تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 20 من 39

الموضوع: مذاكرة الحذاق بفوائد ومسائل من علم الاشتقاق

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Nov 2006
    المشاركات
    7,156

    افتراضي مذاكرة الحذاق بفوائد ومسائل من علم الاشتقاق


    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبيه الأمين، المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه الطيبين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

    أما بعد؛

    فإن (علم الاشتقاق) من العلوم التي تكاد تكون مهجورة في هذا الزمان، فلا نكاد نسمع عن طالب يدرُسُه، ولا نكاد نرى شيخا يُدَرِّسُه، ولا يوجد له إلا القليل من الكتب ما يؤسِّسُه.

    مع أنك كثيرا ما تسمع المشايخ في الدروس والمحاضرات يقولون: إن علوم العربية اثنا عشر علما، جمعها الناظم في قوله:

    نحو وصرف عروض ثم قافية ................ وبعـدها لغة قرض وإنشاء
    خط بيـانٌ معانٍ مع محاضرة ................ و(الاشتقاق) لها الآداب أسماء

    ونظمها آخر فقال:

    خُذْ نَظْمَ آدابٍ تَضَوَّعَ نَشْرُها ................ فطوى شذا المنثور حين تَضُوعُ
    لُغَةٌ وصَرْفٌ و(اشتقاقٌ) نَحْوُها ................ عِلْمُ الْمَعَانِي بِالْبَيَانِ بَدِيعُ
    وعَرُوضُ قَافِيَةٌ وإِنْشَا نَظْمُها ................ وكتابةُ التاريخِ ليسَ يَضِيعُ

    وكثير من إخواننا لا يدرسون من هذه العلوم إلا النحو، ومن زاد فإنه يزيد الصرف، ومن تعمق فإنه يضيف إليها شيئا من علوم البلاغة النظرية، والقليل من يدرس الباقي.

    وكثيرا ما كنتُ أفكر في هذا الموضوع، وأقول: لعل الله ييسر من يتحفنا بمسائل ومباحث علم الاشتقاق وغيره من علوم اللغة التي صارت كالمهجورة.

    وأخيرا عقدتُ العزم على أن أعرض ما عندي؛ لأحفز الإخوة الكرام لعرض ما عندهم.

    وكم مر عليَّ من السنين التي افتقدتُ فيها الأخَ الناصحَ والصديقَ الموافقَ، وكما قال الإمام النووي رحمه الله: (مُذاكَرَةُ حاذِقٍ في الفنِّ ساعةً أفضلُ من المطالعةِ ساعاتٍ بل أيامًا).

    ومن أفضل من إخوة كرام هنا جمعني بهم الحب في الله، والبحث عن الحق؟!

    أسأل الله أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه
    إنه أكرم مسئول، وأعظم مأمول!

    أخوكم ومحبكم/ أبو مالك العوضي
    صفحتي في تويتر : أبو مالك العوضي

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Nov 2006
    المشاركات
    7,156

    افتراضي



    قال أبو العباس المَقَّرِي [تحرفت في بعض الكتب إلى المَعَرِّي فلتصحح] :

    مـن رام فنـا فليـقـدمْ أولا ...................... علـما بحَـدٍّ ثم مَوْضُـوعٍ تـلا
    وواضـع ونسـبةٍ وما استـمد ...................... منـه وفَضْـلِه وحُـكْم يُعتَـمدْ
    واسـمٍ ومـا أفـاد والمسائل ...................... فتـلك عَشْـرٌ للمُـنى وسـائلْ
    وبعضهم منها على البعضِ اقتصرْ ...................... ومن يكن يـدري جميعَها انتـصرْ

    وهذه هي المبادئ العشرة التي درج المتأخرون على تقديمها بين يدي دراسة العلوم، وقد كنتُ كتبتُ مبحثا في أن (كون هذه الأمور العشرة مبادئ لدراسة العلوم) فيه نظر، وخاصة عند المبتدئين، وذلك لأمور كثيرة لا مجال لذكرها الآن.

    وهي وجهة نظر قد أكون مخطئا فيها.

    ومع ذلك فلا يسعنا أن نتخلف عن ركب أئمتنا المتأخرين الذين هذبوا وقسموا ورتبوا؛ فصار كل نظير بجنب نظيره، وكل إلف مضموما إلى مؤالفه، فقعدوا القواعد وأصلوا الأصول، فعلى ذلك نقول:

    ---------- (المبادئ العشرة لعلم الاشتقاق)----------

    = الاسـم: علم الاشتقاق أو مقاييس اللغة، والأول هو المشهور في كتب المصنفين، ولكن الثاني أقرب إلى المراد، وبذلك سمى ابن فارس كتابه.

    = الحــد: علم بدلالات كلام العرب التي يعرف بها الأصل الذي ترجع إليه الألفاظ.
    وهذا حد أقرب إلى الرسم؛ لأني لا أهتم كثيرا بالحدود وما عليها من اعتراضات وجوابات.

    = الموضوع: معرفة دلالات الألفاظ وارتباطها ببعض، وذلك بالرجوع إلى أصول معانيها المستنبطة من قياس دلالات الألفاظ المتماثلة المادة.

    = الثمــرة: التعمق في فهم كلام العرب، ومن ثَمَّ في فهم كلام الشارع، وكثيرا ما تجد المفسرين يشيرون إشارات عابرة إلى أمثلة من هذا العلم، وكثير من المصنفين في العلوم يشيرون أيضا إليه إشارات عابرة عند شرح بعض الاصطلاحات وبيان وجه الاشتقاق فيها.

    = الواضـع: يعد ابن دريد أول من أفرده بتصنيف يشتمل على كثير من أصوله، وابن فارس هو باري قوسه بكتابه مقاييس اللغة، وكذلك بعض المحاولات والمنثورات قبلهما خاصة من قبل الخليل بن أحمد.

    = الحـكم: فرض كفاية؛ كما قرر أهل العلم أن علوم الآلة جميعا فروض كفاية.

    = فضـله: ما ساعد على فهم النصوص الشرعية فلا شك أنه علم فاضل، ولذلك يكثر دورانه في كتب التفسير، والاستنباطات في الخلافات الفقهية.

