سلامة التعامل مع الآخرين


عبدالستار المرسومي








حُسْن الاستماع وقَبول الرأي الآخر من الصفات المهمَّة لصاحب الشخصية القوية، وحُسْن الاستِماع هذا يَعني: مَنح الفرصة المناسِبة للمُقابل في أن يتَكلَّم ويُبديَ رأيه، ويُعبِّر عن وجهة نظره بشكل كامل، وعدم مُصادَرة حقه في الكلام، كما أنه لا يعني اتخاذ المقابل ندًّا وخصمًا، وكأنه في معركة يُريد أن يُدمِّر الآخَرين ويَنتصِر عليهم وحَسْب.

يقول النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ أبغض الرجال إلى الله الألَدُّ الخَصمُ))[1]، ومما وصَل إلينا مِن أقوال النبيِّين عليهم السلام قول سُليمان بن داود عليهما السلام لابنه: "دع المراء؛ فإن نفعَه قليل، وهو يهيج العداوة بين الإخوان"[2]، كما أنه من الضرورة بمكان أن يعظِّم صاحب الشخصية القوية نفسَه بالتغاضي عن الكثير من الأمور الصغيرة، وهناك حكمة جميلة تقول: "عظِّموا أنفسكم بالتغافُل"؛ من خلال عدم الإصرار على كل صغيرة مِن شأنها أن تُقلِّل من هيبة الإنسان أمام الآخرين.

كما أنه ليس مِن المنطق حين يكون الشخص مع الآخرين أن يُحاول - بشتَّى الطرق - معرفةَ كل شيء، فيَسأل عن كل شيء يتعلَّق بالآخرين، وربَّما كان الآخَرون لا يُحبون الإجابة، أو أن الإجابة تسبِّب لهم الإحراج، وربما تسبِّب لهم الضرر، فيكون ذلك سببًا في ضجَرهم من ذلك الشخص؛ فإن للآخرين خصوصياتهم وحياتهم؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ﴾ [المائدة: 101].

كما أنَّ هناك نقطةً في غاية الأهمية في هذا الباب، وهي قضية المزاح، نعم؛ ربما يحتاج الإنسان بحكم فطرته إلى شيءٍ من الترفيه الرُّوحي، ومِن ذلك المزاحُ مع الآخرين، وخصوصًا المقرَّبين من الأصدقاء، ولكن هناك خطوط حمراء مِن المفروض ألا يتجاوَزها الشخص في هذا الموضوع؛ فعن بكر بن عبدالله المزني قال: "كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمازَحون ويَتبادحون بالبِطِّيخ، فإذا كانت الحقائق كانوا الرِّجال"، وقد روى الترمذي في سننه حديثًا مرفوعًا لأبي هريرة رضي الله عنه قال: ((أَحبِبْ حبيبَك هونًا ما؛ عسى أن يكون بَغيضَك يومًا ما، وأَبغِض بغيضَكَ هونًا ما، عسى أن يكون حبيبك يومًا ما)).

وهذا يؤكِّد لنا ألا نَترُك حافَّات حادَّة في العلاقات مع الآخرين، ونُباشر العلاقات الإنسانية على أساس الحب والتعاون والمودة، وعلى نحوٍ متوازِن في كل الحالات؛ يقول الشاعر:
ومِن الرِّجال ذَوي المحبة ساهرٌ

يُلهيه مَدحُك عن لَذيذِ مَنامِه


لو ماتَ وانكشَفَ الثَّرى عن رَمسِه
لوجدتَ حبَّكَ في رَميمِ عِظامِه


أوليتَه الحسَنَ الجَميل فشُكرُه
لك واجبٌ كصلاتِهِ وصِيامِهِ



حتى يَكسب الإنسان الآخرين عليه أن يلتزم بعهدٍ مع نفسه أن يكون إيجابيًّا معهم، حتى مع أولئك الذين ربما يُسيئون أو تَغلب عليهم الصِّفات السلبية على الإيجابية، فيكفُّ الشخصُ لسانه عن غيبتِهم وعدم ذكرهم بسوء؛ لأنَّ ذلك مِن الصفات الذميمة عند عامة الناس.

وما يُلاحظ في هذا الوقت انشِغال الناس بشَكل مجاميع يقضون أوقاتًا طويلة في غيبة الآخَرين، ونتائج ذلك خطيرة في الدنيا فضلاً عن الآخرة.

لقد جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله، دُلَّني على عمل يُدخلني الجنة، قال: ((أمسِك عليك هذا))، وأشار إلى لسانه صلى الله عليه وسلم، فأعادها عليه فقال صلى الله عليه وسلم: ((ثكلَتْك أمُّك، هل يُكبُّ الناسَ على مناخرِهم في النار إلا حصائدُ ألسنتهم)) [3].

كما أن السماحة واللين في التعامل مع الآخرين مجلبة لمحبَّتهم؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((رحمَ الله رجلاً سمحًا إذا باع، وإذا اشتَرى، وإذا اقتَضى)) [4].

ويَذكُر عبدالله بن عمرو بن العاص قال: بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذْ ذكَر الفِتنة فقال: ((إذا رأيتُم الناس قد مرجَتْ عُهودهم، وخفَّت أماناتهم، وكانوا هكذا)) - وشبَّك بين أصابعه - قال: فقمتُ إليه فقلت: كيف أفعل عند ذلك جعلني الله فداك؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((الزم بيتَك، واملِكْ عليكَ لسانَك، وخُذْ بما تَعرِف، ودع ما تُنكِر، وعليك بأمر خاصَّة نفسك، ودع عنك أمر العامة))[5]، وهذا ما يَعني أن يتَجنَّب الإنسانُ التعامل مع الناس عند فسادهم وضياع الأخلاق بشَكْل عام إلا ما يَدعو فيه إلى فضيلة.

وفوق ذلك فإن مِن الخُطورة بمكانٍ أن يتحدَّث الشخص بالفضيلة والأخلاق، ويدعوَ إلى المعروف وإلى الخير وإلى كل الأمور الإيجابية، حتى يُصبح في مكانةٍ عالية، ويتسيَّد الناس، ولكنه لا يطبق في الحقيقة شيئًا مما يدعو الناس إليه، فكان أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ولا أقول لرجل أن كان عليَّ أميرًا: إنه خير الناس، بعد شيءٍ سمعتُه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: وما سمعتَه يقول؟ قال: سمعتُه يقول: ((يُجاء بالرجل يوم القيامة فيُلقى في النار، فتَندلِق أقتابُه في النار، فيدور كما يَدور الحمار برَحاه، فيجتمع أهل النار عليه، فيقولون: أي فلان، ما شأنك؟! أليس كنتَ تأمرُنا بالمعروف وتنهى عن المُنكَر؟! قال: كنتُ آمرُكم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه))[6]!

يقول أبو الأسود الدؤلي:
لا تنْهَ عن خلُقٍ وتأتيَ مِثلَه

عارٌ عليك إذا فعلتَ عَظيمُ


وابدَأْ بنفسِكَ فانْهَها عن غيِّها
فإذا انتهَتْ عنْهُ فأنْتَ حكيمُ


فهُناك يُقبَل ما وعظْتَ ويُقتَدى
بالرأي منكَ ويَنفَعُ التَّعليمُ



ومِن الأمور المهمَّة في هذا الباب أيضًا أن يُنقي الشخصُ قلبه تنقيةً من نوع خاص، مما عَلَّق فيه على الآخرين؛ سواء كان حسدًا أو غيظًا، أو انتقامًا أو غشًّا؛ بحيث لا يبقى في القلب شيءٌ من أمراض القلوب، ولنا في قصة الصحابي الذي قد نقَّى قلبه ولم يبقَ فيه شيء على مسلم عبرةٌ ودرس في هذا المجال؛ حيث أخبَر أنسُ بن مالك رضي الله عنه قال: كُنا جلوسًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يَطلع عليكم الآن رجلٌ مِن أهل الجنة، فطلع رجل من الأنصار تَنطف لحيته من وَضوئه قد تعلَّق نعليه في يده الشمال، فلما كان الغد قال النبي صلى الله عليه وسلم مثلَ ذلك، فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى، فلما كان اليوم الثالث قال النبي صلى الله عليه وسلم مثلَ مقالته أيضًا فطلع ذلك الرجل على مثلِ حاله الأولى، فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم تبعه عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه فقال: إني لاحَيتُ أبي، فأقسمتُ ألا أدخل عليه ثلاثًا، فإن رأيتَ أن تُؤويني إليك حتى تَمضي فعَلت، قال: نعم.

