تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    46,490

    افتراضي وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ

    وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ


    خالد سعد النجار



    {وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196)}
    {{وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ}} طريقه، والطريق إذا أضيف إلى شيء فإنما يضاف إلى ما يوصل إليه، ولما عُلم أن الله لا يصل إليه الناس تعين أن يكون المراد من الطريق العمل الموصل إلى مرضاة الله وثوابه، فهو مجاز في اللفظ ومجاز في الإسناد، وقد غلب { {سَبِيلِ اللَّهِ}} في اصطلاح الشرع في الجهاد. أي القتال للذب عن دينه وإعلاء كلمته.
    {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ} بأنفسكم، وألقى بيده في كذا، أو إلى كذا، إذا استسلم، لأن المستسلم في القتال يلقي سلاحه بيديه {إِلَى التَّهْلُكَةِ} عطف على الأمر بالإنفاق للإشارة إلى علة مشروعية الإنفاق وإلى سبب الأمر به، فإن ترك الإنفاق في سبيل الله والخروج بدون عدة إلقاء باليد للهلاك، فلذلك وجب الإنفاق، ولأن اعتقاد كفاية الإيمان بالله ونصر دينه في هزيمة الأعداء اعتقاد غير صحيح، لأنه كالذي يلقي بنفسه للهلاك ويقول سينجيني الله تعالى، فهذا النهي قد أفاد المعنيين جميعا وهذا من أبدع الإيجاز.
    {{وَأَحْسِنُوَاْ }} الإحسان فعل النافع الملائم {إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} هذا تحريض على الإحسان لأن فيه إعلاماً بأن الله يحب من الإحسان صفة له، ومن أحبه الله لهذا الوصف فينبغي أن يقوم وصف الإحسان به دائماً بحيث لا يخلو منه محبة الله دائماً.
    والإحسان الذي به تمام الواجب فالأمر فيه للوجوب؛ وأمّا الإحسان الذي به كمال العمل فالأمر فيه للاستحباب.
    روى يزيد بن حبيب عن أسلم بن أبي عمران أنه قال: غزونا القسطنطينية، وعلى الجماعة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، والروم ملصقوا ظهورهم بحائط المدينة، فحمل رجل على العدو، فقال الناس: مه مه، لا إله إلا الله، يلقي بيديه إلى التهلكة، فقال أبو أيوب: سبحان الله، أنزلت هذه الآية فينا معاشر الأنصار، لما نصر الله تعالى نبيه، وأظهر دينه. قلنا هلم نقيم في أموالنا ونصلحها، فأنزل الله تعالى: {{وَأنْفِقُوا في سَبِيلِ اللهِ}} ، والإلقاء بالأيدي إلى التهلكة، أن نقيم في أموالنا فنصلحها وندع الجهاد.. قال الراوي: فلم يزل أبو أيوب يجاهد في سبيل الله حتى دفن بالقسطنطينية.
    وقد فهم من فهم من قوله تعالى: {{وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}} انغماس الرجل في العدو. حتى بين له أبو أيوب الأنصاري أن هذا ليس من الإلقاء بيده إلى التهلكة، بل هو من بيع الرجل نفسه ابتغاء مرضاة الله، وأن الإلقاء بيده إلى التهلكة هو ترك الجهاد والإقبال على الدنيا وعمارتها.
    وقال محمد بن الحسن في السير الكبير: لو حمل رجل واحد على ألف من المشركين وهو وحده، لم يكن به بأس إذا كان يطمع في نجاة أو نكاية في العدو، فإن لم يكن كذلك فهو مكروه، لأنه عرض نفسه للتلف من غير منفعة للمسلمين. فإن كان قصده تجرئة المسلمين عليهم حتى يصنعوا مثل ما صنعه، فلا يبعد جوازه، لأن فيه منفعة للمسلمين على بعض الوجوه. وإن كان قصده إرهاب العدو، ليعلم العدو صلابة المسلمين في الدين، فلا يبعد جوازه، وإذا كان فيه نفع للمسلمين، فيتلف نفسه لإعزاز الدين وتوهين الكفر، فهو المقام الشريف الذي مدح الله به المؤمنين في قوله: {{إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُوا ْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}} [التوبة:111]..، إلى غيرها من آيات مدح الله بها من يذل نفسه لله عز وجل.
