المخالطة والعزلة كلاهما تعتريه الأحكام التكليفية الخمسة، فكل منهما قد يجب، وقد يحرم، وقد يستحب، وقد يكره، وقد يباح، بحسب الأحوال، والأشخاص، والأزمان، والأماكن.
*****
وإنَّ النَّاظِرَ فِي أحوال الْعَالَمِ الْيَوْمَ، وَخَاصَّةً فِي بِلاَدِ الْمُسْلِمِينَ، عَلَى مُسْتَوَى أَفْرَادِهِمْ ومجتمعاتهم
يَجِدُ أَنَّهُمْ يَمُرُّونَ بِفِتَنٍ عَظِيمَةٍ، وَمِحَنٍ جَسِيمَةٍ، تَعَاظَمَ خَطَرُهَا، وَتَطَايَرَ شَرَرُهَا،
تَنَوَّعَتْ أَسْبَابُهَا وَاخْتَلَفَتْ مَوْضُوعَاتُهَا ؛
فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا، فِي الْعُقُولِ وَالأَنْفُسِ، فِي الأَعْرَاضِ وَالأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ والممتلكات
تَتَضَمَّنُ فِي طَيَّاتِهَا تَحْسِينَ الْقَبِيحِ، وَتَقْبِيحَ الْحَسَنِ،
وَلأَجْلِ هَذَا فَقَدْ جَاءَ الشَّارِعُ الْحَكِيمُ بِالتَّحْذِيرِ مِنْ غَوَائِلِ الْفِتَنِ وَشُرُورِهَا ومدلهماتها
وَقَدْ وَصَفَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ -رضي الله عنه- الْفِتَنَ بِقَوْلِهِ:
"تَبْدَأُ فِي مَدَارِجَ خَفِيَّةٍ،
وَتَؤُولُ إِلَى فَظَاعَةٍ جَلِيَّةٍ، فَتَزِيغُ قُلُوبٌ بَعْدَ اسْتِقَامَةٍ،
وَتَضِلُّ رِجَالٌ بَعْدَ سَلاَمَةٍ،
وَتَخْتَلِفُ الأَهْوَاءُ عِنْدَ هُجُومِهَا،
مَنْ أَشْرَفَ لَهَا قَصَمَتْهُ،
وَمَنْ سَارَ فِيهَا حَطَمَتْهُ"
"فَلاَ تَكُونُوا أَنْصَابَ الْفِتَنِ، وَأَعْلاَمَ الْبِدَعِ،
وَالْزَمُوا مَا عُقِدَ عَلَيْهِ حَبْلُ الْجَمَاعَةِ، وَبُنِيَتْ عَلَيْهِ أَرْكَانُ الطَّاعَةِ، [عبد الله الجار الله]
*****************
والعُزلة موجودة فى الرسالات،فالرسل والأنبياء والصالحين لما رأوا تكذيب قومهم لهم، واستمرارهم على كفرهم، وعدم الانقياد لطاعة ربهم،
اعتزلوهم ومايعبدون من دون الله عزوجل، فحَاق بقومهم ماكانوا به يستهزؤون، وحل بساحتهم العذاب الهُون.
قال تعالى:" فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيًّا"، (مريم:49)
ولقد جاء في خبر من قبلنا أنهم كانوا يفرون إلى الجبال ليخلصوا من الفتنة في دينهم،
وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوه ُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا
فيتعين على الإنسان الاعتزال وذلك عندما لا يكون هناك فائدة من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وليس من المستطاع الاحتفاظ بالمبادئ والقيم
ويكون في هذه الحالة من الأولى العزلة والفرار بالدين وحفظا للذات من الانسلاخ .
عن عبدالله بن عمرو بن العاص مَرفوعًا وموقوفًا في هذا الحديث، قيل: ومن الغرباء؟ قال: ((الفرَّارون بدينهم، يبعثهم الله تعالى مع عيسى ابن مريم))
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:المخالطة والعزلة كلاهما تعتريه الأحكام التكليفية الخمسة، فكل منهما قد يجب، وقد يحرم، وقد يستحب، وقد يكره، وقد يباح، بحسب الأحوال، والأشخاص، والأزمان، والأماكن.
" فأما الخلوة والعزلة والانفراد المشروع فهو ما كان مأمورا به أمر إيجاب أو استحباب. كاعتزال الأمور المحرمة ومجانبتها
كما قال تعالى: { وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره } ومنه قوله تعالى عن الخليل: { فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا }
وقوله عن أهل الكهف: { وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف } فإن أولئك لم يكونوا في مكان فيه جمعة ولا جماعة ولا من يأمر بشرع نبي فلهذا أووا إلى الكهف اهـ مجموع الفتاوى 10/404.
قال عز وجلّ:" إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا" (الكهف:10).
قال القرطبي: "هذه الآية صريحة في الفرار بالدين وهجرة الأهل والبنين والقرابات والأصدقاء والأوطان والأموال خوف الفتنة وما يلقاه الإنسان من المحنة وقد خرج النبي صلى الله عليه و سلم فارا بدينه وكذلك أصحاب..
قال العلماء الاعتزال عن الناس يكون مرة في الجبال والشعاب مرة في السواحل والرباط ومرة في البيوت وقد جاء في الخبر: "إذا كانت الفتنة فأخف مكانك وكف لسانك " ولم يخص موضعا من موضع وقد جعلت طائفة من العلماء العزلة اعتزل الشر وأهله بقلبك وعملك وإن كنت بين أظهرهم وقال ابن المبارك في تفسير العزلة : أن تكون مع القوم فإذا خاضوا في ذكر الله فخض معهم وإن خاضوا في غير ذلك فاسكت.اه
وقال شيخ الاسلام
" فحقيقة الأمر : أن " الخلطة " تارة تكون واجبة أو مستحبة والشخص الواحد قد يكون مأمورا بالمخالطة تارة وبالانفراد تارة . وجماع ذلك : أن " المخالطة " إن كان فيها تعاون على البر والتقوى فهي مأمور بها وإن كان فيها تعاون على الإثم والعدوان فهي منهي عنها فالاختلاط بالمسلمين في جنس العبادات: كالصلوات الخمس والجمعة والعيدين وصلاة الكسوف والاستسقاء ونحو ذلك هو مما أمر الله به ورسوله . وكذلك الاختلاط بهم في الحج وفي غزو الكفار والخوارج المارقين وإن كان أئمة ذلك فجارا وإن كان في تلك الجماعات فجار وكذلك الاجتماع الذي يزداد العبد به إيمانا: إما لانتفاعه به وإما لنفعه له ونحو ذلك. ولا بد للعبد من أوقات ينفرد بها بنفسه في دعائه وذكره وصلاته وتفكره ومحاسبة نفسه وإصلاح قلبه وما يختص به من الأمور التي لا يشركه فيها غيره فهذه يحتاج فيها إلى انفراده بنفسه؛ إما في بيته، كما قال طاوس: نعم صومعة الرجل بيته يكف فيها بصره ولسانه ، وإما في غير بيته. فاختيار المخالطة مطلقا خطأ واختيار الانفراد مطلقا خطأ. وأما مقدار ما يحتاج إليه كل إنسان من هذا وهذا وما هو الأصلح له في كل حال فهذا يحتاج إلى نظر خاص
**************
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في شرحه لحديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه و سلم قال :" يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتتبع بها شعف الجبال مواقع القطر يفر بدينه من الفتن "
"واعلم أن الأفضل هو المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم هذا أفضل من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم، ولكن أحيانا تحصل أمور تكون العزلة فيها خيرا من الاختلاط بالناس، من ذلك إذا خاف الإنسان على نفسه فتنة مثل أن يكون في بلد يطالب فيها بأن ينحرف عن دينه أو يدعو إلى بدعة أو يرى الفسوق الكثير فيها، أو يخشى على نفسه من الفواحش، فهنا تكون العزلة خيرا له .ولهذا أمر الإنسان أن يهاجر من بلد الشرك إلى بلد الإسلام، ومن بلد الفسوق إلى بلد الاستقامة
فكذلك إذا تغير الناس والزمان،
ولهذا صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: يوشك أن يكون خير مال الرجل غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن فهذا هو التقسيم تكون العزلة هي الخير إن كان في الاختلاط شر وفتنة في الدين،
وإلا فالأفضل أن الاختلاط هو الخير، يختلط الإنسان مع الناس فيأمر بالمعروف وينهى عن المنكر يدعو إلى حق، يبين السنة للناس فهذا خير
لكن إذا عجز عن الصبر وكثرت الفتن، فالعزلة خير ولو أن يعبد الله على رأس جبل أو في قعر واد
**************
ويتأكد اعتزال الناس حينما تظهر الفتن برؤوسها ، قال صلى الله عليه وسلم : إن بين أيديكم فتنا كقطع الليل المظلم ، يصبح الرجل فيها مؤمنا ويمسي كافرا ، القاعد فيها خير من القائم ، والقائم فيها خير من الماشي ، والماشي فيها خير من الساعي . قالوا : فما تأمرنا ؟ قال : كونوا أحلاس بيوتكم