العقلية الإسفنجية

لقد أضحت وسائل التواصل في عصرنا الحاضر تقذف بكمٍّ هائل من المعلومات والمعارف في كافة المجالات والتخصصات، التي لا يُعرَف مصدرها ولا يُعلَم صحتها، فتتلقفها العقول وتتلقاها القلوب في اتجاهين متباينين، ومسارين مختلفين:
الاتجاه الأول: عقلية تتشرب كل وارد، وتمتص كل شارد، تقبله بلا نظر، وتُسلِّم به دون تفكير، وتتأثر به دون تمحيص، بل قد يصبح عقيدة يدين الفرد بها، وفكرًا يؤمن به، ويدعو إليه، ويدافع عنه، ويوالي عليه.

الاتجاه الثاني: عقلية تميز الموارد، وتمحص الأفكار، وتنتقد الآراء، فتقبل النافع المفيد، وترفض الضار المؤذي.

وبالنظر المنهجي والتفكير المنطقي نرى أن الوقائع والأحداث والأخبار والأفكار تختلف درجة أهميتها ومستوى تأثيرها بحسب مجالها المعرفي:
فالأمور والأحوال الحياتية العامة والعابرة (سياسية، اقتصادية، اجتماعية، إعلامية)، لا يكلف المرء نفسه العناء في متابعتها، فضلًا عن الاهتمام بها، أو إخضاعها للتفكير النقدي والمنهج التحليلي؛ لاحتمالها الصدق والكذب، والصحة والخطأ، ولقابليتها للتغير والتقلب بحسب الأهواء الشخصية، والاعتبارات النفعية.

أما الأفكار العلمية، والفرضيات المعرفية، فهذه يحتاج الفرد التوقف عندها والتأمل فيها من حيث طبيعتها وحقيقتها، ومصدرها ودليلها، وقربها وبعدها من الثوابت الدينية، والأصول الشرعية؛ حتى لا يصبح الفرد أسيرًا للاستلاب الفكري والعقلي الجمعي.

والمتأمل في التاريخ والواقع يجد أن الانحرافات الفكرية والتغيرات المجتمعية إنما هي نتاج الاستجابة النفسية، والقابلية الذاتية، والعقلية الإسفنجية للأفكار الوافدة والتصورات المحدَثة.

ومضة:
وجَّه شيخ الإسلام ابن تيمية تلميذه ابن القيم إلى كيفية التعامل مع الأفكار الجديدة والموارد الحديثة بقوله: "قال لي شيخ الإسلام رضي الله عنه، وقد جعلت أورد عليه إيرادًا بعد إيراد: لا تجعل قلبك للإيرادات والشُّبُهات مثل السفنجة، فيتشرَّبها، فلا ينضح إلا بها، ولكن اجعله كالزجاجة المصمتة، تمر الشبهات بظاهرها ولا تستقر فيها؛ فيراها بصفائه ويدفعها بصلابته، وإلا فإذا أشربت قلبك كل شبهة تمر عليها، صار مقرًّا للشبهات"؛ [مفتاح دار السعادة، (١/ ٤٤٣)].

______________________________ __________________________
الكاتب: علي بن حسين بن أحمد فقيهي