    قال ابن عاشور: ووجه الحاجة إلى هذا الأمر - مع أن الاستعداد للحرب مركوز في الطباع تنبيه المسلمين، فإنهم قد يقصرون في الإتيان على منتهى الاستعداد لعدو قوي، لأنهم قد ملئت قلوبهم إيمانا بالله وثقة به، وملئت أسماعهم بوعد الله إياهم النصر وأخيرا بقوله: {{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}} [البقرة:194] نبهوا على أن تعهد الله لهم بالتأييد والنصر لا يسقط عنهم أخذ العدة المعروفة فلا يحسبوا أنهم غير مأمورين ببذل الوسع لوسائل النصر التي هي أسباب ناط الله تعالى بها مسبباتها على حسب الحكمة التي اقتضاها النظام الذي سنه الله في الأسباب ومسبباتها، فتطلب المسببات دون أسبابها غلط وسوء أدب مع خالق الأسباب ومسبباتها كي لا يكونوا كالذين قالوا لموسى: {{فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}} [المائدة:24] فالمسلمون إذا بذلوا وسعهم، ولم يفرطوا في شيء ثم ارتبكوا في أمر بعد ذلك فالله ناصرهم، ومؤيدهم فيما لا قبل لهم بتحصيله، ولقد نصرهم الله ببدر وهم أذلة، إذ هم يومئذ جملة المسلمين وإذ لم يقصروا في شيء، فأما أقوام يتلفون أموال المسلمين في شهواتهم، وَيُفِيتُونَ الْفُرَصَ وقت الأمن فلا يستعدون لشيء ثم يطلبون بعد ذلك من الله النصر والظفر فأولئك قوم مغرورون، ولذلك يسلط الله عليهم أعداءهم بتفريطهم. ولعله يتداركهم في خلال ذلك بلطفه فيما يرجع إلى استبقاء الدين.
    لا خلاف في أن الآية التالية نزلت في الحديبية سنة ست حين صد المشركون المسلمين عن البيت، وقد كانوا ناوين العمرة وذلك قبل أن يفرض الحج إذ كان الحج بيد المشركين فالمقصود من الكلام هو العمرة؛ وإنما ذكر الحج على وجه الإدماج تبشيرا بأنهم سيتمكنون من الحج فيما بعد، وهذا من معجزات القرآن.
    {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ} أصل الحج في اللغة: تكرر القصد إلى الشيء أو كثرة قاصديه، والحج من أشهر العبادات عند العرب وهو مما ورثوه عن شريعة إبراهيم عليه السلام كما حكى الله ذلك. بقوله: {{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} } [الحج:27] الآية حتى قيل: إن العرب هم أقدم أمة عرفت عندها عادة الحج، وهم يعتقدون أن زيارة الكعبة سعى لله تعالى، وكانوا يتجردون عند الإحرام من مخيط الثياب ولا يمسون الطيب ولا يقربون النساء ولا يصطادون، وكان الحج طوافا بالبيت وسعيا بين الصفا والمروة ووقوفا بعرفة ونحرا بمنى. وربما كان بعض العرب لا يأكل مدة الحج أقطا ولا سمنا أي لأنه أكل المترفهين ولا يستظل بسقف، ومنهم من يحج متجردا من الثياب، ومنهم من لا يستظل من الشمس، ومنهم من يحج صامتا لا يتكلم، ولا يشربون الخمر في أشهر الحج.
    {{وَالْعُمْرَةَ}} مشتقة من التعمير وهو شغل المكان ضد الإخلاء ولكنها بهذا الوزن لا تطلق إلا على زيارة الكعبة في غير أشهر الحج، وهي معروفة عند العرب وكانوا يجعلون ميقاتها ما عدا أشهر ذي الحجة والمحرم وصفر، فكانوا يقولون "إذا برئ الدبر، وعفا الأثر، وخرج صفر، حلت العمرة لمن اعتمر". ولعلهم جعلوا ذلك لتكون العمرة بعد الرجوع من الحج وإراحة الرواحل.
