نور الدين والوحدة الإسلامية
أ*. أحمد تمام







نور الدين والوحدة الإسلامية

نور الدين محمود زنكي وبناء الوحدة الإسلامية
ظهر نور الدين محمود على مسرح الأحداث في النصف الأول من القرن السادس الهجري والناس في أشد الحاجة إلى مثله ليأخذ بيدهم من حلكة الظلام الدامس الذي اكتنف بلادهم منذ أن وطئتها أقدام الصليبيين ودنست أرجلهم مدينة القدس ولم تلمع في الأفق بوادر الأمل وإشراقات الصباح, فالفوضى تعم بلاد الشام, والأمراء والحكام مشغولون بأنفسهم وأطماعهم, والمحتل الوافد ترتفع قامته على خلافات المسلمين وتطاحنهم، وتزداد قوته بتناحرهم وتنازعهم، ولولا بقية من أمل ظلت تعمل في قلوب بعض المخلصين لحدث ما لا تحمد عقباه.
وجاء أول بصيص للأمل مع ظهور عماد الدين زنكي الذي، استطاع بقدرته وكفاءته أن يلي الموصل وأن يثبت أقدامه فيها، ونجح في أن يمد سلطانه إلى نصيبين وحران، وهيأ نفسه لكي يقوم بحركة الجهاد ضد الصليبيين، وأدرك أن ذلك لن يتحقق ما لم تتحد القوى الإسلامية في العراق والشام، فتطلع إلى حلب وكانت غارقة في بحر من الفوضى بعد وفاة أتابكها عز الدين مسعود البرسقي، ويتنازع عليها السلاجقة والصليبيون للاستيلاء عليها، فتحرك عماد الدين وأفسد على الطامعين خططهم، ووضع يده على حلب في سنة خمس مائة واثنان وعشرون للهجرة، ثم لم يلبث أن تعثرت خطاه بفعل الصراعات الداخلية في المنطقة، التي أشعلها بعض الأمراء ضده، خوفا من ازدياد نفوذه في شمالي الشام والعراق، فقضى زمنا يدفع تلك الأخطار عن نفسه حتى تمكن من بسط نفوذه وترسيخ أقدامه، واحتاج ذلك وقتا طويلا استهلك من عمره سبع سنوات قبل أن يفرغ لمنازلة الصليبيين، حتى تمكن من فتح مدينة الرها سنة خمسمائة وثمان وثلاثين للهجرة.
فقد كان أبيا عزيزا شهما شجاعا يغار على حرمات المسلمين ولا يهدأ له بال حتى ينصرهم وينتقم لهم، فلم يكد يمر شهر على استلامه الحكم حتى هاجم الصليبيون الرها ظنا منهم أن الحاكم الجديد ضعيف ،فهاجمهم وقتل ثلاثة أرباع جيشهم، وكان ذلك ضربة قوية للكيان الصليبي، لأن الرها كانت أولى الإمارات الصليبية التي تأسست في الشرق إبان الحملة الصليبية الأولى، ولم يهمل القدر عماد الدين لكي يواصل أعماله، حيث اغتالته يد الغدر في السادس من ربيع الثاني سنة خمسمائة وواحد واربعين للهجرة.
نور الدين محمود
ولد نور الدين محمود في السابع عشر من شوال لسنة خمسمائة وإحدى عشر للهجرة، وهو ثاني أولاد عماد الدين زنكي بعد سيف الدين غازي وقد تأثر أبناء عماد الدين بما كان لأبيهم من خلال وفضائل فكانوا جميعا من رجال الجهاد وفرسانه على تفاوت في ذلك بينهم.
وبعد وفاة عماد الدين زنكي اقتسم ولداه سيف الدين غازي ونور الدين محمود دولته، فاستقر الأول بالموصل وثبت أقدامه بها ،وانفرد الآخر بحكم حلب وكان الحد الفاصل بين أملاك الأخوين هو نهر الخابور، وكان كلا الأخوين مؤهلا لما وجهته له الأقدار، فكان سيف الدين غازي صاحب سياسة وأناة على حين كان نور الدين مجاهدا مخلصا جياش العاطفة صادق الإيمان، ميالا إلى جمع كلمة المسلمين وإخراج الأعداء من ديار المسلمين، مفطورا على الرقة ورهافة الشعور، وهو ما جذب الناس إليه وحبب القلوب فيه.
وكان على نور الدين أن يواصل سياسة أبيه في جهاد الصليبيين يدفعه إلى ذلك طبيعته المفطورة على حب الجهاد وملازمته لأبيه في حروبه معهم وقرب إمارته في حلب من الصليبيين جعله أكثر الناس إحساسا بالخطر الصليبي.
الجهاد ضد الصليبيين
استهل نور الدين حكمه بالقيام ببعض الهجمات على إمارة إنطاكية الصليبية واستولى على عدة قلاع في شمال الشام ثم قضى على محاولة جوسلين الثاني لاستعادة الرها التي فتحها عماد الدين زنكي وكانت هزيمة الصليبيين في الرها أشد من هزيمتهم الأولى وعاقب نور الدين من خان المسلمين من أرمن الرها وخاف بقية أهل البلد من المسيحيين على أنفسهم فغادروها.
وكان نور الدين دائم السعي إلى استمالة القوى الإسلامية المتعددة في شمال العراق والشام وكسب ودها وصداقتها لتستطيع مواجهة العدو الصليبي فعقد معاهدة مع معين الدين أنر حاكم دمشق سنة خمسمائة وواحد وأربعين للهجرة وتزوج ابنته فلما تعرض أنر لخطر الصليبيين وكانت تربطه بهم معاهدة وحلف لم يجد غير نور الدين يستجير به فخرج إليه وسارا معا واستوليا على بصرى وصرخند قبل أن يقعا في يد الصليبيين ثم غادر نور الدين دمشق حتى يبعث في قلب حاكمها الأمان وأنه لا يفكر إلا في القضاء على الصليبيين فتوجه إلى حصون إمارة إنطاكية واستولى على أرتاح وكفر لاثا وبصرفوت.
وعلى أثر ذلك ملك الرعب قلوب الصليبيين من نور الدين وأدركوا أنهم أمام رجل لا يقل كفاءة وقدرة عن أبيه عماد الدين وكانوا قد ظنوا أنهم قد استراحوا بموته لكن أملهم تبدد أمام حماسة ابنه وشجاعته وكانت سنة إذ ذاك تسعا وعشرين سنة لكنه أوتي من الحكمة والتدبير خيرا كثيرا.
وفي سنة خمسمائة واثنان وأربعون للهجرة وصلت الحملة الصليبية الثانية على الشام بزعامة لويس السابع وكونراد الثالث لكنها فشلت في تحقيق أهدافها وتعرضت لخسائر هائلة وعجزت عن احتلال دمشق ويرجع الفضل في ذلك لصبر المجاهدين واجتماع كلمة جيش المسلمين ووحدة صفهم وكان للقوات التي جاءت مع سيف الدين غازي وأخيه نور الدين أكبر الأثر في فشل تلك الحملة واستغل نور الدين هذه النكبة التي حلت بالصليبيين وضياع هيبتهم للهجوم على إنطاكية بعد أن ازداد نفوذه في الشام فهاجم في سنة خمسمائة وأربعة وأربعون للهجرة الإقليم المحيط بقلعة حارم الواقعة على الضفة الشرقية لنهر العاصي ثم حاصر قلعة إنب فنهض ريموند دي بواتيه صاحب إنطاكية لنجدتها والتقى الفريقان في الحادي والعشرين من صفر خمسمائة وأربع وأربعون ونجح المسلمون في تحقيق النصر وأبادوا الصليبيين عن آخرهم وكان من جملة القتلى صاحب إنطاكية وغيره من قادة الفرنج وكان فرح المسلمون بهذا النصر عظيما.
ضم دمشق
آمن نور الدين بضرورة وحدة الصف وانتظام القوى الإسلامية المبعثرة بين الفرات والنيل حتى تقف كالبنيان المرصوص أمام أطماع الصليبيين وكانت دمشق تقف حجرة عثرة في طريق تلك الوحدة وكان معين الدين أنر صاحب السلطة الفعلية في دمشق يرتبط بعلاقات ودية مع الصليبيين ومعاهدات وتحالفات وبعد وفاته قام مجير الدين أبق بحكم دمشق وجرى على سياسة أنر في التعامل مع الصليبيين بل أظهر ضعفا ومذلة في التعامل معهم وأعرض عن وحدة الصف وجمع الكلمة وبلغ الهوان به أن وافق على أن يدفع أهل دمشق ضريبة سنوية للصليبيين مقابل حمايتهم وصار رسل الفرنجة يدخلون دمشق لجمع الجزية المفروضة دون أن يستشعر حاكمها خجلا أو هوانا.
ولم يسكت نور الدين على هذا الوضع المهين واستثمر شعور الغضب الذي أبداه الدمشقيون ونجح بمساعدتهم في الإطاحة بمجير الدين أبق وضم دمشق إلى دولته في سنة خمسمائة وتسع وأربعين للهجرة وكانت هذه الخطوة حاسمة في تاريخ الحروب الصليبية حيث توحدت بلاد الشام تحت زعامة نور الدين من الرها شمالا حتى حوران جنوبا واتزنت الجبهة الإسلامية مع الجبهة الصليبية التي كانت تستغل حالة التشتت والتشرذم وتوجه ضرباتها إلى دولة الإسلام حتى إن نور الدين لم يستطع نجدة عسقلان عندما هاجمها الصليبيون سنة خمسمائة وثمانية وأربعون للهجرة لأن دمشق كانت تقف حائلا دون تحقيق ذلك.
الطريق إلى مصر
بعد نجاح نور الدين في تحقيق المرحلة الأولى من توحيد الجبهة الإسلامية لم يعد أمام الصليبيين للغزو والتوسع سوى طريق الجنوب بعد أن أحكم نور الدين سيطرته على شمالي العراق والشام ولذا تطلع الصليبيون إلى مصر باعتبارها الميدان الجديد لتوسعهم وشجعهم على ذلك أن الدولة الفاطمية في مصر تعاني سكرات الموت فاستولوا على عسقلان وكان ذلك إيذانا بمحاولتهم غزو مصر مستغلين الفوضى في البلاد وتحولت نياتهم إلى عزم حيث قام بلدوين الثالث ملك بيت المقدس بغزو مصر سنة خمسمائة وثمانية وخمسون للهجرة محتجا بعدم التزام الفاطميين بدفع الجزية له غير أن حملته فشلت وأجبر على الانسحاب.
وأثارت هذه الخطوة الجريئة مخاوف نور الدين فأسرع بشن حملات على الصليبيين في الشام حتى يشغلهم عن الاستعداد لغزو مصر ودخل في سباق مع الزمن للفوز بمصر فأرسل عدة حملات إليها تحت قيادة أسد الدين شيركوه وبصحبته ابن أخيه صلاح الدين الأيوبي ابتدأت من سنة خمسمائة وتسع وخمسون للهجرة واستمرت نحو خمس سنوات حتى نجحت بعد سباق محموم مع الصليبيين في الظفر بمصر سنة خمسمائة وأربع وستون للهجرة.
ومن ضمن هذه الحملات في سنة خمسمائة وثمانية وخمسون للهجرة هاجم الصليبيون جزءا من جيشه على حين غفلة فأكثروا فيهم القتل ونجا نور الدين في اللحظة الحاسمة وهرب وقد عرفت هذه المعركة ب'البقيعة فقال "والله لا أستظل بسقف حتى آخذ بثأري وثأر الإسلام" وعرض الصليبيون عليه الصلح فرفض وكان انتقامه منهم رهيبا في معركة حارم إذ قتل منهم عشرة آلاف وأسر عشرة آلاف أو أكثر وكان بين الأسرى عدد من كبار أمرائهم وقادتهم
وتولى شيركوه الوزارة للخليفة العاضد آخر الخلفاء الفاطميين، على أنه لم يلبث أن توفي بعد شهرين فخلفه في الوزارة صلاح الدين الأيوبي.
نجح صلاح الدين الأيوبي في إقامة الأمن واستتباب الأمور وتثبيت أقدامه في البلاد وجاءت الفرصة المناسبة لإسقاط دولة الفاطميين فقطع الدعاء للخليفة الفاطمي ودعا للخليفة العباسي في أول جمعة من سنة خمسمائة وسبعة وستين للهجرة.
وكان لدخول مصر تحت حكم دولة نور الدين محمود دوي هائل لا في مملكة بيت المقدس وحدها بل في الغرب الأوروبي كله وارتفعت الأصوات لبعث حملة جديدة تعيد للصليبيين في الشام هيبتهم وسلطانهم. وتوجه لمصر ضربات قوية غير أن حملتهم على مصر لم تحقق أهدافها ليقظة صلاح الدين في مصر.
وبنجاح نور الدين في ضم مصر إلى جبهة الكفاح يكون قد حقق الحلقة الأخيرة من حلقات الجبهة الإسلامية تمهيدا للضربة القاضية.
نور الدين في التاريخ
كان نور الدين مؤمنا بالإسلام وعظمته، وهو ما جعله يحقق ما عجز عنه غيره ،ممن كانوا أوسع منه بلادا وأعظم مالا ونفقة، ولم يكن يحارب الصليبيين على أنهم نصارى، بل على أنهم أجانب عن بلاد العرب والمسلمين جاءوا لاحتلال الأرض وتدنيس المقدسات، ولذا لم يمس نصارى بلاده بسوء بل كانوا عنده مواطنين لهم حق الرعاية الكاملة، فلم يهدم كنيسة ولا آذى قسا أو راهبا.
وكان قائدا منقطع النظير، له قلب ملأه الإيمان، فلا يعرف الجزع الطريق إليه وكان يقول "لو كان معي ألف فارس لا أبالي بعدو"،ورأوه يوم معركة حارم منفردا عند التل ساجدا يمرغ وجهه بالتراب يناجي ربه يسأله النصر ثم أخذته الحال، وارتفع صوته يتضرع ويقول "اللهم انصر دينك، لا تنصر محموداـ يعني نفسه ـ ومن هو محمود الكلب حتى ينتصر.
فنصره الله ذلك النصر المؤزر وما كان معه إلا قطعة من الجيش وكان جيشه في مصر.
وكان يأسف على أنه لم يرزق الشهادة ويقول" تعرضت لها غير مرة فلم تتفق لي ولو كان فيّ خير ولي عند الله قيمة لرزقت الشهادة".
ولم يشغله الجهاد وتوحيد الصف. عن إقامة المدارس والمساجد ،حتى بلغت مدارسه ومساجده المئات، لا يخلو منها بلد دخل تحت سلطانه، وكان إذا أنشأ مدرسة أوسع النفقة في بنائها واجتهد في اختيار شيوخها وأوقف عليها الأوقاف الكثيرة، وكانت مدارسه تعنى بالقرآن والحديث ،وكان له شغف بالحديث وسماعه، من جلة المحدثين وأجازه بعضهم بالرواية.
وإلى جانب إنشاء المدارس توسع في إقامة البيمارستانات ـ مستشفيات ـ في كل بلدة تحت حكمه وجعلها للفقراء ،الذين لا تمكنهم دخولهم من الاستعانة بالأطباء والحصول على الدواء، كما حرص على إقامة الخانات على الطرق لينزل بها المسافرون للراحة أو للمبيت ،وجعل عليها من يحرسها ويحافظ على زائريها.
وكان نور الدين مؤمنا صادق الإيمان ومجاهدا عظيما وزاهدا متصوفا لا ينام إلا منتصف الليل ثم ينهض فيتوضأ ويقبل على الصلاة والدعاء حتى يقبل الصباح فيصليه ثم يأخذ في شئون دولته.
أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر
ترك الأذان بحي على خير العمل وهي بدعة الفاطميين وعاد إلى الأذان الشرعي .
وكان يتبع السنة ويقف عند حدود الشرع .ومنع الخمر في بلده وأزال المنكرات. ورفع الضرائب و المغارم وكان في عدله آية الآيات .
اهتمامه بمصالح الناس
وأنشأ في دمشق دار العدل وأقام البيمارستان النوري، والتي هي مدرسة التجارة الآن في سوريا، وكان مستشفى كأرقى مستشفيات الحضارة اليوم، ولبناء المستشفى قصة طريفة ،أسر مرة ملكا من ملوك الإفرنج فسأله أن يفتدي نفسه فقل منه الفداء وأخذ منه ثلاثمائة ألف دينار خصصها للمستشفى ولدار الحديث النورية .
زهــــــــده
ولزهده في أبهة الحكم والسلطان لم يكن له راتب يتقاضاه ،وإنما كان يأكل ويلبس من ملك له ،كان قد اشتراه من ماله ،ولم يكن له بيت يسكنه، وإنما كان مقامه في غرفة في قلعة البلد الذي يحل فيه.
وكان في ليالي السلم ينام قليلا ثم يصحو، وكان يلبس الصوف تقشفا، ويأتي المسجد خفية حتى لا يراه الناس مصليا فيه ذاكرا إلى الفجر.ويمضي ليالي الحرب في المناجاة والتضرع ،
وتلكم بعض الخصال التي جعلت نور الدين محمود ينجح خلال مدة حكمه في تحرير معظم بلاد الشام من الاحتلال الصليبي،ويصبح قاب قوسين أو أدنى من تحرير بيت المقدس.
أولا : كان قائدا ربانيا عُرف بتقواه وورعه فقد 'كان حريصا على أداء السنن وقيام الليل بالأسحار فكان ينام بعد صلاة العشاء ثم يستيقظ في منتصف الليل فيصلي ويتبتل إلى الله بالدعاء حتى يؤذن الفجر كما كان كثير الصيام وتميز بفقهه وعلمه الواسع فلقد تشبه بالعلماء واقتدى بسيرة السلف الصالح وكان عالما بالمذهب الحنفي وحصل على الإجازة في رواية الأحاديث وألف كتابا عن الجهاد يصفه ابن كثير فيقول "'ولم يسمع منه كلمة فحش قط في غضب ولا رضى صموتا وقورا ومجلسه لا يذكر فيه إلا العلم والدين والمشورة في الجهاد" ويثني عليه ابن الأثير فيقول "طالعت تواريخ الملوك المتقدمين قبل الإسلام وفيه إلى يومنا هذا فلم أر بعد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز أحسن سيرة من الملك نور الدين".
ثانيا : كان زاهدا أمينا فقد "'كان أدنى الفقراء في زمانه أعلى نفقة منه من غير اكتناز ولا استئثار بالدنيا وعندما شكت له زوجته الضائقة المادية أعطاها ثلاثة دكاكين له بحمص. وقال 'ليس لي إلا هذا وجميع ما بيدي أنا فيه خازن للمسلمين ،لا أخونهم ولا أخوض في نار جهنم لأجلك".
ثالثا: كان متواضعا محبوبا قال له الفقيه قطب الدين النيسابوري يوما "بالله عليك لا تخاطر بنفسك وبالإسلام، فإن أصبت في معركة لا يبقى أحد من المسلمين إلا أخذه السيف" فقال له نور الدين :"يا قطب الدين ومَن محمود حتى يقال له هذا قبلي من حفظ البلاد والإسلام ذلك الله الذي لا إله إلا هو" وبعدما كثرت فتوحاته واتسعت دائرة سلطانه جاءه تشريف من الخلافة العباسية تضمن قائمة طويلة جليلة بالألقاب التي يذكر بها عندما يدعى له على منابر بغداد ليعممها على بقية البلدان فأوقفها واكتفى بدعاء واحد هو اللهم وأصلح عبدك الفقير محمود بن زنكي.
ورفع أحد أفراد رعيته قضية عليه فاستدعاه القاضي فقال "السمع والطاعة ـإنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعناـ إني جئت ها هنا امتثالا لأمر الشرع ".
رابعا:كان حريصا على تطبيق أحكام الشرع 'وأشهى شيء عنده كلمة حق يسمعها أو إرشاد إلى سنة يتبعها ،وقد ألغى جميع الضرائب التي تزيد عن الحد الشرعي بالرغم من الدخل الكبير التي تدره والحاجة الماسة إليه لأغراض الجهاد، وكان يقول "نحن نحفظ الطريق من لص وقاطع طريق أفلا نحفظ الدين ونمنع ما يناقضه".
خامسا: كان يكرم العلماء ويبالغ في ذلك فبالرغم من أن الأمراء والقادة كانوا لا يجرءون على الجلوس في مجلسه دون أمره وإذنه، فإنه كان إذا دخل عليه العالم الفقيه أو الرجل الصالح قام هو إليه، وأجلسه وأقبل عليه مظهرا كل احترام وتوقير, وكان يقول عن العلماء "هم جند الله وبدعائهم نُنصر على الأعداء ولهم في بيت المال حق أضعاف ما أعطيهم، فإن رضوا منا ببعض حقهم فلهم المنة علينا".
ويروى أنه لما رأى أصحاب نور الدين كثرة خروجه للجهاد وإنفاقه عليه قال له بعضهم 'إن لك في بلادك إدرارات وصدقات كثيرة على الفقهاء والفقراء والصوفية والقراء فلو استعنت بها في هذا الوقت لكان أصلح. فغضب من ذلك وقال "والله إني لا أرجو النصر إلا بأولئك فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم،كيف أقطع صلات قوم يقاتلون عني وأنا نائم على فراشي بسهام لا تخطئ وأصرفها على مَن لا يقاتل عني إلا إذا رآني بسهام قد تصيب وقد تخطئ وهؤلاء لهم نصيب في بيت المال كيف يحل لي أن أعطيه غيرهم" وكان يسمع نصيحتهم ويجلها ويقول "إن البلخي إذا قال لي محمود قامت كل شعرة في جسدي هيبة له ويرق قلبي".
وكانت بلاد الشام خالية من العلم وأهله وفي زمانه صارت مقرا للعلماء والفقهاء والصوفية.
سادسا: كان مهتما بأحوال المسلمين فلقد عمل على كفالة الأيتام، وتزويج الأرامل و إغناء الفقراء وبناء المستشفيات ودور الأيتام والأسواق والحمامات والطرق العامة.
سابعا: كان لحوحا في الدعاء ولا يرجو النصر إلا من الله، فعندما رأى جموع الصليبيين الهائلة قبيل معركة حارم انفرد بنفسه تحت تل حارم وسجد لله ومرغ وجهه وتضرع قائلا "يا رب هؤلاء عبيدك وهم أولياؤك وهؤلاء عبيدك وهم أعداؤك فانصر أولياءك على أعدائك" ويتذلل إلى الله سبحانه.
وفاة نور الدين محمود
وبينما كان نور الدين محمود يستعد للسير إلى مصر فاجأته الحمى واشتد به المرض، حتى لقي الله في الحادي عشر من شوال سنة خمسمائة وتسع وستين للهجرة ،الخامس عشر من مايو لسنة ألف ومائة وأربع وسبعين للميلاد، وهو في التاسعة والخمسين من عمره وكان لموته رجة عنيفة في العالم الإسلامي، وشعر الناس بحجم الخسارة وعظم المصيبة التي حلت بهم.
وشاء الله تعالى أن تظل سلسلة المجاهدين قائمة فكلما غاب من الميدان زعيم نهض من بعده زعيم ،وكل خلف يزيد عن سابقه في المواهب والملكات، حتى انتهت الراية إلى صلاح الدين الأيوبي فحقق ما كان أمنية في الصدور وخاطرا في العقول.