تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: ثمار التوحيد للفرد

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي ثمار التوحيد للفرد

    ثمار التوحيد للفرد (1-2)


    . محمد السليمان

    إن تحقيق التوحيد يُسَلِّم العقائد والقلوب، ويُخلِّصها من شوائب الإلحاد والكفر والشرك والنفاق. وكلها مُدمِّرة للدِّين ومُبطِلة للأعمال.
    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على النبي الأمين؛ محمد بن عبد الله، وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.
    أما بعد: فلتحقيق التوحيد فوائد جليلة وثمرات حميدة، منها ما يعود على الدين ذاته، ومنها ما يعود على الفرد نفسه، ومنها ما يعود على المجتمع بأكمله.
    ونتناول في هذه المقالة ما يتعلق بفوائد التوحيد وثمراته على الفرد نفسه، مرجئين الحديث عن فوائده وثمراته على الدين ذاته والمجتمع بأكمله لحلقة تالية -بإذن الله تعالى-.

    فمن تلك الفوائد والثمرات ما يأتي:

    الأولى: إن تحقيق التوحيد وسلامة القلب سبب عظيم في الفوز بالجنة، قال -تعالى-: {يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ 88 إلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88، 89]؛ أي القلب الصحيح السالم من الدنس والشرك والبدعة، المطمئن إلى السُّنَّة، المُوقِن بأنه لا إله إلا الله، وأن الله حقّ، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث مَن في القبور، وهذا هو قلب المؤمن؛ لأن قلب المنافق مريض، قال الله -تعالى-: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [البقرة: 10][1].

    وفي حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات: «يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة»، فيطلع رجل من الأنصار في المرات الثلاث؛ فلما رصد عبد الله بن عمرو حاله عن قُرب على مدى ثلاث ليالٍ، لم يَرَ منه كبير عمل؛ فلما سأله أجابه: «ما هو إلا ما رأيت، غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشًّا، ولا أحسد أحدًا على خير أعطاه الله إياه»؛ قال عبد الله: «فهذه التي بلغت بك، وهي التي لا نطيق»[2].

    الثانية: إن تحقيق التوحيد يُسَلِّم العقائد والقلوب، ويُخلِّصها من شوائب الإلحاد والكفر والشرك والنفاق. وكلها مُدمِّرة للدِّين ومُبطِلة للأعمال.

    الثالثة: تحصيل رضا الله ومحبته وثوابه المترتب على حُسن الاعتقاد والدفاع عن العقيدة، وحصول الشفاعة يوم القيامة، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه قال: قيل: يا رسول الله! من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لقد ظننتُ يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحدٌ أولَ منك؛ لما رأيت من حِرصك على الحديث. أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصًا من قلبه، أو نفسه»[3].

    الرابعة: حصول بركة العمل؛ فالعمل القليل مع التوحيد أعظم أجرًا ونفعًا من العمل الكثير مع فساده أو ضعفه، فيضاعف الأجر لصاحب التوحيد الخالص بغير حَصْر ولا عدّ ولا حساب[4]. وقد ذكر الإمام ابن القيم -رحمه الله- أن الأعمال لا تتفاضل بصورها وعددها، وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب؛ فتكون صورة الأعمال واحدة، وبينها من التفاضل كما بين السماء والأرض، والرجلان يكون مقامهما في الصف واحدًا وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض، والمجاهدان: أحدهما في أعلى عليين باستشهاده في سبيل الله، والآخر ليس له إلا الحبل الذي جاهد من أجله. وتأمل حديث البطاقة التي تُوضَع في كفّة، ويقابلها تسعة وتسعون سجلًا، كلّ سجلّ منها مدّ البصر، فتثقل البطاقة وتطيش السجلات فلا يُعذّب، ومعلوم أن كل مُوحّد له هذه البطاقة، وكثير منهم يدخل النار بذنوبه[5]، لتفاوت ما بينهم في قوة التوحيد ورسوخه.

    واعتَبِرْ بحال الصِّديق -رضي الله عنه-؛ فإنه أفضل الأُمّة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم ، ومعلوم أن فيهم مَن هو أكثر عملًا وحجًّا وصومًا وصلاةً وقراءةً منه. وهذا موضوع المثل المشهور:

    من لي بمثل سيرك المدلل

    تمشي رويدًا وتجي في الأول[6]

    وقال بكر بن عبد الله المزني -ويُرْوَى من قول أبي بكر بن عياش-: «ما سبقهم أبو بكر بكثرة صيام ولا صلاة، ولكن بشيءٍ وقرَ في قلبه»[7].

    وهذا مما يُعرَف به، أن أبا بكر -رضي الله عنه- لن يكون أحد مثله؛ فإن اليقين والإيمان الذي كان في قلبه لا يساويه فيه أحد[8]، ولنا في قصة الإسراء عبرة؛ إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم يَصِف ما وقع له، والمشركون يهزؤون به، فطارت فكرة شيطانية في رؤوسهم أن يقمعوا أبا بكر -رضي الله عنه-؛ ليدمروا يَقينه بالرسول صلى الله عليه وسلم وتصديقه المُطلَق له، فذهبوا إلى أبي بكر؛ فقالوا له: هل لك يا أبا بكر في صاحبك! يزعم أنه قد جاء هذه الليلة بيت المقدس، وصلى فيه ورجع إلى مكة! فقال لهم أبو بكر: «إنكم تكذبون عليه». فقالوا: بلى ها هو ذاك في المسجد يُحدِّث به الناس، فقال أبو بكر: «والله لئن كان قاله لقد صدق! فما يعجبكم من ذلك؟! فوالله إنه ليخبرني أن الخبر ليأتيه من السماء إلى الأرض في ساعة من ليل أو نهار فأصدقه! فهذا أبعد مما تعجبون منه». ثم أقبل حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا نبي الله! أحدَّثْتَ هؤلاء القوم أنك جئتَ بيت المقدس هذه الليلة؟ قال: نعم. قال: يا نبي الله فصِفْه لي؛ فإني قد جئته، فرُفِعَ بيت المقدس لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى نظر إليه، فجعل يصفه لأبي بكر، ويقول أبو بكر: صدقتَ، أشهدُ أنك رسول الله، كلما وصف له منه شيئًا قال: صدقتَ، أشهد أنك رسول الله، حتى إذا انتهى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: وأنت يا أبا بكر: الصِّدِّيق؛ فيومئذ سمَّاه الصِّدِّيق»[9]. فيا له من يقين لا يتزعزع ولا يتضعضع!

    قال أبو هريرة -رضي الله عنه-: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح، ثم أقبل على الناس فقال: «بينا رجل يسوق بقرة إذ ركبها فضربها؛ فقالت: إنا لم نُخلق لهذا! إنما خُلقنا للحرث»؛ فقال الناس: سبحان الله! بقرة تكلم! فقال: «فإني أومن بهذا أنا وأبو بكر وعمر!». وما هما ثم «وبينما رجل في غنمه إذ عدا الذئب فذهب منها بشاة، فطلب حتى كأنه استنقذها منه، فقال له الذئب: هذا استنقذتها مني! فمن لها يوم السبع؟! يوم لا راعي لها غيري!» فقال الناس: سبحان الله! ذئب يتكلم! قال: «فإني أومن بهذا أنا وأبو بكر وعمر». وما هما ثَمَّ[10]. فانظر كيف جزم النبي صلى الله عليه وسلم بإيمان أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما-! «وما هما ثَمَّ»؛ أي أنهما لم يكونا حاضرَيْنِ.

    ويروي أبو الدرداء -رضي الله عنه- في قصة اختصام أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله بعثني إليكم فقلتم كذبت، وقال أبو بكر: صدق، وواساني بنفسه وماله؛ فهل أنتم تاركو لي صاحبي». مرتين، فما أُوذِيَ بعدها[11].

    وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى في حيث أبي هريرة -رضي الله عنه- لما سُئِلَ: أيُّ العمل أفضل؟ قال: «إيمان بالله ورسوله»، قيل: ثم ماذا؟ قال: «الجهاد في سبيل الله»، قيل: ثم ماذا؟ قال: «حج مبرور»[12].

    فالجهاد فيه بذل النفس وغاية المشقة، والإيمان عِلْم القلب وعَمله وتصديقه، وهو أفضل الأعمال، مع أن مشقة الجهاد فوق مشقة الإيمان بأضعاف مضاعفة.

    فالنية الصالحة هي تجارة العلماء، فبها يبارك الله في العمل، وتتحول العادات إلى عبادات، والعبادة الواحدة إلى عبادات متعددة؛ فعن أبي ذر -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «... وفي بُضْع أحدكم صدقة. قالوا: يا رسول الله! أياتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟! فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر»[13].

    ونيتك الصالحة تقودك للحق أكثر من قيادة عملك له، قال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الأنفال: 70].

    ولو لم يكن من شؤم ضعف العقيدة إلا بطلان العمل الصالح بالشرك الأصغر (الرياء) لكفى؛ فعن محمود بن لبيد -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر»، قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: «الرياء، يقول الله -عز وجل- لهم يوم القيامة إذا جزى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاءً»[14].

    وتواطأ قول عبد الله وأبي الدرداء -رضي الله عنهما-: «اقتصادٌ في سُنَّة خيرٌ من اجتهاد في بدعة»[15].

    الخامسة: الترقي بمعتقدها من حضيض الجهل وربقة التقليد إلى ذروة العلم والإيمان واليقين والاستدلال؛ فالجهلة المشركون لا يحتجُّون على جهلهم وشركهم بأكثر من تقليد الآباء، كما ذكر الله ذلك في عدد من آيات القرآن، قال -تعالى-: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 32]، وقد مدح الله أهل الإيمان واليقين والعلم في قوله -تعالى-: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11]، فيخرج المسلم من كونه من مُسلمة الدار الذين وجدوا آباءهم على دين فهم على آثارهم مقتدون، والذين يردِّدون ما يسمعونه من الآباء دون وعي ولا عِلْم ولا اقتناع، لتَحرفهم أدنى شُبهة، وتجرفهم أدنى شهوة، ويستنسخوا أخطاء الآباء، ليكون المسلم بتعلُّم التوحيد واعتقاده من مُسلمة الاختيار، الذين اعتنقوا ما يعلمونه ويدركونه، فآمنوا عن علم واقتناع وتسليم ويقين.

    السادسة: تكفيره للذنوب ومحوه للخطايا، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن الله -عز وجل- يستخلص رجلاً من أُمّتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة، فينشر عليه تسعة وتسعين سجلاً، كلّ سجلّ مدّ البصر، ثم يقول له: أتنكر من هذا شيئًا؟ أظلمتك كتبتي الحافظون؟ قال: لا يا رب، فيقول: ألك عذر أو حسنة؟ فيبهت الرجل فيقول: لا يا رب، فيقول: بلى إن لك عندنا حسنة واحدة، لا ظُلْم اليوم عليك، فتخرج له بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، فيقول: أحضروه، فيقول: يا رب! ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟! فيقال: إنك لا تُظْلَم، قال: فتُوضَع السجلات في كفة، قال: فطاشت السجلات، وثقلت البطاقة، ولا يثقلُ معَ اسمِ اللَّهِ شيءٌ»[16].

    وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تُفتح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس، فيُغفر لكلّ عبد لا يُشرك بالله شيئًا، إلا رجلاً كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: أَنْظِروا هذيْن حتى يصطلحا، أَنظِروا هذين حتى يصطلحا»[17].

    وعن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «... ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئًا لقيته بمثلها مغفرة»[18].

    السابعة: حصول الأمن والطمأنينة والراحة النفسية للمُوحّد في الدنيا والآخرة؛ فالله -جل وعلا- يدفع عن الموحدين أهلِ الإيمان شرورَ الدنيا والآخرة، ويَمُنّ عليهم بالحياة الطيبة؛ قال -تعالى-: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّ هُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّ هُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 79]، وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: لما نزلت: {الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 28]، شقَّ ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فقالوا: يا رسول الله! فأينا لا يظلم نفسه؟ قال: «إنه ليس الذي تعنون، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح: {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 41]؛ إنما هو الشرك»[19].

    فمن سلم من أجناس الظلم الثلاثة: الظلم الذي هو الشرك، وظلم العباد، وظلمه لنفسه بما دون الشرك كان له الأمن التامّ والاهتداء التامّ، ومَن لم يَسلم مِن ظلم نفسه كان له مُطلَق الأمن والاهتداء، بمعنى أنه لا بد أن يدخل الجنة، ولكن يحصل له من نقص الأمن والاهتداء بحسب ما نقص من إيمانه بظُلْمه لنفسه، إلا أنّ عاقبته إلى الجنة، فمن أتَى بالتوحيد تامًّا فله الأمن التام، والاهتداء التامّ، ودخل الجنة بلا عذاب، ومن أتَى به ناقصًا بالذنوب التي لم يَتُب منها: فإن كانت صغائر كُفِّرت باجتناب الكبائر كما في آيتي النساء والنجم، وإن كانت كبائر فهو في حكم المشيئة؛ إن شاء الله غفر له، وإن شاء عذَّبه، ثُمّ مآله إلى الجنة.

    وعن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من شهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه، والجنة حق، والنار حق؛ أدخله الله الجنة على ما كان من العمل»[20][21].

    فهذه الأحاديث إنما هي فيمن قالها ومات عليها، كما جاءت مقيَّدة بـ: قالها خالصًا من قلبه. مستيقنًا بها قلبه. غير شاكٍّ فيها. بصدق ويقين.

    فإن حقيقة التوحيد: انجذاب الروح إلى الله جملةً، فمن شهد أن لا إله إلا الله خالصًا من قلبه دخل الجنة؛ لأن الإخلاص هو انجذاب القلب إلى الله -تعالى- بأن يتوب من الذنوب توبة نصوحًا؛ فإذا مات على تلك الحال نال ذلك.

    وإن كانت له ذنوب قبل ذلك فإن هذا الإيمان وهذه التوبة وهذا الإخلاص وهذه المحبة وهذا اليقين لا تترك له ذنبًا إلا يُمحَى، كما يُمحى الليل بالنهار، فإذا قالها على وجه الكمال المانع من الشرك الأكبر والأصغر؛ فهذا غير مُصِرّ على ذنب أصلًا فيغفر له ويحرم على النار، وعلى ذلك أحاديث كثيرة، منها حديث عتبان بن مالك -رضي الله عنه-، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «فإن الله قد حرَّم على النار من قال لا إله إلاَّ الله يبتغي بذلك وجه الله»[22]، وفي حديث معاذ -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وحقّ العباد على الله أن لا يُعذّب مَن لا يشرك به شيئًا». فقلت: يا رسول الله أفلا أبشّر به الناس؟! قال: «لا تبشرهم؛ فيتكلوا»[23].

    وإن قالها على وجه خلص به من الشرك الأكبر دون الأصغر ولم يأتِ بعدها بما يناقض ذلك؛ فهذه الحسنة لا يقاومها شيء من السيئات، فيرجح بها ميزان الحسنات، كما في حديث البطاقة؛ فيحرم على النار، ولكن تنقص درجته في الجنة بقدر ذنوبه، وهذا بخلاف مَن رجحت سيئاته على حسناته، ومات مُصِرًّا على ذلك فإنه يستوجب النار، وإن قال «لا إله إلا الله»، وخلص بها من الشرك الأكبر لكنه لم يمت على ذلك، بل أتى بعد ذلك بسيئات رجحت على حسنة توحيده فإنه في حال قولها كان مخلصًا لكنه أتى بذنوب أوهنت ذلك التوحيد والإخلاص فأضعفته وقويت نار الذنوب حتى أحرقت ذلك، بخلاف المخلص المستيقن فإن حسناته لا تكون إلا راجحة على سيئاته ولا يكون مُصِرًّا على سيئة؛ فإن مات على ذلك دخل الجنة[24].