    واصطلح المضريون على جعل رجب هو شهر العمرة ولذلك حرمته مضر فلقب برجب مضر، وتبعهم بقية العرب، ليكون المسافر للعمرة آمنا من عدوه؛ ولذلك لقبوا رجبا «منصل الأسنة» ويرون العمرة في أشهر الحج فجورا.
    {{لِلّهِ}} أي لأجل الله وعبادته، والعرب من عهد الجاهلية لا ينوون الحج إلا لله ولا العمرة إلا له، لأن الكعبة بيت الله وحرمه، فالتقييد هنا بقوله: {لله} تلويح إلى أن الحج والعمرة ليسا لأجل المشركين وإن كان لهم فيهما منفعة وكانوا هم سدنة الحرم، وهم الذين منعوا المسلمين منه، كي لا يسأم المسلمون من الحج الذي لاقوا فيه أذى المشركين فقيل: لهم إن ذلك لا يصد عن الرغبة في الحج والعمرة، لأنكم إنما تحجون لله لا لأجل المشركين، ولأن الشيء الصالح المرغوب فيه إذا حف به ما يكره لا ينبغي أن يكون ذلك صارفا عنه، بل يجب إزالة ذلك العارض عنه، ومن طرق إزالته القتال المشار إليه بالآيات السابقة.
    ويجوز أن يكون التقييد بقوله: { {لله}} لتجريد النية مما كان يخامر نوايا الناس في الجاهلية من التقرب إلى الأصنام، فإن المشركين لما وضعوا هبلا على الكعبة ووضعوا إسافا ونائلة على الصفا والمروة قد أشركوا بطوافهم وسعيهم الأصنام مع الله تعالى.
    وقد يكون القصد من هذا التقييد كلتا الفائدتين.
    وقد يكون المعنى: أي أكملوه إن شرعتم فيه، فإتمامهما أن يحرم بهما من الميقات وأن يأتي بأركانهما وواجباتهما على الوجه المطلوب من الشارع، وأن يخلص فيهما لله تعالى.
    {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} أحصر الرجل رد عن وجه يريده، والحصير معروف: وهو سقيف من بردى سمى بذلك لانضمام بعضه إلى بعض، كحبس الشيء مع غيره. قال تعالى: {{لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}} [البقرة:273] أي منعهم الفقر من السفر للجهاد.
    والمعنى إن عجز الحاج أو المعتمر عن إتمام حجه أو عمرته إما بعدوا يصده عن دخول مكة أو مرض شديد لا يقدر معه على مواصلة السير إلى مكة
    {{فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}} الهدي ما يهدى إلى بيت الله تعالى تقرباً إليه، بمنزلة الهدية يهديها الإنسان إلى غيره، والمعنى ما تيسر له من الهدي شاة أو بقرة أو بعير، والمقصود من هذا تحصيل بعض مصالح الحج بقدر الإمكان، فإذا فاتت المناسك لا يفوت ما ينفع فقراء مكة ومن حولها.
    ومن فوائد الآية: أن الحج، والعمرة يخالفان غيرهما في وجوب إتمام نفلهما؛ لقوله تعالى: {{وأتموا}} ؛ والأمر للوجوب؛ ويدل على أنه للوجوب قوله تعالى: {{فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}} ، حيث أوجب الهدي عند الإحصار؛ أما غيرهما من العبادات فإن النفل لا يجب إتمامه؛ فروى مسلم «عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْها- قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ: (هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ؟) فَقُلْنَا: لَا. قَالَ: (فَإِنِّي إِذَنْ صَائِمٌ) ثُمَّ أَتَانَا يَوْمًا آخَرَ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُهْدِيَ لَنَا حَيْسٌ [التمر مع السمن والأقط وهو اللبن المجفف] فَقَالَ: (أَرِينِيهِ فَلَقَدْ أَصْبَحْتُ صَائِمًا) فَأَكَلَ» ؛ لكن يكره قطع النفل إلا لغرض صحيح - كحاجة إلى قطعه، أو انتقال لما هو أفضل منه.
    فإن قال قائل: هل يؤكل من هذا الهدي أم لا؟
    فالجواب: يؤكل؛ كل شيء فيه: {{فما استيسر}} فهو يؤكل؛ وأما ما في: «فعليه» فإنه لا يؤكل؛ فجزاء الصيد لا يؤكل منه؛ وفدية الأذى لا يؤكل منها؛ لأن الله جعلها كفارة؛ أما ما استيسر من الهدي هنا، وفي التمتع فإنه يؤكل منه.
    {{وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ}} لا يتحلل المحصر من إحرامه حتى يذبح ما تيسر له من الهدى، فإن ذبح تحلل بحلق رأسه، فإن لم يجد هديا يقوم الهدي بالدراهم، ويشترى بها طعام.
    ثم يستحب له القضاء من قابل إن تيسر ذلك، لأن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قضى هو وأصحابه العمرة التي صدوا فيها عن المسجد الحرام عام الحديبية.
    قال ابن عثيمين: المحصر لا يجب عليه القضاء؛ لأن الله سبحانه وتعالى لم يذكره؛ ولو كان القضاء واجباً لذكره الله عز وجل؛ وهذا يشمل من حصر في فريضة؛ ومن حصر في نافلة؛ لكن الفريضة إذا حصر عن إتمامها يلزمه فعلها بالخطاب الأول؛ لا على أنه بدل عن هذه التي أحصر عنها؛ فمثلاً رجلاً شرع في حج الفريضة، ثم أحصر عن إتمامها، فذبح الهدي، وتحلل؛ فيجب الحج عليه بعد ذلك؛ لكن ليس على أنه قضاء؛ لكن على أنه مخاطب به في الأصل؛ وتسمية العمرة التي وقعت بعد صلح الحديبية «عمرة القضاء» ليست لأنها قضاء عما فات؛ ولكنها من «المقاضاة» ــــ وهي المصالحة ــــ؛ ولذلك لم يأت بها كل من تحلل من عمرة الحديبية.
    {{فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ}} ثلاثة أيام {{أَوْ}} للتخيير {{صَدَقَةٍ}} ما أعطي من مال بلا عوض تقرباً إلى الله تعالى {{أَوْ نُسُكٍ}} أصل النسك: سبائك الفضة الخالصة، كل سبيكة منها نسيكة، ثم قيل للمتعبد: ناسك لأنه خلص نفسه من دنس الآثام وصفاها، كالنسيكة المخلصة من الدنس، ثم قيل للذبيحة الذبيحة المتقرب بها لله: نسك، لأنها من أشرف العبادات التي تتقرب بها إلى الله تعالى.
    والمعنى: فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه واضطر إلى حلق شعر رأسه أو لبس ثوب أو تغطية رأس فالواجب بعد أن يفعل ذلك فدية وهي واحد من ثلاثة على التخيير: صيام ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من طعام، أو ذبح شاة.
    عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: «كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ وَنَحْنُ مُحْرِمُونَ وَقَدْ حَالَ الْمُشْرِكُونَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْبَيْتِ وَلِي وَفْرَةٌ فَجَعَلَ الْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلَيَّ، أَوْ قَالَ: عَلَى وَجْهِيَ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (يُؤْذِيكَ هَوَامُّكَ؟) قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: (فَاحْلِقْ رَأْسَكَ وَصُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ، أَوِ انْسُكْ نُسُكًا)» [مسند الطيالسي]
    وفي البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْقِلٍ قَالَ « جَلَسْتُ إِلَى كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فَسَأَلْتُهُ عَنْ الْفِدْيَةِ فَقَالَ نَزَلَتْ فِيَّ خَاصَّةً وَهِيَ لَكُمْ عَامَّةً حُمِلْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِي فَقَالَ: (مَا كُنْتُ أُرَى الْوَجَعَ بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى أَوْ مَا كُنْتُ أُرَى الْجَهْدَ [المشقة] بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى، تَجِدُ شَاةً؟) فَقُلْتُ لَا. فَقَالَ: (فَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ)» .