    = نسبـته: من علوم اللغة العربية مع الإعمال العقلي، ويمكن عده جزءا من علم (فقه اللغة)، وفيه اشتراك مع (علم التصريف) في بعض المباحث من وجه، والفرق بينهما أن علم التصريف يبحث في الأوزان الظاهرة ودلالة كل وزن، أما الاشتقاق فيبحث في الدلالة الباطنة وارتباط المعاني في المادة الواحدة.

    = استمداده: كلام العرب وأحوالهم وإشاراتهم التي يستفاد منها القرائن التي تدل على اتفاق ألفاظ المادة في اللغة.

    = مسائله: الأسماء (أعلاما كانت أو غيرها) والكلمات والمواد العربية والبحث في الأصول المعنوية التي ترجع إليها.
    صفحتي في تويتر : أبو مالك العوضي

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Nov 2006
    المشاركات
    7,156

    افتراضي

    بعض مسائل هذا العلم مذكورة باستفاضة في العلوم الأخرى فلا نطيل بذكرها؛

    كمسألة اشتقاق (الاسم)؛ فهو من السُّمُو عند البصريين ومن السِّمَة عند الكوفيين.

    وكذلك مسألة اشتقاق المصدر من الفعل عند الكوفيين، أو الفعل من المصدر عند البصريين.

    وكذلك مسألة اشتقاق اسم (الله)، ناقشها كثير من الشراح عند كلامهم على البسملة.


    قال أبو بكر بن دريد في < الاشتقاق >:

    (( فأما اشتقاق اسم الله عز وجل فقد أقَدَم قومٌ على تفسيره، ولا أحبُّ أن أقول فيه شيئًا ))


    وقال أبو بكر الصولي في < أدب الكتاب >:

    (( و(الله) - تبارك اسمه - اسم خاص للمعبود جل وعلا، لا يسمى به سواه. قال الله تعالى: { هل تعلم له سميًّا }. قال المفسرون: لا يعلم من تسمى الله إلا الله عز وجل، ولا يعرف لهذا الاسم اشتقاق من فعل. ولا أحب ذكر ما قاله النحويون فيه لأنه تكلف لا يضر تركه ))
    صفحتي في تويتر : أبو مالك العوضي

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Nov 2006
    المشاركات
    7,156

    افتراضي

    قال ابن فارس في كتابه في فقه اللغة المسمى بـ(الصاحبي) [ونقله السيوطي في المزهر] :

    (( أجمع أهل اللغة إلا من شذ عنهم أن للغة العرب قياسًا وأن العرب تشتق بعض الكلام من بعض، وأن اسم الجن مشتق من الاجتنان، وأن الجيم والنون تدلان أبدا على الستر؛ تقول العرب للدرع: جُنة، وأجنَّه الليل، وهذا جنين أي هو في بطن أمه أو مقبور. وأن الإنس من الظهور؛ يقولون: أنست الشيء أبصرته، وعلى هذا سائر كلام العرب، علم ذلك من علم وجهله من جهل ... وليس لنا اليوم أن نخترع، ولا أن نقول غير ما قالوه، ولا أن نقيس قياسًا لم يقيسوه؛ لأن في ذلك فساد اللغة وبُطلانَ حقائقها )).


    وقال ابن فارس أيضا في مقدمة معجمه الفذ (مقاييس اللغة):

    (( إن للغة العرب مقاييسَ صحيحة، وأصولا تتفرع منها فروع، وقد ألف الناس في جوامع اللغة ما ألفوا، ولم يعربوا في شيء من ذلك عن مقياس من تلك المقاييس، ولا أصل من الأصول، والذي أومأنا إليه باب من العلم جليل، وله خطر عظيم )).


    (تنبيه)
    قد يَستشكِلُ بعضُ الإخوة - مع ما تقدم من تقرير ثبوت المقاييس في اللغة - اتفاقَ أكثر أهل اللغة والنحو على أن اللغة لا تثبت قياسا، وهذا منصوص عليه عندهم، ويشبه الإجماع عندهم.

    وهذا لا إشكال فيه بحمد الله تعالى؛ لأن المقصود مما تقدم بالقياس إنما هو إظهار العلاقة بين الألفاظ الثابتة عن العرب، وضم النظير إلى نظيره ومؤالفة الشبيه إلى شبيهه، وأما منع القياس في اللغة فالمقصود به إنشاء كلمات أو إطلاقات جديدة لم ترد سماعا عن العرب، ومثال ذلك أننا نعرف بدلالة الاشتقاق أن القارورة سميت بذلك لأن الماء يستقر فيها، ومع ذلك لا يصح أن نسمي البيت قارورة لأن الناس يستقرون فيه.

    وقد حُكِيَ عن الزجاج كلامه في الاشتقاق، وهذه مناظرة بينه وبين يحيى بن علي المنجم:

    المنجم: من أي شيء اشتق الجرجير؟
    الزجاج: لأن الريح تجرجره
    المنجم: وما معنى تجرجره؟
    الزجاج: تجرره ومن هذا قيل للحبل الجَرير؛ لأنه يجر على الأرض
    المنجم: والجرة لم سميت جرة
    الزجاج: لأنها تجر على الأرض
    المنجم: لو جرت على الأرض لانكسرت!! والمجرة لم سميت مجرة
    الزجاج: لأن الله جرها في السماء جرا
    المنجم: فالجرجور الذي هو اسم المائة من الإبل لم سميت به؟
    الزجاج: لأنها تجر بالأزِمَّة وتقاد
    المنجم: فالفصيل المجر الذي شق طرف لسانه لئلا يرضع أمه، ما قولك فيه
    الزجاج: لأنهم جروا لسانه حتى قطعوه
    المنجم: فإن جروا أذنه فقطعوها تسميه مجرا
    الزجاج: لا يجوز ذلك
    المنجم: قد نقضت العلة التي أتيت بها على نفسك ومن لم يدر أن هذا مناقضة فلا حس له.


    قلت: هذا الكلام لا يلزم الزجاج ولا نقض فيه؛ لأنه إنما اعتل لكلام العرب، وأظهر ما ترجح لديه من أسباب الاشتقاق، ولم يزعم أنه بذلك يجوز اشتقاق ألفاظ جديدة بناء على العلة؛ لأنها ليست علة بالمعنى الأصولي، بل قد تكون حكمة، وقد تكون جزءَ علة، وقد تكون معارضة في ألفاظ أخرى بعلل أخرى أقوى منها، فالخلاصة أن كلام المنجم لا يلزم أهل العلم ولم يدعِ الزجاج أصلا ذلك كما يتضح من آخر كلامه، والله تعالى أعلم.

    ولهذا تجد ابن فارس في مقاييسه كثيرا ما يقول: ولا أدري ما اشتقاقه.
    أو يقول: هذا مما وضع وضعا ولم يُعرف له اشتقاق.
    ويقول أيضا:
    (( والأصل في هذه الأبواب أنَّ كلَّ ما لم يصحَّ وجهُه من الاشتقاق الذي نذكره فمنظورٌ فيه، إلاّ ما رواه الأكابر الثقات )).
    صفحتي في تويتر : أبو مالك العوضي

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Nov 2006
    المشاركات
    7,156

    افتراضي

    هذا مثال يدخل في علم الاشتقاق استللته من كتاب (الكفاية في علم الرواية) للخطيب البغدادي لأحث إخواننا من أهل الحديث على المشاركة.

    قال الحافظ العلامة أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي رحمه الله:

    (( حدثني محمد بن عبيد الله المالكي أنه قرأ على القاضى أبى بكر محمد بن الطيب: قال لا خلاف بين أهل اللغة في أن القول (صحابي) مشتق من الصحبة وأنه ليس بمشتق من قدر منها مخصوص بل هو جار على كل من صحب غيره قليلا كان أو كثيرا كما أن القول (مكلم) و(مخاطب) و(ضارب) مشتق من (المكالمة) و(المخاطبة) و(الضرب) وجارٍ على كل من وقع منه ذلك قليلا كان أو كثيرا، وكذلك جميع الأسماء المشتقة من الأفعال، وكذلك يقال: صحبت فلانا حولا ودهرا وسنة وشهرا ويوما وساعة فيوقع اسم (المصاحبة) بقليل ما يقع منها وكثيره وذلك يوجب في حكم اللغة إجراء هذا على من صحب النبي صلى الله عليه وسلم ولو ساعة من نهار، هذا هو الأصل في اشتقاق الاسم )).
    صفحتي في تويتر : أبو مالك العوضي

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Nov 2006
    المشاركات
    7,156

    افتراضي

    وهذا كلام نفيس للإمام الجليل (الخليل بن أحمد) عن علل النحو، ولكنه ينطبق أيضا على علم الاشتقاق؛ ذكره أبو القاسم الزجاجي في (إيضاح علل النحو) قال:

    (( ... وذكر بعض شيوخنا أن الخليل بن أحمد رحمه الله سئل عن العلل التي يعتل بها في النحو، فقيل له: عن العرب أخذتَها أم اخترعتها من نفسك؟ فقال:

    إنَّ العربَ نطقت على سجيتها وطباعها، وعرَفتْ مواقعَ كلامها، وقام في عقولِها عِلَلُه، وإن لم ينقل ذلك عنها، واعتللتُ أنا بما عندي أنَّهُ عِلةٌ لما عللته منه، فإن أكن أصبتُ العلةَ فهو الذي التمستُ، وإن تكن هناك علةٌ غيرُ ما ذكرتُ فالذي ذكرتُه محتمل أن يكون علة، ومَثَلِي في ذلك مثل رجل حكيم دخل دارًا محكمةَ البناءِ عجيبةَ النظمِ والأقسام، وقد صحت عنده حكمةُ بانيها بالخبر الصادق أو بالبراهين الواضحة والحجج اللائحة، فكلما وقفَ هذا الرجل في الدار على شيء منها قال: إنما فعل هذا هكذا لعلةِ كذا وكذا، ولسبب كذا وكذا، لِعِلَّةٍ سنحت له وخطرت بباله محتملة أن تكون علة لتلك، فجائز أن يكون الحكيم الباني للدار فعل ذلك للعلة التي ذكرها هذا الذي دخل الدار، وجائز أن يكون فعله لغير تلك العلة، إلا أن ما ذكره هذا الرجل محتمل أن يكون علة لذلك، فإن سنحَتْ لغيري علةٌ لما علَّلْتُه من النحو هي أليقُ مما ذكرتُه بالمعلول فليأتِ بها )).

    قال الزجاجي معلقا:

    (( وهذا كلام مستقيم وإنصاف من الخليل رحمة الله عليه )).
    صفحتي في تويتر : أبو مالك العوضي

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Nov 2006
    المشاركات
    7,156

    افتراضي

    ( هل المقصود بالاشتقاق أسبقية المشتق منه على المشتق؟ )

    هذا قال به كثير من أهل العربية، واحتج به بعضهم في النقاش في مسألة اشتقاق الفعل من المصدر أو عكسه، بل احتج به السهيلي في نتائجه على أن اسم (الله) غير مشتق؛ لأنه لا مادة سابقة عليه يشتق منها !
    وأجاب ابن القيم في البدائع بأن هذا الفهم غير صحيح، بل المقصود من الاشتقاق التلاقي في اللفظ والمعنى، وليس المقصود أنها فرع عليها ومتولدة منها.

    ومما يؤيد ما ذكرتَه الحديث القدسي المشهور (( قال الله: أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمي ))، ومع ذلك تجد أهل العلم أحيانا يقولون: الرحمن مشتق من الرحمة!

    قال الزمخشري: (( معنى الاشتقاق أن ينتظم الصيغتين فصاعدا معنى واحد )).

    وبهذا الجمع ينحل لك كثير من الإشكالات التي تجدها في كلام أهل العلم بأن كذا مشتق من كذا، فلا يلزم من ذلك أنهم يعنون أسبقية أحد اللفظين على الآخر، بل المراد أنه ينتظمهما معنى واحد كما أشار الزمخشري.

    ولذلك تجد أهل العلم أحيانا يشيرون إلى أن اللفظ المحسوس مشتق من المعنى العقلي، وأحيانا يشيرون إلى أن المعنى العقلي مشتق من اللفظ المحسوس، ويشعر القارئ بدأة ذي بديء أن هذا من التناقض والتعارض.

    = كما ذكروا مثلا أن اشتقاق آدم من أديم الأرض، مع أنهم ذكروا أن النار مشتقة من نار ينور إذا تحرك واضطرب.
    = وذكروا أن المراء مشتق من مري الناقة، مع أنهم ذكروا أن المشاجرة مشتقة من الشجرة لاشتجار أغصانها.
    = وذكروا أن البعوض مشتق من البَعْض وهو القطع، مع أنهم قالوا: قردوس (قبيلة) مشتق من القردسة وهي الصلابة!


    فهذه الأقوال ظاهرها التعارض، ولكن يجمع بينها ما سبق ذكره، وهو أن المراد بالاشتقاق أن كلا اللفظين يرجعان إلى أصل ومعنى ينتظمهما معا فيندرجان في سلك واحد.
    صفحتي في تويتر : أبو مالك العوضي

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Nov 2006
    المشاركات
    7,156

    افتراضي

    وكثيرا ما تجد أهل العلم يتطرقون بتوسع شديد لمسائل الاشتقاق في غير مظنتها، وهذه مُثُلٌ من ذلك:

    = (ق و ل) في مقدمة الخصائص لابن جني
    = (ح ر ف) في مقدمة سر الصناعة لابن جني
    = (ع ر ب) ذكر الوزير المغربي في أوائل (أدب الخواص) فيها ثلاثة عشر قولا!
    = (ع ج م) في مقدمة سر الصناعة أيضا.
    صفحتي في تويتر : أبو مالك العوضي

  9. #9
    تاريخ التسجيل
    Nov 2006
    المشاركات
    7,156

    افتراضي

    ( أقسام الاشتقاق )

    = الاشتقاق الأصغر:
    وهو الاشتقاق في المادة الواحدة، وهو المشهور عند الإطلاق، وفيه صنفت الكتب المصنفة؛ كالاشتقاق لابن دريد، ومقاييس اللغة لابن فارس وغيرها.

    = الاشتقاق الكبير:
    وهو الاشتقاق في المادة وتقليباتها، كما صنع ابن جني في مقدمة الخصائص إذ أرجع معاني (ق و ل) وجميع تقليباتها الستة إلى معنى واحد!

    = الاشتقاق الأكبر:
    وهو الاشتقاق في المواد المتقاربة الحروف، وهو المثال الذي ذكره الرافعي، وهذا يقل ذكره عند أهل العلم، وممن أسرف فيه وأكثرَ: العلامةُ (أنستاس الكرملي) في كتابه (نشوء اللغة العربية ونموها وارتقاؤها).

    = الاشتقاق الكُبَّار:
    وهذا من زيادات المعاصرين، ويطلقونه على نحت كلمة من كلمتين أو أكثر، والقدماء يجعلون النحت نوعا على حياله، كما في المزهر للسيوطي وغيره.
    صفحتي في تويتر : أبو مالك العوضي

  10. #10
    تاريخ التسجيل
    Nov 2006
    المشاركات
    7,156

    افتراضي

    وقد ذكر ابن الأنباري في [ لمع الأدلة في أصول النحو ] أن النحو مبني على القياس، ولا يتأتى أن يكون كله نقلا؛

    ثم قال:

    (( ... بخلاف اللغة، فإنها وضعت وضعا نقليا لا عقليا، فلا يجوز القياس فيها، بل يقتصر على ما ورد به النقل، ألا ترى أن (القارورة) سميت بذلك لاستقرار الشيء فيها، ولا يسمى كل مستقر فيه قارورة، وكذلك سميت (الدار) دارا لاستدارتها ولا يسمى كل مستدير دارا ))

    فهذا الكلام يضاف لما سبق تقريره من أن المراد بالاشتقاق معرفة الأصول والارتباط بين الكلمات، وليس المراد منه إنشاء كلمات جديدة أو معاني مخترعة لألفاظ معروفة.
    صفحتي في تويتر : أبو مالك العوضي

  11. #11
    تاريخ التسجيل
    Nov 2006
    المشاركات
    7,156

    افتراضي

    ومن مسائل هذا العلم: اشتقاق لفظ (القرآن)، وفيه خمسة أقوال:

    الأول = أنه مشتق من (قرأ) بمعنى تلا، ويكون على هذا مصدرا بمعنى القراءة.
    الثاني = أنه مشتق من القَرْء بمعنى الجمع؛ تقول: قرأت الماء في الحوض أي جمعته؛ لجمعه الآيات والسور في كتاب واحد.
    الثالث = أنه مشتق من قرنت الشيء بالشيء إذا ضممته إليه؛ لقِران الآيات والسور فيه.
    الرابع = أنه مشتق من القرائن؛ لأن الآيات والقصص يشبه بعضها بعضا، فهي أشباه ونظائر.
    الخامس = أنه اسم علم غير مشتق من شيء كالتوراة والإنجيل.

    والقول الأول قول أكثر العلماء
    والقول الثاني قول الزجاج
    والقول الثالث قول الأشعري
    والقول الرابع قول الفراء
    والقول الخامس قول الشافعي


    والأرجح من بين هذه الأقوال هو الأول والله أعلم؛ لأن قراءة التسهيل يمكن ردها إلى قراءة الهمز بخلاف العكس، والله أعلم.
    صفحتي في تويتر : أبو مالك العوضي

  12. #12
    تاريخ التسجيل
    Nov 2006
    المشاركات
    7,156

    افتراضي

    ومن فوائد هذا العلمِ أيضا:
    تصَرُّفُ المتكلم البليغ في مناحي كلامه بما يزيدُه بهاءً وحلاوة، ويهبه جمالا وطلاوة، وهو قريب من التجنيس، فينظر في اللفظ وما يقاربه معنى، وفي الكلم وما ينتمي إليها أصلا.

    ومن ذلك في كتاب الله:
    = { فأقم وجهك للدين القيم }
    = { وإن يردك الله بخير فلا راد لفضله }
    = { ليريه كيف يواري سوءة أخيه }

    وفي الحديث (( أَسْلَمُ سالمها الله، وغِفَار غفر الله لها، وعُصَيَّة عصت الله ورسوله )).

    ومن ذلك قول أبي تمام:
    وأنجدتم من بعد إتهام داركم ............ فيا دمع أنجدني على ساكني نجد
    فإنه لولا معرفته باشتقاق (نجد) ما طاوعه مثل هذا البيت.

    ومن ذلك قول صفي الدين الحلي:
    لم يلق مرحبُ منهُ مرحبًا ورأى ............. ضدَّ اسمه عند حد الحصن والأُطُمِ

    ومن ذلك قول ابن معصوم:
    لم تُبْقِ بدرٌ لهم بدرًا وفي أُحُدٍ ............... لم يبقَ من أَحَدٍ عند اشتقاقهم

    ومن ذلك قول الشاعر:
    أردى (أبا لهب) نصفُ اسمه أبدا ............... لفِعْلِ أوله عن واضح اللقم

    وقريب من هذا الباب قول أبي نواس:
    عباس عباس إذا احتدم الوغى .............. والفضلُ فضلٌ والربيعُ ربيعُ

    وقريب من هذا الباب قول خالد بن صفوان:
    (( هشمتك هاشم، وأمَّتك أمية، وخزمتك مخزوم ))
    صفحتي في تويتر : أبو مالك العوضي

  13. #13
    تاريخ التسجيل
    Nov 2006
    المشاركات
    7,156

    افتراضي

    قال الصفدي في < نكت الهميان > :

    (( قد تتبعت أفراد وضع اللغة العربية، فرأيت العين المهملة والميم، كيفما وقعتا في الغالب وبعدهما حرف من حروف المعجم، لا يدّل المجموع إلا على ما فيه معنى الستر أو ذهاب الصواب على الرأي )).

    ثم شرح ذلك مفصلا على تراجم المواد المختلفة، وأشكل عليه بعض المواد التي تدل على طول، فقال:

    (( ... ولا بدّ للفرس إذا طال، أن يكون فيه بعض التواء، وذهاب على غير استواء. وكذلك الطريق إذا طالت )).


    وقال ابن فارس في مقاييسه:

    (عمت): (( العين والميم والتاء أُصَيلٌ صحيح يدلُّ على التباسِ الشيء والتوائه ))

    (عمج): (( العين والميم والجيم أصلٌ صحيح يدلُّ على التواءٍ واعوجاج ))

    (عمد): (( العين والميم والدال ... ترجع إلى ... الاستقامة في الشيء، منتصبا أو ممتدا ))

    (عمر): (( العين والميم والراء أصلان صحيحان، أحدهما يدلُّ على بقاءٍ وامتداد زمان، والآخر على شيءٍ يعلو ))

    (عمس): (( العين والميم والسين أصلٌ صحيح يدلُّ على شدّة في اشتباهٍ والتواءٍ في الأمر ))

    (عمش): (( العين والميم والشين كلمتانِ صحيحتان، متباينتان جدَّاً. فالأولى ضعفٌ في البصر، والأخرى صلاحٌ للجسم ))

    (عمي): (( العين والميم والحرف المعتل أصلٌ واحد يدلُّ على سَترٍ وتغطية ))

    (عمه): (( العين والميم والهاء أصلٌ صحيح واحد، يدلُّ على حَيرة وقِلّة اهتداء ))


    ومما ذكره الصفدي:

    (عمق): (( العمق بفتح العين وضمها قعر البئر والفج والوادي. قيل فيه ذلك لما واستتر عن العين ))

    (عمل): (( اعتمل الرجل إذا اضطرب في العمل... قيل فيه ذلك لأن الاضطراب حركة على غير استواء ))

    (عمم): (( عمم العمامة ما يوضع على الرأس، وهي تستره. واعتم النبت إذا اكتهل أي ستر الأرض ))
    صفحتي في تويتر : أبو مالك العوضي

  14. #14
    تاريخ التسجيل
    Nov 2006
    المشاركات
    7,156

    افتراضي

    ومما يفيد أيضا أنهم كانوا يعرفون الاشتقاق قول حسان بن ثابت (ويروى لأبي طالب):
    وشـقَّ لـه من إِسْمِه ليُجِـلَّه ............... فذو العرش محمودٌ وهذا مُحمَّدُ
    وقول الكميت بن زيد الأسدي:
    ومِـن غَـدرِه نَبَـزَ الأولـو ............... ن - إذ لقَّبوه - الغَدِيرَ الغديرا
    صفحتي في تويتر : أبو مالك العوضي

  15. #15
    تاريخ التسجيل
    Nov 2006
    المشاركات
    7,156

    افتراضي رد: مذاكرة الحذاق بفوائد ومسائل من علم الاشتقاق

    قال ابن الأزرق في كتابه الرائع الممتع < روضة الأعلام بمنزلة العربية من علوم الإسلام >:

    (( المثال الأول [يعني من الأخطاء الواقعة بسبب الجهل باللغة] ما يروى عن النَّظَّام أنه كان يقول: إذا آلى المرء بغير اسم الله تعالى لم يكن موليا، قال: لأن اليلاء مشتق من اسم الله.
    وليس كذلك لأن الإيلاء من الألية وهي اليمين يقال: آلى الرجل يولي إيلاء أي حلف وأقسم ))
    صفحتي في تويتر : أبو مالك العوضي

  16. #16
    تاريخ التسجيل
    Nov 2006
    المشاركات
    7,156

    افتراضي رد: مذاكرة الحذاق بفوائد ومسائل من علم الاشتقاق

    ( للفائدة من كتاب المثل السائر )
    النوع السادس والعشرون ( في الاشتقاق )
    اعلم أن جماعة علماء البيان يفصلون الاشتقاق عن التجنيس، وليس الأمر كذلك، بل التجنيس أمر عام لهذين النوعين من الكلام، وذاك أن التجنيس في أصل الوضع من قولهم: جانس الشيء الشيء، إذا ماثله وشابهه، ولما كانت الحال كذلك ووجدنا من الألفاظ ما يتماثل ويتشابه في صيغته وبنائه علمنا أن ذلك يطلق عليه اسم التجنيس، وكذلك لما وجدنا من المعاني ما يتماثل ويتشابه علمنا أن ذلك يطلق عليه اسم التجنيس أيضا، فالتجنيس إذن ينقسم قسمين: أحدهما تجنيس في اللفظ، والآخر تجنيس في المعنى، فأما الذي يتعلق باللفظ فإنه لم ينقل عن بابه ولا غير اسمه، وقد تقدم باب الصناعة اللفظية، وأما الذي يتعلق بالمعنى فإنه نقل عن بابه في التجنيس، وسمي الاشتقاق: أي أحد المعنيين مشتق من الآخر.
    وهو على ضربين: صغير وكبير؛
    فالصغير: أن تأخذ أصلا من الأصول فتجمع بين معانيه، وإن اختلفت صيغه ومبانيه، كترتيب (س ل م)، فإنك تأخذ منه معنى السلامة في تصرفه، نحو (سلم) و(سالم) و(سلمان) و(سلمى)، والسليم اللديغ أطلق عليه ذلك تفاؤلا بالسلامة.
    والأصل في ذلك أن يضع واضع اللغة اسما أولاً لمسمى أول، ثم يجد مسمى آخر أو مسميات شبيهة بالمسمى الأول فيضع لها اسما كالاسم الأول، كقوله (ضرير) اسم للأعمى، و(الضر): ضد النفع، و(الضراء): الشدة من الأمر، و(الضر) بالضم: الهزال وسوء الحال، و(الضرر): الضيق، و(الضرة): إحدى الزوجتين، فإن هذه المسميات كلها تدل على الأذى والشر، وأسماؤها متشابهة لم تخرج عن الضاد والراء، إلا أنا الآن لا نعلم ما هو الأول منها حتى نحكم على الثاني أنه مشتق منه، لكن نعلم في السليم اللديغ أنه مشتق من السلامة، لأنه ضدها، قيل: من أجل التفاؤل بالسلامة، وعلى هذا جاء غيره من الأصول، كقولنا: (هشمك هاشم)، و(حاربك محارب)، و(سالمك سالم)، و(أصاب الأرض صيب)، فهذه الألفاظ كلها لفظها واحد ومعناها واحد، أما هاشم فإنه لم يسم بهذا الاسم إلا لأنه هشم الثريد في عام محل فسمي بذلك، وأما محارب فإنه اسم فاعل من حارب فهو محارب، وأما سالم فمن السلامة، وهو اسم فاعل من سلم، وأما الصيب فهو المطر الذي يشتد صوبه: أي وقعه على الأرض، ولا يقاس على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم : " أسلم سالمها الله، وغفار غفر الله، وعصية عصت الله " فإن (أسلم) و(غفار) و(عصية) أسماء قبائل، ولم تسم أسلم من المسالمة، ولا غفار من المغفرة، ولا عصية من تصغير عصا، وهذا هو التجنيس، وليس بالاشتقاق، والنظر في مثل ذلك يحتاج إلى فكرة وتدبر كي لا يختلط التجنيس بالاشتقاق.
    ومما جاء من ذلك شعرا قول البحتري:
    أمحلتي سلمى بكاظمة اسلما
    وكذلك قول الآخر:
    وما زال معقولا عقالٌ عن الندى ........ وما زال محبوسا عن الخير حابسُ
    وربما ظن أن هذا البيت وما يجري مجراه تجنيس، حيث قيل فيه: معقول وعقال، ومحبوس وحابس، وليس الأمر كذلك، وهذا الموضع يقع فيه الاشتباه كثيراً على من لم يتقن معرفته.
    وقد تقدم القول أن حقيقة التجنيس هي: اتفاق اللفظ واختلاف المعنى وعقال ومعقول وحابس ومحبوس اللفظ فيهما واحد والمعنى أيضاً واحد، فهذا مشتق من هذا: أي قد شق منه.
    وكذلك ورد قول عنترة:
    لقد علم القبائل أن قومي ........ لهم حد إذا لبس الحديد
    فإن حدا وحديدا لفظهما واحد ومعناهما واحد.
    وأما الاشتقاق الكبير فهو: أن تأخذ أصلا من الأصول فتعقد عليه وعلى تراكيبه معنى واحدا يجمع تلك التراكيب وما تصرف منها وإن تباعد شيء من ذلك عنها رد بلطف الصنعة والتأويل إليها.
    ولنضرب لذلك مثالا، فنقول: إن لفظة ( ق م ر ) من الثلاثي لها ست تراكيب، وهي: (ق ر م)، (ق م ر)، (ر ق م)، (ر م ق)، (م ق ر)، (م ر ق)، فهذه التراكيب الست يجمعها معنى واحد،وهو القوة والشدة، فالقرم: شدة شهوة اللحم، وقمر الرجل: إذا غلب من يقامره، والرقم: الداهية، وهي الشدة التي تلحق الإنسان من دهره، وعيش مرمق: أي ضيق، وذلك نوع من الشدة أيضا، والمقر: شبه الصبر، يقال: أمقر الشيء، إذا أمر، وفي ذلك شدة على الذائق وكراهة، ومرق السهم، إذا نفذ من الرمية، وذلك لشدة مضائه وقوته.
    واعلم أنه إذا سقط من تراكيب الكلمة شيء فجائز ذلك في الاشتقاق، لأن الاشتقاق ليس من شرطه كمال تركيب الكلمة، بل من شرطه أن الكلمة كيف تقلبت بها تراكيبها من تقديم حروفها وتأخيرها أدت إلى معنى واحد يجمعها

    فمثال ما سقط من تركيب الثلاثي لفظة ( و س ق ) فإن لها خمس تراكيب، وهي: (و س ق)، (و ق س)، (س و ق)، (ق س و)، (ق و س)، وسقط من جملة التراكيب قسم واحد، وهو (س ق و)، وجميع الخمسة المذكورة تدل على القوة والشدة أيضا، فالوسق من قولهم: استوسق الأمر: أي اجتمع وقوي، والوقس: ابتداء الجرب، وفي ذلك شدة على من يصيبه وبلاء، والسوق: متابعة السير، وفي هذا عناء وشدة على السائق والمسوق، والقسوة: شدة القلب وغلظه، والقوس معروفة، وفيها نوع من الشدة والقوة، لنزعها السهم وإخراجه إلى ذلك المرمى المتباعد.
    واعلم أنا لا ندعي أن هذا يطرد في جميع اللغة، بل قد جاء شيء منها كذلك، وهذا مما يدل على شرفها وحكمتها، لأن الكلمة الواحدة تتقلب على ضروب من التقاليب، وهي مع ذلك دالة على معنى واحد، وهذا من أعجب الأسرار التي توجد في لغة العرب وأغربها، فاعرفه.
    إلا أن الاستعمال في النظم والنثر إنما يقع في الاشتقاق الصغير دون الكبير، وسبب ذلك أن الاشتقاق الصغير تكثر الألفاظ الواردة عليه، والاشتقاق الكبير لا يكاد يوجد في اللغة إلا قليلا، وأيضا فإن الحسن اللفظ الذي هو الفصاحة إنما يقع في الاشتقاق الصغير، ولا يقع في الاشتقاق الكبير، ألا ترى إلى هذين الأصلين الواردين ههنا، وهما ( ق ر م ) و ( و س ق ) إذا نظرنا إلى تراكيبهما وأردنا أن نسبكهما في الاستعمال لم يأت منهما مثل ما يأتي في الاشتقاق الصغير حسنا ورونقا، لأن ذاك لفظه لفظ تجنيس، ومعناه معنى اشتقاق والاشتقاق الكبير ليس كذلك.
    صفحتي في تويتر : أبو مالك العوضي