    والشرك نوعان: أكبر وأصغر، فمن خلص منهما وجبت له الجنة، ومن مات على الأكبر وجبت له النار، ومن خلص من الأكبر وحصل له بعض الأصغر مع حسنات راجحة على ذنوبه دخل الجنة، فإن تلك الحسنات توحيد كثير مع يسير من الشرك الأصغر، ومن خلص من الأكبر ولكن كثر الأصغر حتى رجحت به سيئاته دخل النار، حتى يُطَهّر بها، ثم مآله إلى الجنة، فالشرك يُؤاخَذ به العبد إذا كان أكبر أو كان كثيرًا أصغر، والأصغر القليل في جانب الإخلاص الكثير لا يُؤاخَذ به[25].

    قال الإمام ابن القيم رحمه الله -تعالى-: «فالإحسان له جزاء معجّل ولا بدّ، والإساءة لها جزاء معجّل ولا بدّ، ولو لم يكن إلا ما يُجازَى به المحسن من انشراح صدره في انفساح قلبه وسروره ولذاته بمعاملة ربه -عز وجل- وطاعته وذِكْره ونعيم روحه بمحبته. وذِكْره وفرحه بربه -سبحانه وتعالى- أعظم مما يفرح القريب من السلطان الكريم عليه بسلطانه. وما يُجازَى به المسيء من ضيق الصدر وقسوة القلب وتشتُّته وظُلمته وحزازاته وغمّه وهمّه وحزنه وخوفه. وهذا أمر لا يكاد مَن له أدنى حسّ وحياة يرتاب فيه. بل الغموم والهموم والأحزان والضيق عقوبات عاجلة، ونار دنيوية، وجهنم حاضرة. والإقبال على الله -تعالى- والإنابة إليه والرضاء به وعنه وامتلاء القلب من محبته واللهج بذكره والفرح والسرور بمعرفته، ثواب عاجل، وجنة وعيش لا نسبة لعيش الملوك إليه ألبتة.

    وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية -قدَّس الله روحه- يقول: إن في الدنيا جنة، مَن لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة.

    وقال لي مرة: ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري! إن رحت فهي معي لا تفارقني؛ إن حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة.

    وكان يقول في محبسه في القلعة: لو بذلت ملء هذه القلعة ذهبًا ما عدل عندي شكر هذه النعمة، أو قال: ما جزيتهم على ما تسببوا لي فيه من الخير.. ونحو هذا.

    وكان يقول في سجوده وهو محبوس: اللهم أعني على ذِكرك وشكرك وحسن عبادتك، ما شاء الله. وقال لي مرة: المحبوس مَن حُبِسَ قلبه عن ربه -تعالى-، والمأسور من أَسره هواه.

    ولما دخل إلى القلعة وصار داخل سورها نظر إليه، وقال: (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد: 13]، وعلم الله ما رأيت أحدًا أطيب عيشًا منه قط، مع كل ما كان فيه من ضيق العيش، وخلاف الرفاهية والنعيم، بل ضدّها، ومع ما كان فيه من الحبس والتهديد والإرهاق، وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشًا، وأشرحهم صدرًا، وأقواهم قلبًا، وأَسَرِّهم نفسًا، تلوح نَضْرة النعيم على وجهه.

    وكنا إذا اشتد بنا الخوف، وساءت منا الظنون، وضاقت بنا الأرض أتيناه، فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه؛ فيذهب ذلك كله، وينقلب انشراحًا وقوة ويقينًا وطمأنينة. فسبحان من أشهد عباده جنّته قبل لقائه، وفتح لهم أبوابها في دار العمل، فأتاهم من رَوحها ونسيمها وطيبها ما استفرغ قواهم لطلبها، والمسابقة إليها.

    وكان بعض العارفين يقول: لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف.

    وقال آخر: مساكين أهل الدنيا! خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها. قيل: وما أطيب ما فيها؟ قال: محبة الله -تعالى- ومعرفته وذِكْره، أو نحو هذا...

    فبمحبة الله -تعالى- ومعرفته، ودوام ذِكْره والسكون إليه والطمانينة إليه وإفراده بالحب والخوف والرجاء والتوكل والمعاملة؛ بحيث يكون هو وَحْده المستولي على هموم العبد وعزماته وإرادته: هو جنة الدنيا، والنعيم الذي لا يشبهه نعيم، وهو قرَّة عين المحبين، وحياة العارفين. وإنما تقر عيون الناس به على حسب قرة أعينهم بالله -عز وجل- فمن قرَّت عينه بالله قرَّت به كل عين، ومن لم تقر عينه بالله تقطعت نفسه على الدنيا حسرات»[26].

    واعتبر وقت الجوائح والكوارث والأوبئة بحال مَن لا يؤمن بالقضاء والقدر ولا بقدرة الله -تعالى- ولا برحمته -سبحانه-، كيف يعيش في همّ وغمّ وجحيم وتوجُّس.

    (يتبع)




    [1] يُنظر: تفسير ابن كثير 6/149، و7/23، 24.

    [2] والحديث بتمامه في مسند الإمام أحمد (12697)، وصححه ابن كثير في التفسير (8/70).

    [3] أخرجه البخاري (99).

    [4] يُنظر: القول السديد شرح كتاب التوحيد: 61.

    [5] يُنظر: مدارج السالكين: 1/331، 332.

    [6] يُنظر: مفتاح دار السعادة: 1/82.

    [7] أخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول، وأشار العراقي في تخريج إحياء علوم الدين إلى أنه ليس مرفوعًا، يُنظر: كشف الخفاء للعجلوني (2228).

    [8] يُنظر: منهاج السنة النبوية: 6/223.

    [9] يُنظر: السيرة النبوية لابن هشام: 2/244، 245.

    [10] أخرجه البخاري (3284).

    [11] أخرجه البخاري (3461).

    [12] أخرجه البخاري (26).

    [13] أخرجه مسلم (1006).

    [14] أخرجه الإمام أحمد (23630)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1555).

    [15] السنة للمروزي: 1/30، الأثر 89، و1/32، الأثر 100.

    [16] أخرجه الترمذي (٢٦٣٩)، وأحمد (٦٩٩٤)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي: (٢٦٣٩).

    [17] أخرجه مسلم (2565).

    [18] أخرجه مسلم (2687).

    [19] أخرجه البخاري (3181) و(3246) و(6538)، ومسلم (124).

    [20] أخرجه مسلم (28).

    [21] يُنظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية: 7/81، 82.

    [22] أخرجه البخاري (5086)، ومسلم (263).

    [23] أخرجه البخاري (2701)، ومسلم (49).

    [24] يُنظر: تيسير العزيز الحميد بشرح كتاب التوحيد: 87-89.

    [25] يُنظر: تيسير العزيز الحميد بشرح كتاب التوحيد: ص97، 98.

    [26] الوابل الصيب: ص69-71.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: ثمار التوحيد للفرد

    ثمار التوحيد للفرد (2-2)


    . محمد السليمان



    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين.

    أما بعد: فإنَّ الإيمان بالله -تعالى- وتوحيده وإفراده بالعبادة من أعظم الواجبات على المسلم. وإن لتحقيق التوحيد فوائد عظيمة وثمرات جليلة تعود على الفرد وعلى المجتمع بأكمله. وقد تناولنا في عددٍ سابقٍ ثمرات التوحيد وأثرها على الفرد، وذكرنا سبع ثمرات لتحقيق التوحيد والإخلاص فيه، ونكمل في هذا المقال، فنقول وبالله تعالى التوفيق:

    الثامنة: إن التوحيد الخالص سبب لدخول الجنة من غير حساب ولا عذاب، ففي حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : «هؤلاء أُمّتك، ومع هؤلاء سبعون ألفًا يدخلون الجنة بغير حساب»، ثم ذكر أوصافهم فقال: «هم الذين لا يتطيرون ولا يسترقون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون»[1].

    التاسعة: إن التوحيد وإخلاص العمل هو السبب الأعظم لإجابة الدعوات وتفريج الكربات في الدنيا والآخرة، ودفع عقوبتيهما[2]؛ فكُرُبات الدنيا يدلّ على تفريجها بالتوحيد والإخلاص حديث الثلاثة أصحاب الغار، وقول كل واحد منهم: «اللهم إن كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاءَ وجهك ففَرِّج عنا ما نحن فيه»؛ فتتحرك الصخرة وتنفرج، حتى انفرجت الصخرة عند آخر الدعوات الثلاث، وخرجوا يمشون في الشمس[3].

    بل إن الله -تعالى- يفرِّج كربات المشركين حين يُخْلِصون له ويوحدونه في المُلِمَّات، قال -تعالى-: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65].

    وأما تفريج كربات الآخرة فيكفي في ذلك حديث البطاقة، وما أعظمه وأَجَلّه!

    العاشرة: إن التوحيد يمنع الخلود في النار لمن استحقَّ دخولها؛ إذا كان في قلبه أدنى مثقال حبة خردل من إيمان، أما إذا كمل الإيمان في القلب فإنه يمنع دخول النار بالكلية[4]، ففي حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث الشفاعة: «فيأتونني فأقول: أنا لها؛ فأستأذن على ربي، فيُؤذَن لي ويلهمني محامد أحمده بها لا تحضرني الآن؛ فأحمده بتلك المحامد وأخِرّ له ساجدًا؛ فيقال: يا محمد! ارفع رأسك، وقل يُسْمَع لك، وسَلْ تُعْطَ، واشفع تُشفَّع. فأقول: يا رب أُمّتي أُمّتي. فيقال: انطلق فأخْرِج منها من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان. فأنطلق فأفعل، ثم أعود فأحمده بتلك المحامد، ثم أخِرّ له ساجدًا؛ فيقال: يا محمد ارفع رأسك، وقل يُسمَع لك وسَلْ تُعْط واشفع تُشفَّع، فأقول: يا رب أُمتي أمّتي، فيقال: انطلق فأخرِجْ منها من كان في قلبه مثقال ذرة أو خردلة من إيمان. فأنطلق فأفعل، ثم أعود فأحمده بتلك المحامد، ثم أخِرّ له ساجدًا، فيقال: يا محمد! ارفع رأسك، وقل يُسْمَع لك، وسَلْ تُعْطَ، واشفع تُشفَّع. فأقول: يا رب أُمتي أُمّتي؛ فيقول: انطلق فأخرِجْ من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال حبة خردل من إيمان فأخرجه من النار. فأنطلق فأفعل، ثم أعود الرابعة فأحمده بتلك المحامد ثم أخِرّ له ساجدًا، فيقال: : يا محمد! ارفع رأسك، وقل يُسْمَع لك، وسَلْ تُعْطَ، واشفع تُشفَّع. فأقول: يا رب ائذن لي فيمن قال لا إله إلا الله! فيقول: وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي لأخرجن منها من قال لا إله إلا الله»[5].

    الحادية عشرة: إكرام الموحّد بكرامات عظيمة؛ منها محبة الله -تعالى-، ونَصْب منبر من نور يرتقيه، وبالاستظلال بظل العرش يوم القيامة؛ لأن كامل التوحيد أسعد الناس بتحقيق الولاء والبراء في ذات الله -سبحانه وتعالى-؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن الله يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي! اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي»[6].

    وقال أبو مسلم الخولاني -رحمه الله- لمعاذ بن جبل -رضي الله عنه-: والله إنى لأحبّك! قال: فيم تحبني؟ قال: قلت في الله -تبارك وتعالى-. فأخذ بحبوتي فجرّني إليه هُنَيَّة ثم قال: أبشرْ إن كنت صادقًا، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «المتحابون في جلالي لهم منابر من نور، يغبطهم النبيون والشهداء»، قال: فخرجت فلقيت عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- فقلت: يا أبا الوليد! ألا أحدثك بما حدثني معاذ بن جبل -رضي الله عنه- في المتحابين؟ قال: فأنا أحدّثك عن النبي صلى الله عليه وسلم يرفعه إلى الرب -عز وجل- قال: «حقَّت محبتي للمتحابين فيَّ، وحقَّت محبتي للمتزاورين فيَّ، وحقَّت محبتي للمتباذلين فيَّ، وحقَّت محبتي للمتواصلين فيَّ»[7].

    الثانية عشرة: أنه يسهل على العبد فِعْل الخيرات وترك المنكرات، فالمخلص لله في إيمانه وتوحيده تخفّ عليه الطاعات، لما يرجو من ثواب الله ورضوانه، وتهون عليه ما تهواه نفسه من المعاصي، لما يخشى من سخطه وعقابه[8]؛ فلا أيسر من العبادة للموحّد، ولا ألذّ منها له، ولا أثقل من العبادة على المنافق وضعيف الإيمان والتوحيد، ولا أخفّ من المعصية عليه، قال -تعالى- عن المنافقين: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 142]، وقال -تعالى- عنهم أيضًا: {وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} [سورة التوبة: 54]، ويبين الرسول صلى الله عليه وسلم أن العبادات -ومنها الصلوات- ثقيلة على المنافقين، وبعضها أثقل من بعض، فيقول في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: «ليس صلاة أثقل على المنافقين من الفجر والعشاء، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوًا...»[9].

    وفي حديث الثلاثة أصحاب الغار، أنهم تركوا ملذاتهم لأجل الله -تعالى-، مع صعوبة تركها على النفس.

    الثالثة عشرة: إن التوحيد يُخفِّف عن العبد المكاره، ويُهوِّن عليه الآلام، ويُسلّيه عن المصائب، ويُرَضِّيه عن الله في أقداره المؤلمة[10]؛ حين يعلم أنها مُقدَّرة لا بُدَّ من وقوعها، قال -تعالى-: {لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} [الحديد: 23]، وقال -سبحانه-: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن: 11]، وقال -جل وعلا-: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد: 22].

    الرابعة عشرة: إن مَن حقَّق توحيد الأسماء والصفات كان أسعد الناس بشهود مراقبة الله -تعالى- وحُسن العبادة وصدقها، فهو يتعبَّد لربّ قويّ قادر قاهر، رحيم لطيف ودود، خلّاق رزّاق، يسمعه ويراه، ويقدر على تحقيق مراده إن شاء، وفي المقابل انظر لحال مَن يعتقد أن الله لا يسمع أو لا يبصر أو لا يرحم أو لا يغضب!

    الخامسة عشرة: إن التوحيد الخالص يُحرّر العبد من رِقّ الطاغوت، وذُلّ العبودية للخلق، والتعلُّق بهم وخوفهم ورجائهم والعمل لأجلهم، وهذا هو العزّ الحقيقي والشرف العالي[11]؛ فهذا بلال المملوك -رضي الله عنه- يشمخ بأنفه الحرّ فوق معاطس كبار القرشيين من المشركين الأذلاء جميعًا، الذين أخذوا ضَعَفة المسلمين وألبسوهم أدراع الحديد، وصهروهم في الشمس، فثبت بلال؛ إذ هانت عليه نفسه في الله، وهان على قومه، فأخذوه فأعطوه الولدان، فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة، وهو يقول: أحد أحد[12].

    وقبيل وقعة القادسية طلب رستم إرسال مَن يتفاوض معه، فأرسل سعدُ بنُ أبي وقاص -رضي الله عنه- إليه ربعيَّ بن عامر، ثم حذيفةَ بن محصن في اليوم التالي، ثم المغيرةَ بن شعبة في اليوم الثالث، فدخل كل واحد منهم على رستم وهو في أُبهته من الذهب والحرير والعرش والمفارش، دخل كل واحد منهم بهيئته الرثة جدًّا، وسلاحه المتواضع، يطأ المفارش ويخرقها برمحه، ويصل لرستم بكامل سلاحه رغمًا عنه، فكلهم يُجيب -إذا انتهر- بأن رستم هو الذي دعاه، ولم يأتِ هو من نفسه، فالحاجة لرستم لا له، فإن أبَى عليه رجع!

    فكلم رستم ربعي بن عامر وقال: ما جاء بكم؟ قال: «الله ابتعثنا وجاء بنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله -تعالى-، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل ذلك قبلنا منه، ورجعنا عنه وتركناه وأرضَه يليها، ومن أبى قاتلناه حتى نُفْضِي إلى موعود الله». قال: وما هو موعود الله؟ قال: «الجنة لمن مات على قتال من أبى، والظفر لمن بقي»؛ فوقع كلام ربعي موقعه من قلب رستم.

    فبعث سعدٌ إليهم في الغد حذيفةَ بن محصن، فأظهر لهم عدل القادة المسلمين بين رعاياهم في الشدة والرخاء، وتكلم بنحو ما تكلم به ربعي ورجع.

    ثم بعث إليهم في اليوم الثالث المغيرةَ بن شعبة، فجاءهم ودخل بعزّته وشموخه حتى جلس مع رستم على سريره، فسَفَّه أحلام الفُرس المجوس، وأرسل لهم عدة رسائل بكلامه تُوضّح لهم عبودية بعضهم لبعض، وتستنهض فيهم الحرية والانعتاق من عبودية ملوكهم.

    وأدرك رستم صدق هؤلاء القوم، وأنهم مدركون مطلوبهم لا محالة، فأراد تحقيق بعض مطالبهم ليرجعوا عنه فلم يوافقه قومه، فما كان منه إلا أن تابع قومه، فنشبت معركة القادسية، التي أظهر الله فيها المسلمين وقمع المجوس الكافرين[13].

    وقال الله -تعالى- عن فرعون: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} [الزخرف: 54]، لما تركوا الإيمان والتوحيد أصبحوا عبيدًا لبشر مثلهم، {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38]، {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات: 24].

    السادسة عشرة: التوحيد والعقيدة الصحيحة تُحرّر المسلم من رِقّ الخرافة، وتُعيده إلى صميم العقل، فإبليس شديد الحرص والمتابعة لما يتعلق بأمر العباد، وغاية مراده أن تتم له السيطرة عليهم، لذا فإنه قد بَسَطَ النفوذ عليهم في الجاهلية، وأغرقهم في ظلمات الشرك والخرافة، وَتَمَكَّن من طمس معالم النبوة والرسالة في الجاهلية[14]، حتى صار «دين الحنيفية الذي لا دين لله غيره، بين هذه الأديان الباطلة التي لا دين في الأرض غيرها، أخفى من السُّها[15] تحت السحاب...»[16]؛ فلما تم له ذلك استراح من عناء معالجة أهل الإيمان والتوبة، واطمأنت نفسه، وهدأ سعاره، حتى صار أهل الأرض في الجاهلية كما وُصف في حديث عياض بن حمار المجاشعي -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبته: «... وإني خَلَقْتُ عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجْتَالتهم[17] عن دينهم، وَحَرَّمَتْ عليهم ما أَحْلَلْتُ لهم، وأَمَرَتْهُم أن يشركوا بي ما لم أُنْزِلْ به سلطانًا. وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم[18] عربهم وعجمهم، إلا بقايًا من أهل الكتاب...»[19].

    وبلغ من تلاعب الشيطان وسخريته بأهل الجاهلية ما حكاه هارون بن معاوية قال: «كان الرجل في الجاهلية إذا سافر حمل معه أربعة أحجار: ثلاثة لقِدْره، والرابع يَعبده! وَيُرَبِّي كَلْبَه ويقتل ولده!»[20].

    فما أبشعها من سخرية إبليسية! لا فرق في عقول أولئك بين ما يُعبد ويُرجى ويُخاف، وما يَلِي النار والدخان ويُوضَع تحت القِدْر لِيُحْمَل عليه، إلا مجرد استحسان الشكل تلك اللحظة!

    ويُربّي أحدهم كلبه ويرعاه، وينفق عليه، ويُشبعه، ويقتل ولده من صلبه خوف العار، أو خشية أن يأكل معه!

    وما كُثْبَة الرمل، وحَلْبُ الناقة عليها، ثم عبادة تلك الكثبة عن هذا ببعيد! فقد قال الإمام المخضرم المعمر أبو رجاء العطاردي: «كنا في الجاهلية إذا أَصَبْنَا حجرًا حَسَنًا عَبَدناه! وإن لم نُصِبْ حجرًا جمعنا كثبة من رمل، ثم جئنا بالناقة الصَّفِيِّ[21] فَتُفَاجُّ[22] عليها، فنحلبها على الكثبة حتى نرويها، ثم نعبد تلك الكثبة ما أقمنا بذلك المكان!»[23].

    فيا لها من عقول تلاعب بها الشيطان كيف شاء! يصنعون إلههم بأيديهم من رمل كانوا يدوسونه قبل قليل تحت أقدامهم! ثم يمضون ويَدَعون إلههم! ويضيع هذا الرب ويهلك! فعن أبي عثمان النهدي الإمام المخضرم المعمر قال: «كنا في الجاهلية نعبد حَجَرًا، فسمعنا مناديًا ينادي: يا أهل الرِّحَال! إن ربكم قد هلك! فالتمسوا ربًّا! قال: فخرجنا على كل صَعْبٍ وَذَلُول، فبينا نحن كذلك نطلب، إذا نحن بمنادٍ ينادي: إنا قد وجدنا ربكم! أو شِبْهَهُ! قال: فجئنا فإذا حَجَرٌ، فنحرنا عليه الْجُزُر[24]»[25].

    وقال أيضًا: «رأيت يغوثَ صنمًا من رَصَاص، يُحْمَل على جمل أجرد، فإذا برك قالوا: قد رضي ربكم هذا الْمَنْزِل»[26].

    وعن عمرو بن عبسة -رضي الله عنه- قال: «كنت امرأً ممن يعبد الحجارة، فَيَنْزِل الحي ليس معهم آلهة! فيخرج الرجل منهم فيأتي بأربعة أحجار، فينصب ثلاثة لقِدْرِه، ويجعل أحسنها إلهًا يعبده! ثم لعله يجد ما هو أحسن منه قبل أن يرتحل، فيتركه ويأخذ غيره!»[27].

    تلك هي عقولهم في ظلمات الجاهلية، ثم انظر إليها لما استضاءت بنور الإسلام!

    السابعة عشرة: بالتوحيد والعقيدة يحصل الأجر للمسلم على كل حال؛ في السراء والضراء، في النعماء والبأساء، وذلك بقيامه بمقتضيات العقيدة على كل أحواله، قال -تعالى-: وَلَنَبْلُوَنَّ كُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْـخَوْفِ وَالْـجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ صلى الله عليه وسلم ٥٥١صلى الله عليه وسلم ) الَّذِينَ إذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إنَّا لِلَّهِ وَإنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ 156 أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْـمُهْتَدُونَ } [البقرة: 155 - 157] ، وعن صُهَيْبٍ -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «عجبًا لأمر المؤمن! إنَّ أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكَر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرًا له»[28].

    الثامنة عشرة: تسمو العقيدة بالإنسان بقَدْر إحاطته بها وقيامه بحقوقها، فشرف العالِم بشرف علومه؛ فالعالِم بالأشرف أشرفُ مرتبةً من العالم بما دونه، ولا شرفَ أشرف من العِلْم بالله وإدراك الحقائق والمعارف الإلهية وحقائق التوحيد.

    اللهم اجعلنا من أحظى عبادك علمًا بالتوحيد وعملاً بمقتضاه، وتقبّله منا أحسن قبول، يا أرحم الراحمين. وصلَّى الله وسلَّم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.








    [1] أخرجه البخاري (5420)، ومسلم (374).

    [2] يُنظر: القول السديد شرح كتاب التوحيد: ص57.

    [3] يُنظر الحديث في صحيح البخاري (2102) ومسلم (2743).

    [4] يُنظر: القول السديد شرح كتاب التوحيد: ص57.

    [5] أخرجه البخاري (7072).

    [6] أخرجه مسلم (2566).

    [7] أخرجه بتمامه الإمام أحمد (22080)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (3019).

    [8] يُنظر: القول السديد شرح كتاب التوحيد: 59.

    [9] أخرجه البخاري (626)، ومسلم (651).

    [10] يُنظر: القول السديد شرح كتاب التوحيد: 59، 60.

    [11] يُنظر: القول السديد شرح كتاب التوحيد: 60، 61.

    [12] أخرجه بتمامه ابن ماجه (150)، والحاكم (5238)، وحسنه الألباني في صحيح وضعيف سنن ابن ماجه (150).

    [13] يُنظر تفصيل ذلك في: المنتظم لابن الجوزي 4/167-169، وتاريخ الأمم والملوك للطبري 2/400-406، والبداية والنهاية لابن كثير 7/39-43، والكامل لابن الأثير 2/310-315.

    [14] يُنظر ما سطره ابن القيم واصفًا حال أهل الأرض، كتابيهم وغيره، في الجاهلية، في كتاب هداية الحيارى في الرد على اليهود والنصارى: 18-20.

    [15] السُّها: كويكب صغير، خفي الضوء، في بنات نعش الكبرى، يمتحن الناس به أبصارهم. يُنظر: لسان العرب 14/408.

    [16] هداية الحيارى في الرد على اليهود والنصارى: 20.

    [17] اجتالتهم: استَخَفَّتهم، وذهبت بهم، وأزالتهم عما كانوا عليه، وجالوا معها في الباطل. يُنظر: النهاية: 1/317.

    [18] المقت هو أشد البغض. يُنظر: النهاية 4/346.

    [19] أخرجه مسلم (2865).

    [20] أخرجه الدارمي في مقدمة سننه (3).

    [21] الصَّفِي هو الخالص من كل شيء، وهو هنا غزيرة اللبن، يُنظر: لسان العرب 14/462-464، مادة (صفا)، وسنن الدارمي: 1/14.

    [22] فتفاج أي الناقة، إذا فرجت بين رجليها للحَلْب، يُنظر: لسان العرب 2/338- 340، مادة (فجج)، وسنن الدارمي 1/14.

    [23] أخرجه الدارمي في مقدمة سننه (3)، ويُنظر: تلبيس إبليس: 59.

    [24] جمع جزور، وهو البعير، يُنظر: النهاية: 1/266.

    [25] أخرجه ابن أبي شيبة (33914).

    [26] أخرجه عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن مردويه، كما في الدر المنثور: 8/293، وذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء: 4/176، والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن 18/309.

    [27] تلبيس إبليس: 60، وسير أعلام النبلاء: 2/460.

    [28] أخرجه مسلم (2999).



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •