فأمَّا قولُ الإمامِ أحمَدَ: إنَّ كتابَ (الرِّسالةِ) للشَّافعيِّ "شيءٌ مُحدَثٌ" فقد أحال فيه الأستاذُ على روايةٍ في طبقاتِ الحنابلةِ؛ فيها: أنَّ أحمَدَ سُئِل: "أترى أن يكتُبَ الرَّجلُ كُتبَ الشَّافعيِّ؟"، قال: لا، قيل له: "أترى أن يكُتبَ (الرِّسالةَ)؟"، قال: لا تسألْني عن شيءٍ مُحدَثٍ، قيل له: "كتبْتَها؟"، قال: "معاذَ اللهِ!"(2)، وهذا الجزءُ الأخيرُ مِن كلامِ الإمامِ أحمَدَ الذي ينفي فيه أن يكونَ كتَب رسالةَ الشَّافعيِّ لم ينقلْه الأستاذُ لنا رغمَ وجودِه في الرِّوايةِ التي يستشهِدُ بها، ولو أنَّه نقل هذا الجزءَ مِن الرِّوايةِ لَفهِم القارئُ أنَّه يتناقضُ معَ ما نقلَه الأستاذُ بعدَ ذلك عندَما قال: وإن كان رُوِيَ عنه أنَّه كان يحتفِظُ بنُسخةٍ مِن الرِّسالةِ القديمةِ والرِّسالةِ الجديدةِ بخطِّه"(3).

فنحن هنا أمامَ روايتَينِ اثنتَينِ: روايةٍ يُسألُ فيها أحمَدُ إن كان كتَب رسالةَ الشَّافعيِّ، فيقولُ: "معاذَ اللهِ!"، وروايةٍ أخرى فيها أنَّ أحمَدَ كتَب الرسالةَ بخطِّ يدِه مرَّتَينِ، فأيُّ الرِّوايتَينِ أصَحُّ؟ وإن كانتا صحيحتَينِ معًا، فهل تغيَّر موقفُ الإمامِ مِن رسالةِ الشَّافعيِّ وما ماثَلها؟

قواعدُ البحثِ العِلميِّ هنا تفرضُ تحريرَ موقفِ الإمامِ، ومُعالجةَ هذا التَّعارُضِ بينَ الرِّوايتَينِ قبلَ الاستشهادِ بأيٍّ منهما، أمَّا التقاطُ ما يعضدُ النَّتيجةَ المُستهدَفةَ، ثُمَّ غضُّ الطَّرفِ عن دَلالةِ الرِّوايةِ المُعارِضةِ- فهذا مسلكٌ يندرجُ تحتَ ما ظَللْتُ أسمِّيه: زخارفَ وأسمارًا.

مُعالجةُ هذا التَّعارُضِ كانت ستكشفُ للأستاذِ خطأَ قولِه: "نستطيعُ أن نقولَ قولًا عامًّا: إنَّ مِن منهجِ الإمامِ كراهةَ وضعِ الكُتبِ في غيرِ الأحاديثِ والآثارِ"؛ فأحمَدُ -رحِمه اللهُ- وإن جاءت عنه رواياتٌ كثيرةٌ في النَّهيِ عن الكُتبِ المُشتمِلةِ على غيرِ الحديثِ والأثرِ(4)- فإنَّ ثمَّةَ رواياتٍ أخرى كثيرةً -أيضًا- تُبيِّنُ أنَّه لم يثبُتْ على هذا الموقفِ الصَّارمِ، وأنَّه رجَع عن بعضِه، فرخَّص في نوعٍ مِن الكُتبِ التي لم يرَ فيها مُعارَضةً للحديثِ بالرَّأيِ، وكان مِن جملةِ ما رخَّص فيه الإمامُ، بل ما حثَّ على قراءتِه وكتابتِه مُصنَّفاتُ الإمامِ الشَّافعيِّ، بل قد نصَّ ورغَّب في العنايةِ بكتابِ (الرِّسالةِ) خاصَّةً، الذي نقل لنا الأستاذُ أنَّ أحمَّدَ اعتبَرها شيئًا مُحدَثًا.

فممَّا صحَّ عن الإمامِ أنَّه كان يقولُ: "صاحبُ الحديثِ لا يشبَعُ مِن كُتبِ الشَّافعيِّ"(5).

ويقولُ أبو زُرعةَ الرَّازيُّ؛ تلميذُ الإمامِ: "نظَر أحمَدُ بنُ حنبلٍ في كُتبِ الشَّافعيِّ، وقرأ له كتابًا في مناقِبِه"(6).

وقال الإمامُ إسحاقُ بنُ راهَوَيه: "كتبْتُ إلى أحمَدَ، وسألْتُه أن يوجِّهَ إليَّ مِن كُتبِ الشَّافعيِّ ما يدخُلُ في حاجتي، فوجَّه إليَّ بكتابِ (الرِّسالةِ)"(7). وكان أحمَدُ لمَّا وجَّه إلى إسحاقَ بنُسخةِ (الرِّسالةِ) كتَب له يقولُ: "قد أنفذْتُ إليك مِن كُتبِه كتابًا يدُلُّك على عوامِّ أصولِ العِلمِ"(8).

وقال الميمونيُّ: "قال لي أحمَدُ بنُ حنبلٍ: لمَ لا تنظرُ في كُتبِ الشَّافعيِّ؟ فما مِن أحدٍ وضع الكُتبَ حتَّى ظهرَت أتبَعُ للسُّنَّةِ مِن الشَّافعيِّ؟!"(9) ويروي البَيهقيُّ أنَّ أحمَدَ لمَّا قال للميمونيِّ: "لمَ لا تنظرُ في كُتبِ الشَّافعيِّ؟!" قال له الميمونيُّ: "يا أبا عبدِ اللهِ، نحن مشاغيلُ"، فقال الإمامُ: "فكتابُ (الرِّسالة)، فانظرْ فيها؛ فإنَّها مِن أحسَنِ كُتبِه"(10).

ويذكرُ الحافظُ مُحمَّدُ بنُ مُسلِمِ بنِ وارةَ أنَّه سأل أحمَدَ عمَّا ينظرُ فيه مِن الكُتبِ: كُتبِ مالِكٍ، أو الثَّوريِّ، أو الأوزاعيِّ؟ فقال له أحمَدُ: "عليك بالشَّافعيِّ؛ فإنَّه أكثَرُهم صوابًا، أو أتبَعُهم للآثارِ"، قال: قلْتُ لأحمَدَ: فما ترى في كُتبِ الشَّافعيِّ؛ التي عندَ العِراقيِّينَ أحَبُّ إليك، أو التي بمِصرَ؟ قال: عليك بالكُتبِ التي وضَعها بمِصرَ؛ فإنَّه وضع هذه الكُتبَ بالعراقِ، ولم يُحكِمْها، ثُمَّ رجَع إلى مِصرَ فأحكَم ذلك"(11).

فبهذه الرِّواياتِ التي طواها الأستاذُ وغيَّبها تتَّضحُ الصُّورةُ الكاملةُ لموقفِ الإمامِ أحمَدَ مِن تصنيفِ الكُتبِ، ومِن كتابِ (الرِّسالةِ) خاصَّةً؛ الذي نقل لنا الأستاذُ فقط أنَّ الإمامَ قال عنها "شيءٌ مُحدَثٌ"!