  17. #17
    تاريخ التسجيل
    Nov 2006
    المشاركات
    7,156

    افتراضي رد: مذاكرة الحذاق بفوائد ومسائل من علم الاشتقاق

    ( للفائدة من كتاب المثل السائر )
    النوع السادس والعشرون ( في الاشتقاق )
    اعلم أن جماعة علماء البيان يفصلون الاشتقاق عن التجنيس، وليس الأمر كذلك، بل التجنيس أمر عام لهذين النوعين من الكلام، وذاك أن التجنيس في أصل الوضع من قولهم: جانس الشيء الشيء، إذا ماثله وشابهه، ولما كانت الحال كذلك ووجدنا من الألفاظ ما يتماثل ويتشابه في صيغته وبنائه علمنا أن ذلك يطلق عليه اسم التجنيس، وكذلك لما وجدنا من المعاني ما يتماثل ويتشابه علمنا أن ذلك يطلق عليه اسم التجنيس أيضا، فالتجنيس إذن ينقسم قسمين: أحدهما تجنيس في اللفظ، والآخر تجنيس في المعنى، فأما الذي يتعلق باللفظ فإنه لم ينقل عن بابه ولا غير اسمه، وقد تقدم باب الصناعة اللفظية، وأما الذي يتعلق بالمعنى فإنه نقل عن بابه في التجنيس، وسمي الاشتقاق: أي أحد المعنيين مشتق من الآخر.
    وهو على ضربين: صغير وكبير؛
    فالصغير: أن تأخذ أصلا من الأصول فتجمع بين معانيه، وإن اختلفت صيغه ومبانيه، كترتيب (س ل م)، فإنك تأخذ منه معنى السلامة في تصرفه، نحو (سلم) و(سالم) و(سلمان) و(سلمى)، والسليم اللديغ أطلق عليه ذلك تفاؤلا بالسلامة.
    والأصل في ذلك أن يضع واضع اللغة اسما أولاً لمسمى أول، ثم يجد مسمى آخر أو مسميات شبيهة بالمسمى الأول فيضع لها اسما كالاسم الأول، كقوله (ضرير) اسم للأعمى، و(الضر): ضد النفع، و(الضراء): الشدة من الأمر، و(الضر) بالضم: الهزال وسوء الحال، و(الضرر): الضيق، و(الضرة): إحدى الزوجتين، فإن هذه المسميات كلها تدل على الأذى والشر، وأسماؤها متشابهة لم تخرج عن الضاد والراء، إلا أنا الآن لا نعلم ما هو الأول منها حتى نحكم على الثاني أنه مشتق منه، لكن نعلم في السليم اللديغ أنه مشتق من السلامة، لأنه ضدها، قيل: من أجل التفاؤل بالسلامة، وعلى هذا جاء غيره من الأصول، كقولنا: (هشمك هاشم)، و(حاربك محارب)، و(سالمك سالم)، و(أصاب الأرض صيب)، فهذه الألفاظ كلها لفظها واحد ومعناها واحد، أما هاشم فإنه لم يسم بهذا الاسم إلا لأنه هشم الثريد في عام محل فسمي بذلك، وأما محارب فإنه اسم فاعل من حارب فهو محارب، وأما سالم فمن السلامة، وهو اسم فاعل من سلم، وأما الصيب فهو المطر الذي يشتد صوبه: أي وقعه على الأرض، ولا يقاس على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم : " أسلم سالمها الله، وغفار غفر الله، وعصية عصت الله " فإن (أسلم) و(غفار) و(عصية) أسماء قبائل، ولم تسم أسلم من المسالمة، ولا غفار من المغفرة، ولا عصية من تصغير عصا، وهذا هو التجنيس، وليس بالاشتقاق، والنظر في مثل ذلك يحتاج إلى فكرة وتدبر كي لا يختلط التجنيس بالاشتقاق.
    ومما جاء من ذلك شعرا قول البحتري:
    أمحلتي سلمى بكاظمة اسلما
    وكذلك قول الآخر:
    وما زال معقولا عقالٌ عن الندى ........ وما زال محبوسا عن الخير حابسُ
    وربما ظن أن هذا البيت وما يجري مجراه تجنيس، حيث قيل فيه: معقول وعقال، ومحبوس وحابس، وليس الأمر كذلك، وهذا الموضع يقع فيه الاشتباه كثيراً على من لم يتقن معرفته.
    وقد تقدم القول أن حقيقة التجنيس هي: اتفاق اللفظ واختلاف المعنى وعقال ومعقول وحابس ومحبوس اللفظ فيهما واحد والمعنى أيضاً واحد، فهذا مشتق من هذا: أي قد شق منه.
    وكذلك ورد قول عنترة:
    لقد علم القبائل أن قومي ........ لهم حد إذا لبس الحديد
    فإن حدا وحديدا لفظهما واحد ومعناهما واحد.
    وأما الاشتقاق الكبير فهو: أن تأخذ أصلا من الأصول فتعقد عليه وعلى تراكيبه معنى واحدا يجمع تلك التراكيب وما تصرف منها وإن تباعد شيء من ذلك عنها رد بلطف الصنعة والتأويل إليها.
    ولنضرب لذلك مثالا، فنقول: إن لفظة ( ق م ر ) من الثلاثي لها ست تراكيب، وهي: (ق ر م)، (ق م ر)، (ر ق م)، (ر م ق)، (م ق ر)، (م ر ق)، فهذه التراكيب الست يجمعها معنى واحد،وهو القوة والشدة، فالقرم: شدة شهوة اللحم، وقمر الرجل: إذا غلب من يقامره، والرقم: الداهية، وهي الشدة التي تلحق الإنسان من دهره، وعيش مرمق: أي ضيق، وذلك نوع من الشدة أيضا، والمقر: شبه الصبر، يقال: أمقر الشيء، إذا أمر، وفي ذلك شدة على الذائق وكراهة، ومرق السهم، إذا نفذ من الرمية، وذلك لشدة مضائه وقوته.
    واعلم أنه إذا سقط من تراكيب الكلمة شيء فجائز ذلك في الاشتقاق، لأن الاشتقاق ليس من شرطه كمال تركيب الكلمة، بل من شرطه أن الكلمة كيف تقلبت بها تراكيبها من تقديم حروفها وتأخيرها أدت إلى معنى واحد يجمعها

    فمثال ما سقط من تركيب الثلاثي لفظة ( و س ق ) فإن لها خمس تراكيب، وهي: (و س ق)، (و ق س)، (س و ق)، (ق س و)، (ق و س)، وسقط من جملة التراكيب قسم واحد، وهو (س ق و)، وجميع الخمسة المذكورة تدل على القوة والشدة أيضا، فالوسق من قولهم: استوسق الأمر: أي اجتمع وقوي، والوقس: ابتداء الجرب، وفي ذلك شدة على من يصيبه وبلاء، والسوق: متابعة السير، وفي هذا عناء وشدة على السائق والمسوق، والقسوة: شدة القلب وغلظه، والقوس معروفة، وفيها نوع من الشدة والقوة، لنزعها السهم وإخراجه إلى ذلك المرمى المتباعد.
    واعلم أنا لا ندعي أن هذا يطرد في جميع اللغة، بل قد جاء شيء منها كذلك، وهذا مما يدل على شرفها وحكمتها، لأن الكلمة الواحدة تتقلب على ضروب من التقاليب، وهي مع ذلك دالة على معنى واحد، وهذا من أعجب الأسرار التي توجد في لغة العرب وأغربها، فاعرفه.
    إلا أن الاستعمال في النظم والنثر إنما يقع في الاشتقاق الصغير دون الكبير، وسبب ذلك أن الاشتقاق الصغير تكثر الألفاظ الواردة عليه، والاشتقاق الكبير لا يكاد يوجد في اللغة إلا قليلا، وأيضا فإن الحسن اللفظ الذي هو الفصاحة إنما يقع في الاشتقاق الصغير، ولا يقع في الاشتقاق الكبير، ألا ترى إلى هذين الأصلين الواردين ههنا، وهما ( ق ر م ) و ( و س ق ) إذا نظرنا إلى تراكيبهما وأردنا أن نسبكهما في الاستعمال لم يأت منهما مثل ما يأتي في الاشتقاق الصغير حسنا ورونقا، لأن ذاك لفظه لفظ تجنيس، ومعناه معنى اشتقاق والاشتقاق الكبير ليس كذلك.
    صفحتي في تويتر : أبو مالك العوضي

  18. #18
    تاريخ التسجيل
    Nov 2006
    المشاركات
    7,156

    افتراضي رد: مذاكرة الحذاق بفوائد ومسائل من علم الاشتقاق

    س: هل توجد منظومة في علم الاشتقاق؟

    ج: بحسب علمي لا توجد منظومة في علم الاشتقاق، إلا منظومة للسبكي، اسمها (لمعة الإشراق في أمثلة الاشتقاق)، ولكنها ليست في علم الاشتقاق بالمعنى المذكور هنا، ولكنها في أوزان المشتقات، وللسيوطي شرح عليها، رحم الله الجميع.

    وعلم الاشتقاق أقرب أن يكون من علوم الملكة والمرانة والسليقة من كونه من علوم المتون المختصرة.

    والله أعلم
    صفحتي في تويتر : أبو مالك العوضي

  19. #19
    تاريخ التسجيل
    Nov 2006
    المشاركات
    7,156

    افتراضي رد: مذاكرة الحذاق بفوائد ومسائل من علم الاشتقاق

    قال ابن الوزير اليماني في < ترجيح أساليب القرآن على أساليب اليونان >

    (( والبلاغة مشتقة من بلوغ المتكلم بكلامه إلى بيان مراده ووضوح مقصده وتخليصه من نقص الخطأ والتقصير عن إصابة الشواكل ولصق المفاصل ))

    وهذه فائدة نفيسة ضاربة بأطنابها بين علمي البلاغة والاشتقاق.
    صفحتي في تويتر : أبو مالك العوضي

  20. #20
    تاريخ التسجيل
    Nov 2006
    المشاركات
    7,156

    افتراضي رد: مذاكرة الحذاق بفوائد ومسائل من علم الاشتقاق

    س: ماذا عن كتاب الاشتقاق لعبد الله أمين، وكتاب العلم الخفاق للقنوجي؟

    ج: أما (العلم الخفاق) فلم يعدُ أن يكون ناقلا ما في كتاب شيخه الشوكاني (نزهة الأحداق)، مع ضم ما وقف عليه في بقية الكتب كالمزهر وغيره، بغير ترتيب ولا تهذيب.

    وأما (الاشتقاق) لعبد الله أمين؛ فجل مسائله من علم التصريف، وليس لها علاقة بعلم الاشتقاق بالمعنى المذكور هنا.
    والخلط بين الاشتقاق والتصريف قديم، ولذلك تجد كثيرا من الباحثين يخطئون في تعداد المراجع في هذا الفن لمجرد أنها تسمى باسم (الاشتقاق) أو نحوه!

    وهذا الخلط ليس عيبا؛ لأنه لا يعدو أن يكون اختلافا في الاصطلاح، ولكنه مما ينبغي التنبيه عليه حتى لا يشكل على طلاب العلم.

    وينظر ما هنا كمثال على هذا الخلط:
    http://www.iu.edu.sa/Magazine/107/7.htm
    صفحتي في تويتر : أبو مالك العوضي

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •