( للفائدة من كتاب المثل السائر )
النوع السادس والعشرون ( في الاشتقاق )
اعلم أن جماعة علماء البيان يفصلون الاشتقاق عن التجنيس، وليس الأمر كذلك، بل التجنيس أمر عام لهذين النوعين من الكلام، وذاك أن التجنيس في أصل الوضع من قولهم: جانس الشيء الشيء، إذا ماثله وشابهه، ولما كانت الحال كذلك ووجدنا من الألفاظ ما يتماثل ويتشابه في صيغته وبنائه علمنا أن ذلك يطلق عليه اسم التجنيس، وكذلك لما وجدنا من المعاني ما يتماثل ويتشابه علمنا أن ذلك يطلق عليه اسم التجنيس أيضا، فالتجنيس إذن ينقسم قسمين: أحدهما تجنيس في اللفظ، والآخر تجنيس في المعنى، فأما الذي يتعلق باللفظ فإنه لم ينقل عن بابه ولا غير اسمه، وقد تقدم باب الصناعة اللفظية، وأما الذي يتعلق بالمعنى فإنه نقل عن بابه في التجنيس، وسمي الاشتقاق: أي أحد المعنيين مشتق من الآخر.
وهو على ضربين: صغير وكبير؛
فالصغير: أن تأخذ أصلا من الأصول فتجمع بين معانيه، وإن اختلفت صيغه ومبانيه، كترتيب (س ل م)، فإنك تأخذ منه معنى السلامة في تصرفه، نحو (سلم) و(سالم) و(سلمان) و(سلمى)، والسليم اللديغ أطلق عليه ذلك تفاؤلا بالسلامة.
والأصل في ذلك أن يضع واضع اللغة اسما أولاً لمسمى أول، ثم يجد مسمى آخر أو مسميات شبيهة بالمسمى الأول فيضع لها اسما كالاسم الأول، كقوله (ضرير) اسم للأعمى، و(الضر): ضد النفع، و(الضراء): الشدة من الأمر، و(الضر) بالضم: الهزال وسوء الحال، و(الضرر): الضيق، و(الضرة): إحدى الزوجتين، فإن هذه المسميات كلها تدل على الأذى والشر، وأسماؤها متشابهة لم تخرج عن الضاد والراء، إلا أنا الآن لا نعلم ما هو الأول منها حتى نحكم على الثاني أنه مشتق منه، لكن نعلم في السليم اللديغ أنه مشتق من السلامة، لأنه ضدها، قيل: من أجل التفاؤل بالسلامة، وعلى هذا جاء غيره من الأصول، كقولنا: (هشمك هاشم)، و(حاربك محارب)، و(سالمك سالم)، و(أصاب الأرض صيب)، فهذه الألفاظ كلها لفظها واحد ومعناها واحد، أما هاشم فإنه لم يسم بهذا الاسم إلا لأنه هشم الثريد في عام محل فسمي بذلك، وأما محارب فإنه اسم فاعل من حارب فهو محارب، وأما سالم فمن السلامة، وهو اسم فاعل من سلم، وأما الصيب فهو المطر الذي يشتد صوبه: أي وقعه على الأرض، ولا يقاس على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم : " أسلم سالمها الله، وغفار غفر الله، وعصية عصت الله " فإن (أسلم) و(غفار) و(عصية) أسماء قبائل، ولم تسم أسلم من المسالمة، ولا غفار من المغفرة، ولا عصية من تصغير عصا، وهذا هو التجنيس، وليس بالاشتقاق، والنظر في مثل ذلك يحتاج إلى فكرة وتدبر كي لا يختلط التجنيس بالاشتقاق.
ومما جاء من ذلك شعرا قول البحتري:
وكذلك قول الآخر:
وما زال معقولا عقالٌ عن الندى ........ وما زال محبوسا عن الخير حابسُ
وربما ظن أن هذا البيت وما يجري مجراه تجنيس، حيث قيل فيه: معقول وعقال، ومحبوس وحابس، وليس الأمر كذلك، وهذا الموضع يقع فيه الاشتباه كثيراً على من لم يتقن معرفته.
وقد تقدم القول أن حقيقة التجنيس هي: اتفاق اللفظ واختلاف المعنى وعقال ومعقول وحابس ومحبوس اللفظ فيهما واحد والمعنى أيضاً واحد، فهذا مشتق من هذا: أي قد شق منه.
وكذلك ورد قول عنترة:
لقد علم القبائل أن قومي ........ لهم حد إذا لبس الحديد
فإن حدا وحديدا لفظهما واحد ومعناهما واحد.
وأما الاشتقاق الكبير فهو: أن تأخذ أصلا من الأصول فتعقد عليه وعلى تراكيبه معنى واحدا يجمع تلك التراكيب وما تصرف منها وإن تباعد شيء من ذلك عنها رد بلطف الصنعة والتأويل إليها.
ولنضرب لذلك مثالا، فنقول: إن لفظة ( ق م ر ) من الثلاثي لها ست تراكيب، وهي: (ق ر م)، (ق م ر)، (ر ق م)، (ر م ق)، (م ق ر)، (م ر ق)، فهذه التراكيب الست يجمعها معنى واحد،وهو القوة والشدة، فالقرم: شدة شهوة اللحم، وقمر الرجل: إذا غلب من يقامره، والرقم: الداهية، وهي الشدة التي تلحق الإنسان من دهره، وعيش مرمق: أي ضيق، وذلك نوع من الشدة أيضا، والمقر: شبه الصبر، يقال: أمقر الشيء، إذا أمر، وفي ذلك شدة على الذائق وكراهة، ومرق السهم، إذا نفذ من الرمية، وذلك لشدة مضائه وقوته.
واعلم أنه إذا سقط من تراكيب الكلمة شيء فجائز ذلك في الاشتقاق، لأن الاشتقاق ليس من شرطه كمال تركيب الكلمة، بل من شرطه أن الكلمة كيف تقلبت بها تراكيبها من تقديم حروفها وتأخيرها أدت إلى معنى واحد يجمعها
فمثال ما سقط من تركيب الثلاثي لفظة ( و س ق ) فإن لها خمس تراكيب، وهي: (و س ق)، (و ق س)، (س و ق)، (ق س و)، (ق و س)، وسقط من جملة التراكيب قسم واحد، وهو (س ق و)، وجميع الخمسة المذكورة تدل على القوة والشدة أيضا، فالوسق من قولهم: استوسق الأمر: أي اجتمع وقوي، والوقس: ابتداء الجرب، وفي ذلك شدة على من يصيبه وبلاء، والسوق: متابعة السير، وفي هذا عناء وشدة على السائق والمسوق، والقسوة: شدة القلب وغلظه، والقوس معروفة، وفيها نوع من الشدة والقوة، لنزعها السهم وإخراجه إلى ذلك المرمى المتباعد.
واعلم أنا لا ندعي أن هذا يطرد في جميع اللغة، بل قد جاء شيء منها كذلك، وهذا مما يدل على شرفها وحكمتها، لأن الكلمة الواحدة تتقلب على ضروب من التقاليب، وهي مع ذلك دالة على معنى واحد، وهذا من أعجب الأسرار التي توجد في لغة العرب وأغربها، فاعرفه.
إلا أن الاستعمال في النظم والنثر إنما يقع في الاشتقاق الصغير دون الكبير، وسبب ذلك أن الاشتقاق الصغير تكثر الألفاظ الواردة عليه، والاشتقاق الكبير لا يكاد يوجد في اللغة إلا قليلا، وأيضا فإن الحسن اللفظ الذي هو الفصاحة إنما يقع في الاشتقاق الصغير، ولا يقع في الاشتقاق الكبير، ألا ترى إلى هذين الأصلين الواردين ههنا، وهما ( ق ر م ) و ( و س ق ) إذا نظرنا إلى تراكيبهما وأردنا أن نسبكهما في الاستعمال لم يأت منهما مثل ما يأتي في الاشتقاق الصغير حسنا ورونقا، لأن ذاك لفظه لفظ تجنيس، ومعناه معنى اشتقاق والاشتقاق الكبير ليس كذلك.