قال أنسٌ: وكان عبدالله يُحدِّث أنه بات معه تلك اللياليَ الثلاث فلم يرَه يقوم من الليل شيئًا، غير أنه إذا تعارَّ وتقلَّب على فراشه ذكَر الله عز وجل وكبَّر حتى يقوم لصلاة الفجر، قال عبدالله: غير أني لم أسمعه يَقول إلا خيرًا، فلما مضَت الثلاث ليال، وكدتُ أن أحتَقِر عملَه، قلتُ: يا عبدالله، إني لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجرٌ ثَمَّ، ولكن سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لك ثلاث مرار: ((يَطلع عليكم الآن رجل مِن أهل الجنة))، فطلعتَ أنت الثلاث مرار، فأردتُ أن آويَ إليك لأنظر ما عمَلُك فأقتديَ به، فلم أرك تعمَل كثيرَ عمل، فما الذي بلَغ بك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ما هو إلا ما رأيتَ، قال: فلمَّا ولَّيتُ دَعاني فقال: ما هو إلا ما رأيتَ، غيرَ أني لا أجدُ في نفسي لأحدٍ مِن المسلمين غِشًّا، ولا أَحسُد أحدًا على خير أعطاه الله إياه، فقال عبدالله: هذه التي بلغَتْ بك، وهي التي لا نُطيق[7].

يقول الشاعر:
إذا ما صحبْتَ المرءَ فاصحَبْ مُهذَّبًا

كريمَ السَّجايا للفَضائلِ مُنتَمِي


وعاشِرْ بخُلْقٍ ما استطعتَ مُحبَّبًا
وجانِبْ فدَتْكَ النفسُ كلَّ مُذمَّمِ


وراعِ لإخوانِ الصَّفاء حُقوقَهم
وإن أنتَ ضيَّعتَ الوفا خلِّ تندمِ


وفي مجال سلامة التعامل مع الآخرين لا بدَّ من ذِكرِ أن يكون للشخص وجهٌ واحد، وشخصية واحدة في حياته عامة، لا أن تَجِدَ له في بيته وجهًا، وفي عمَله تجده شخصًا آخر يختلف بالكلية، وفي الشارع تجد له وجهًا ثالثًا، ومع أصدقائه له وجهًا آخر... وهكذا، وهذه من أخطر الأمور التي تدمِّر شخصية الإنسان؛ لأنَّ مِن شأنها أن تجعله يعيش متكلِّفًا جدًّا، وفي صراعٍ دائم مع نفسه ومع الآخرين، ويكون هذا الشخص من شر الناس كما وصفَه النبي محمد صلى الله عليه وسلم بقوله: ((وتَجِدون شرَّ الناس ذا الوجهَين؛ الذي يأتي هؤلاء بوجه، ويأتي هؤلاء بوجه))[8].

ومِن المُهمِّ أن نَذكُر أن المنهج الإسلامي وضع قاعدةً مِن أهمِّ القواعد في العلاقة مع الآخرين؛ وهي أنه في حالة وجود حقوق للآخرين مع شخصٍ ما، فإنها لن تَسقط بالتقادم وحتى إن تمَّ إخفاؤها في الدنيا فستكشف في الآخرة؛ فعن عائشةَ رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الدواوين عند الله عزَّ وجلَّ ثلاثة؛ ديوان لا يعَبأ الله به شيئًا، وديوان لا يَترك الله منه شيئًا، وديوان لا يَغفره الله، فأما الديوان الذي لا يغفره الله فالشرك بالله؛ قال الله عز وجل: ﴿ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ ﴾ [المائدة: 72]، وأما الدِّيوان الذي لا يعبأ الله به شيئًا فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربه مِن صومِ يومٍ ترَكه أو صلاة تركها؛ فإنَّ الله عز وجل يغفر ذلك ويتجاوز إن شاء، وأما الديوان الذي لا يترك الله منه شيئًا فظلم العباد بعضهم بعضًا؛ القصاص لا محالة))[9].

وعلى العموم، ومِن أجل أن نحسن التعامل مع الآخرين، لا بد لنا من معرفة أنواع شخصيات الآخرين أولاً، وكيفية التعامل معها، وسنشرح ذلك في مقال قادم إن شاء الله.



[1]رواه البخاري (2457)، ومسلم (6951).

[2] سنن الدارمي (309).

[3] أخرجه البزَّار في مسنده.

[4]رواه البخاري (2076).

[5]سنن أبي داود (4345).

[6] البخاري (3267).

[7] رواه أحمد في مسنده (13034).

[8] صحيح البخاري (3494).

[9]رواه الإمام أحمد في مسنده (26784).