    ومن لطائف القرآن ترك التصريح بما هو مرذول من الألفاظ لقوله: {{أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ}} .
    ومن فوائد الآية: أن محظورات الإحرام لا تفسده؛ لأن الله لم يوجب في حلق الرأس ــــ مع أنه من محظورات الإحرام ــــ إلا الفدية؛ ومقتضى ذلك أن النسك صحيح؛ وهذا مما يخالف الحجُّ والعمرةُ فيه غيرَهما من العبادات؛ فإن المحظورات في العبادات تبطلها؛ وألحق العلماء بفدية حلق الرأس فدية جميع محظورات الإحرام ما عدا شيئين؛ وهما الجماع في الحج قبل التحلل الأول، وجزاء الصيد؛ فالجماع في الحج قبل التحلل الأول يجب فيه بدنة؛ وجزاء الصيد يجب فيه مثله؛ أو إطعام مساكين؛ أو عدل ذلك صياماً؛ وما عدا ذلك من المحظورات ففديتها كفدية حلق الرأس عند الفقهاء، أو كثير منهم.
    {{فَإِذَا أَمِنتُمْ}} من الإحصار بعدو أو مرض {{فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ}} أي إلى ابتداء زمن الحج؛ وهو اليوم الثامن من ذي الحجة {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} أي فمن أحرم بعمرة في أشهر الحج وتحلل وبقي في مكة ينتظر الحج وحج فعلاً فالواجب ما استيسر من الهدي، وهذا رخصة من الله تعالى، إذ أباح العمرة في مدة الحج بعد أن كان ذلك محظور في عهد الجاهلية إذ كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أعظم الفجور.
    {{فَمَن لَّمْ يَجِدْ}} الهدي أو ثمنه {{فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ}} أي فمن تمتع بالعمرة ولم يجد هدياً لعجزه عنه، فالواجب صيام عشرة أيام، ثلاثة في مكة -من أول شهر الحجة إلى يوم التاسع منه- وسبعة أيام إذا رجع إلى بلاده {{تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} } للتأكيد على أن هذه الأيام العشرة وإن كانت مفرقة فهي في حكم المتتابعة {ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ} سكنه، أي الذين يسكن إليهم من زوجة، وأب، وأم، وأولاد {{حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}} ذي الحرمة، والمراد بهم أهل الحرم المكي .. فالتمتع بالعمرة إلى الحج خاص بأهل الآفاق، أما أهل مكة فلا شيء عليهم إذا تمتعوا.
    {{وَاتَّقُواْ اللّهَ}} وصاية بالتقوى بعد بيان الأحكام التي لا تخلوا من مشقة للتحذير من التهاون بها، فالأمر بالتقوى عام، وكون الحج من جملة ذلك هو من جملة العموم وهو أجدر أفراد العموم، ولأن الكلام فيه.

    {{وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} } أي شديد المؤاخذة، وسميت المؤاخذة عقاباً؛ لأنها تأتي عقب الذنب.
    وافتتح بقوله: {{وَاعْلَمُوا}} اهتماما بالخبر فلم يقتصر بأن يُقَالَ: {{وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} } [المائدة:2] فإنه لو اقتصر عليه لَحَصَلَ العلم المطلوب، لأن العلم يحصل من الخبر، ولكن لما أريد تحقيق الخبر افتتح بالأمر بالعلم، لأنه في معنى تحقيق الخبر، كأنه يقول: لا تشكوا في ذلك، فأفاد مفاد «إِنَّ».


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jun 2022
    المشاركات
    2,228

    افتراضي رد: وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ

    "سبيل الله" أعم من الجهاد . .
    .. .

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •