّى بشرط الإحاطة في البحث العلميِّ، ولكن هذا الشرطَ نسبيٌّ، يختلف من موضوعٍ إلى آخر، وحتى في الموضوع الواحد يختلف من باحث إلى آخر، والمعيار فيه أن يجد القارئ أن الباحث قد استوفى فكرةَ البحث أو الكتاب، وأوصلها للقارئ واضحةً وكاملةً بدون نقص؛ فإذا وجد القارئ نقصًا في أحد جوانب الفكرة التي يهدف الكتاب إلى توصيلها، فإن شرط الإحاطة يتخلَّف.

وفي مقابل ذلك يجب ألا يستطرد الباحث أو المؤلِّف إلى مباحثَ لا تخدم هدف الكتاب وفكرتَه؛ فمثل هذا الاستطراد يشكل عيبًا في البحث أو الكتاب، ويُضْعِف من قيمته العلمية، فلا بد أن يوجد ارتباط قويٌّ بين كل مبحث وبين فكرة الكتاب العامة، مثل أن يكون المبحث جزءًا من موضوع البحث، أو مرحلة من مراحله، أو يصعب توضيح فكرة الكتاب بدون هذا المبحث... إلخ.

ويشترط في عناوين الكتاب والمباحث والعناوين الفرعية أن تكون جميلةً وجذابةً تجذب القارئ، وأن تكون في نفس الوقت قصيرةً بقدر الإمكان، كما يجب أن تدلَّ العناوين على المحتويات والمعلومات التي تحت العنوان بصدق، من غير خداع، وليحذر الباحث أو المؤلِّف من الغشِّ؛ كأن يكتب عنوانًا مهمًّا وجذابًا ليجذب القارئ، في حين أنه لا يعبِّر بصدق عن المحتويات.
ويستطيع الباحث أن يسترشد بالكتب والرسائل التي تناولت موضوعَ بحثِه؛ وذلك لكي يستفيد منها في تخطيط بحثه، لكن يجب أن يحرص أن يكون معظم الأفكار والعناوين في البحث مستنبطةً وجديدةً؛ حتى يحقِّق شرط الجدَّة والابتكار في بحثه.

2- استنباط عناصر وفقرات البحث:
بعد استنباط المباحث الرئيسية، فإنَّ على الباحث أو المؤلِّف أن يبدأ بجمع المعلومات المتعلِّقة بهذه المباحث من المراجع ومصادر البحث، ويقرأ الباحث الكتب والمراجع، وكلما وجد نقطةً أو فكرةً تتعلَّق بمبحث معين يقوم بتدوينها، وعادة يتخذ الباحثون إحدى طريقين لجمع المعلومات وتدوينها: الأولى هي نظام البطاقات، وفي هذه الطريقة يُخصَّص لكلِّ مبحث ظرفٌ، ويقوم الباحث بتوزيع البطاقات المدوَّن فيها المعلومات على المباحث من خلال وضع كلِّ بطاقة تتعلَّق بمبحث معينٍ في الظرف الخاص بهذا المبحث، أمَّا الطريقة الثانية، فهي أن يقسم الباحث الدفتر إلى أقسام بعدد مباحث الكتاب، ثم يدوِّن المعلومات المتعلِّقة بمبحث معين في القسم الخاص بهذا المبحث داخل الدفتر، وفي كلِّ الأحوال وبعد أن ينتهي الباحث من جمع وتدوين المعلومات، فإنه يبدأ بعملية استنباط أكثر عمقًا للعناصر ومجمل فقرات الكتاب.

استنباط العناصر:
بعد أن تكتمل المعلومات الخاصة بمبحث معين، فإن على الباحث أو المؤلِّف أن يقوم بتحليل هذه المعلومات، واستنباط أفكار رئيسية تعبِّر عنها جميعها، ثم يكون من هذه الأفكار عناصر أو عناوين فرعية داخل المبحث؛ فمثلًا إذا كان المبحث يتحدَّث عن قاعدةٍ فقهية، فإن الباحث يستنبط أفكارًا رئيسيةً من المعلومات التي تمَّ تجميعها لهذه القاعدة؛ مثل: مفهوم القاعدة، ومصادرها أو أدلتها، ووجه الاستدلال بها في المبحث... إلخ، وتكون هذه الأفكار الرئيسية المتعلِّقة بالقاعدة الفقهية هي العناوين والعناصر الفرعية داخل المبحث، ويلاحظ الباحث دائمًا أن تكون العناصر والأفكار الفرعية التي استنبطها شاملةً لكلِّ المعلومات المتعلِّقة بفكرةِ المبحث وتستوعبها جميعها.

ويجب أن تحقِّق العناصر والعناوين الفرعية شرطَ الإحاطة بجوانب الموضوع المختلفة؛ أي: أن تؤدِّي العناوينُ والعناصر الفرعية إلى إيضاح فكرة المبحث كاملة للقارئ، فإذا وُجِد نقصٌ في أحد جوانب الفكرة، فإن الباحث يتحمَّل مسؤولية إكمال هذا النقص من خلال جمع معلومات جديدة، واستنباط الأفكار والعناوين الناقصة منها.

ويجب أن تكون العناصر والعناوين الفرعية مرتبطةً بفكرة المبحث، وأي عنوان فرعيٍّ لا يرتبط بفكرةِ المبحث ولا يؤدِّي دورًا فيها، فإن على الباحث أن يستبعده مهما كان حجم أو نوع المعلومات التي يشملها، أو الجهد الذي بذل في جمعها؛ لأن عدم وجود ارتباط بين العناصر الفرعية في المبحث وبين فكرة المبحث يُضْعِف من قيمة البحث العلمية.

استنباط الفقرات:
عندما ينتهي الباحث من تكوين العناصر والعناوين الفرعية، فإن عليه أن يبدأ باستنباط أفكار من المعلومات التي تتعلَّق بالعنصر، ويجعل هذه الأفكار محورَ الفقرات.

وقد تكون الفكرةُ التي هي محور الفقرة دليلًا معينًا؛ نصًّا أو حجةً فكريةً، وهنا ينبغي على الباحث أن يشرح الدليل شرحًا واضحًا ومنظَّمًا، وأن يُبيِّن وجه الاستدلال به، ووظيفته أو دوره في تأييد فكرة المبحث، مع الحرص على أن تكون النتيجة التي توصَّل إليها من الدليل تصلح منطقيًّا لأن تؤخذ منه، فلا يجوز له أن يتعسَّف في الاستنتاج، وفي تحميل الدليل نتيجةً لا يحتملها ولا يؤدِّي إليها، كما يجب أن يكون الدليل منتجًا في الاستدلال، بمعنى أن تكون هناك فائدةٌ من الإتيان به، فإذا كان لا يرتبط بفكرة المبحث ولا يؤدِّي دورًا مهمًّا في إثباتها أو تأكيدها، فإنه لا يصحُّ الإتيان به، وعلى الباحث ألا يُجْهِد نفسَه ويستنفذ طاقته في شرح حجة المخالف ودليله على حساب حجته هو، ومن ثَمَّ يصل إلى حجَّته فلا يعطيها حقَّها من الشرح والبيان، بل يجب أن يُولِيَ حجته ودليله الاهتمامَ الأكبر.

وأمَّا إذا كانت الفقرةُ استنباطَ فكرةٍ جديدة، أو بيانًا لفكرة تُعَدُّ جزءًا من موضوع العنصر أو العنوان الفرعيِّ، فإن الباحث يتوخَّى الإحاطة والوضوح في بيان الفكرة، بمعنى أن تصل فكرة الفقرة واضحةً وكاملةً للقارئ، فعلى الباحث أن يتجنَّب وضع عبارات غير واضحة، أو أن ينقص البيان نقصانًا يمنع وصول الفكرة كاملةً للقارئ، ومن أحسن ما يوضِّح معنى الفقرة ويوصل فكرتَها للقارئ ضربُ الأمثلة، بل إن بعض الفقرات لا يمكن شرحُها إلا بالأمثلة، والباحث الفطن يعتني عنايةً خاصَّة بالأمثلة، ويقلب مختلف المراجع والكتب من أجل أن يعثر على مثال يوضِّح الفقرة للقارئ.

ويجب أن تكون كلُّ فقرة مرتبطةً بفكرةِ المبحث ارتباطًا قويًّا، فلا يستطرد الباحث إلى فقرات لا تؤدِّي وظيفةً أو دورًا في المبحث.
ويجب على الباحث أن يحرص وهو يكتب الفقرات على ألا يقع في التناقض؛ كأنْ ينفي شيئًا في فقرة سبق أن أثبته، أو أن يقرِّر رأيًا أو نتيجةً تناقض فكرة المبحث، أو نحو ذلك من صور التناقض الذي يمكن أن يقع فيه الباحث.

وعلى الباحث أن يكتب الفقرات بأسلوبه، فلا ينقل عن المراجع نصًّا، بل يقرأ عن الفكرة من كتب ومراجعَ متعددة، ثم يقوم بصياغتها والتعبير عنها بأسلوبه الخاص، وقد شرحتُ في المقال الأول كيف يكتسب الباحث مَلَكَة الكتابة والتعبير عن الأفكار، وذكرت أن هذه المَلَكَة تحصل بحفظ المنثور والمنظوم من كلام العرب القديم، وهي الأشعار والخُطَب الموجودة في كتب الأدب المشهورة.

والإضافة العلمية والابتكار مطلوبةٌ في الفقرات، وتحصل بأن يستنبطَ الباحث فقراتٍ مبتكرةً من معلومات متفرِّقة مأخوذة من مراجع وكتب متعددة، وهذه الإضافة هي التي تعطي البحث قيمةً علميةً كبيرةً، وعندما يقوم الباحث باستنباط عناوين وأفكار جديدة للبحث، فإنه سيحتاج حتمًا إلى كتابة فقرات مبتكرة وجديدة تحت هذه العناوين والأفكار؛ فالابتكار والجدة في البحث تحصل تلقائيًّا بمجرد النجاح في ابتكار المباحث الرئيسية والعناوين الفرعية.

مراجعة البحث:
مِن أهم ما يأخذ به الباحث نفسَه أن يراجع البحث بعد إكماله، ويقوم بإجراء إصلاحات في العبارات والفقرات والترتيب والعناوين، وسوف يكتشف الباحث بدون شك أن هناك أشياءَ كثيرةً بحاجةٍ إلى تعديل وإصلاح عندما يبدأ بمراجعته، ولكن على الباحث ألا يكتفي بمراجعة البحث بنفسه، بل يلجأ إلى أصحاب الخبرة ليحصل على مساعدتهم في ذلك، ومِن أهمِّ أصحاب الخبرة الأكاديميون العاملون في مراكز البحوث العلمية، وقد نشأت مؤخرًا بعض المراكز المثمرة في مساعدة الطلبة والباحثين؛ مثل: مركز دارس في السعودية، ولا بدَّ أن يعرج الباحث أو المؤلف - إذا استطاع - على هذا النوع من المراكز في مشواره العلميِّ؛ ليكتسب منه التوجيه وأكبر قَدْر من المهارة والاحتراف.

والحمد لله رب العالمين