حال المؤمن المقدم على الابتلاء
الدنيا - كما نعلم - ليست للمؤمن الحق بدار بقاء، وإنما هي دار ابتلاء وفتنة، وبذلك قالت ودلت كل النصوص والآثار مما يطول ذكره عن كتاب ويحتاج إلى مجلدات، فماذا على المؤمن أن يفعل عندما يقدم على الابتلاء وتتقاذفه الفتن؟
أولًا: أن يوقن بأن ما كتبه الله في اللوح المحفوظ وأجرى به القدر هو الأصوب والأنفع إن لم يكن عاجلًا فآجلًا؛ فموسى عليه السلام وأصحاب السفينة رأوا في بادئ الأمر أن ما فعله الخضر عليه السلام شيئًا إِمْرًا، وموسى ووالدا الغلام رأوا في قتل الغلام شيئًا نكرًا، وموسى رأى أن الخضر كان يجب أن يتقاضى أجرًا على إصلاح الجدار، ولم يروا ما قدر الله في اللوح المحفوظ من خير لأهل السفينة، ولا للغلام ووالديه، ولا للأيتام أبناء الرجل الصالح.
يقول الله تعالى: {وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا} [الإسراء: 11]، ويقول الحق تبارك وتعالى: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم ْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} [يونس: 11]، فالإنسان عجول، ولا يرى إلا تحت قدمه، ولا يدرك ما قد خُبِّئ له في الغيب، ولن يستطيع مع القدر صبرًا، ويلزمه كي يدرك ذلك أن يقوى يقينه بالله، وأن يوطن نفسه على المجاهدة؛ ولأجل ذلك فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصحابته ولنا: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء، فلا تقل: لو أني فعلتُ، كان كذا وكذا، ولكن قُلْ: قدَّر الله وما شاء فعل، فإن "لو" تفتح عمل الشيطان».
ثانيًا: أن يلوذ بالدعاء؛ قال الإمام ابن باز: "هناك أقدار معلقة على أشياء يفعلها الإنسان، فالله يعلم كل شيء ولا تخفى عليه خافية، قد جعل البر من أسباب زيادة العمر، وصلة الرحم، كذلك وجعل المعاصي والسيئات من أسباب نزع البركة، ومن أسباب قصر الأعمار إلى غير ذلك".
فالحاصل: أن هناك أقدارًا معلقةً توجد بأسبابها، ومعلقة عليها، وهناك أقدارًا محكَمَة ليس فيها تغيير، لا تُغيَّر بالدعاء، ولا بغير الدعاء، كالشقاوة، والسعادة، والآجال المضروبة، والمحكمة، إلى غير ذلك، وذهب بعض أهل العلم إلى أن كل شيء يمكن تغييره؛ لأن الله قال: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39]، وأن الله جل وعلا أمر بالدعاء، وشرع الأسباب، وعلَّق ما يشاء على ما يشاء؛ علق الشقاوة على شيء، والسعادة على شيء، وهو حكيم عليم يعلم ما يصير إليه أمر العبد.
فإذا اجتهد العبد في طاعة الله، وسأل ربه أن ينجيه من الشقاوة إلى السعادة فإن هذا قد يقع، ويكون القدر ليس محتمًا، بل معلقًا، فيُروى عن بعض السلف، وعن عمر أيضًا أنه كان يقول: ((اللهم إن كنت كتبتني شقيًا، فاكتبني سعيدًا))؛ هذا قاله جماعة من أهل العلم.
والمشهور عند أهل العلم والأكثرين: هو الأول، وأن الشقاوة والسعادة والآجال مفروغ منها، وهذا ما يدل عليه الحديث الصحيح حديث علي رضي الله عنه أن الصحابة قالوا: ((يا رسول الله، هذا الذي نعمل أهو في أمرٍ قد مضى، وفُرغ منه، أو في أمر مستقبل؟ قال: بل في أمر قد فُرغ، ومضى وفرغ منه، قالوا: يا رسول الله، ففيمَ العمل؟ قال: اعملوا فكلٌّ ميسر لِما خُلق له، أما أهل السعادة، فيُيَسَّرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة؛ ثم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل: 5 - 10].
ولأن الله عز وجل هو من بيده أن يوفِّق العباد لأسباب توصلهم إلى ما قدَّر لهم، توصل السعيد إلى السعادة، وتوصل الشقي إلى الشقاوة، ولا حول ولا قوة إلا بالله، كل ميسر لما خلق له؛ فقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدعاء والاستخارة عند كل أمر؛ عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما، قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها، كالسورة من القرآن، يقول: «إذا همَّ أحدكم بالأمر، فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم؛ فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علَّام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري» - أو قال: عاجل أمري وآجله - «فاقدره لي، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال: عاجل أمري وآجله - فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم أرضني به، ويُسمِّي حاجته»، فدعاء الاستخارة بمثابة تفويض من العبد لرب العزة بأن يُمضيَ عليه من الأقدار ما هو صواب ونافع له في الآجل والعاجل، فعلى العبد ألَّا يغفُلَ عن ذلك.
ثالثًا: روى الإمام مسلم عن صهيب الرومي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عجبًا لأمر المؤمن؛ إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء، صبر فكان خيرًا له».
فعلى كل مؤمن أن يوقن بأن ما قضى الله به عليه هو خير في الحالين؛ سواء كان ما يراه خيرًا أو شرًّا، أو كان ما يراه نفعًا أو ضرًّا، فرؤيته قاصرة لأنه ليس إلهًا، ولا يعلم الغيب، فما رآه ضرًّا في العاجل قد يكون نفعًا في الآجل، وما رآه شرًّا في الحال قد يكون فيه الخير في المآل، وهكذا يجب أن ننظر لقدر الله وقضائه، فلا نكون كأصحاب السفينة أو أهل الغلام، ويرشدنا معلمنا الخير وهادينا إلى ما فيه الخير سيدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم بأن نتلقى ما يسر بالشكر، وبأن نتلقى الضر بالصبر، فإذا فعلنا ذلك، فقد بلغنا درجة المؤمن الحق، وحققنا كمال الإيمان.
رابعًا: لا بد لكل مسلم شهد بأنه لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وأقدره الله على النطق بالشهادة أن يوقن بأنه صائر إلى خير؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لأبي ذرٍّ رضي الله عنه في الحديث المتفق عليه؛ فعن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: ((أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وعليه ثوب أبيض، وهو نائم، ثم أتيته وقد استيقظ، فقال: «ما من عبدٍ قال: لا إله إلا الله، ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة»، قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: «وإن زنى وإن سرق»، قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: «وإن زنى وإن سرق»، قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: «وإن زنى وإن سرق، على رغم أنف أبي ذر»، وكان أبو ذر إذا حدَّث بهذا قال: وإن رغم أنف أبي ذر))، وهو حديث يُثْلِج الصدر، وتهَشُّ له النفس، غير أنه فيما أرى موقوف علي شيء؛ وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «قال: لا إله إلا الله، ثم مات على ذلك»، فعلينا أن نحرص على التمسك بقول "لا إله إلا الله"، والإخلاص، والعمل بمقتضاها ما حيينا؛ كي نكون من أهل السعادة.
______________________________ ________________________
الكاتب: عصام الدين أحمد كامل