شعراء يترفعون عن الهجاء


د. وليد قصاب








كما ترفَّعت طائفة من الشعراء عن المديح، ولا سيما مديح التكسُّب، وعدَّته - بالمعيار الخلقي - لونًا من ألوان المتاجَرة بالكلمة، يُزري بمروءة الشاعر، ويسفَحُ ماء كرامته، ويحمِله على الكذب والنفاق - نفَرت طائفة أخرى من الهجاء، وعدَّته غرَضًا غير نبيل؛ إذ هو - عندما لا يكون لردعِ ظالم، أو فضحِ طاغية فاسق - ضربٌ من السبِّ، ولون من ألوان القذف والشتم.


وإنَّ أغلب الشعراء الذين أنِفوا من المديح - وقد تحدَّثنا عنهم في مقال سابق - أنِفوا من الهجاء كذلك؛ كنصيب، وعمر بن أبي ربيعة، والحارث بن خالد، وذي الرُّمة، وغيرهم، كالنمر بن التولب.


"روى أبو عبيدة أنه كان شاعر الرباب في الجاهلية، ولم يمدَحْ أحدًا ولا هجا...".
ومرَّ معنا أن نصيبًا لم يترفع عن المبادأة بالهجاء فحسب، بل ترفَّع كذلك عن الرد على مَن هجاه، وسما بشِعره أن يطرحه في غرَض دنيء، قال لِمن سأله أن يجيب: "لو كنتُ هاجيًا لأحد لأجبتُه، ولكن الله أوصلني بهذا الشِّعر إلى خير، فجعلتُ على نفسي ألا أقولَه في شرٍّ...".


وقالوا له مرة: "إن الناس يزعمون أنك لا تُحسن أن تهجو، فضحك ثم قال: أفتراهم يقولون: إني لا أحسن أن أمدح؟ فقيل: لا، فقال: أفما تراني أُحسن أن أجعَل مكان: عافاك الله، أخزاك الله؟ إني رأيت الناس رجُلينِ: إما رجل لم أسأله شيئًا فلا ينبغي أن أهجوَه فأظلِمَه، وإما رجل سألتُه فمنعني، فنفسي كانت أحقَّ بالهجاء إذ سوَّلَتْ لي أن أسألَه، وأن أطلبَ ما لديه..".


وإذ لم يبدُ الهجاء مجردَ قلب لصفات المديح، ووَضْع (أخزاك الله) في مكان (عافاك الله)، بل هو غرض متميِّز تسُوق إليه عواطفُ وأحاسيسُ مختلفةٌ عن عواطف المديح، فإن نصيبًا كان على صواب وهو يعُدُّه ظلمًا إذا طال الآخَرين بلا وجهِ حق؛ كأن يمنع الشاعر من عطاء أحدٍ - كما كان حال بعض الشعراء - فيهجو مانعَه، بل إن نصيبًا يمضي في التعليل الخُلقي إلى أبعدَ من ذلك، فيرى مَن يضع نفسَه في موضع السؤال، ويعرِّضها للذلِّ والمهانة، أحقَّ بالهجاء.


وصرَّح عبدةُ بن الطبيب - الشاعر المخضرم - أن الهجاءَ ضَعةٌ، وأنه لا يليق بالمروءةِ ولا بالشرف، وهو لا يتركه عجزًا، ولكن يتركه ترفُّعًا وخُلقًا، قال رجل لخالد بن صفوان: كان عبدةُ بن الطبيب لا يُحسن أن يهجوَ، فقال: لا تقُلْ ذاك، فوالله ما أبى عن عِيٍّ، ولكنه كان يترفَّعُ عن الهجاء، ويراه ضَعةً، كما يرى تركه مروءةً وشرَفًا، قال:

وأجرأُ مَن رأيتُ بظهرِ غيبٍ
على عيبِ الرِّجال أولو العيوبِ



كما عبَّر عن هذا المنزع الخُلقي في النفرة من الهجاء العجَّاجُ، وعدَّه - مثل نصيبٍ وعبدةَ - لونًا من الظُّلم، وإن أخلاقَ الراشد الحليم لَتحجزُه عن ظلم الآخرين، مثلما يحجزه الحِفاظ على أحسابه عن تعريضها للذمِّ والانتقاص.


قال سليمان بن عبدالملك مرة للعجَّاج: "إنك لا تُحسن الهجاء"، فقال: "إن لنا أحلامًا تمنَعُنا من أن نَظلِم، وأحسابًا تمنَعُنا من أن نُظلَم، وهل رأيتَ بانيًا لا يُحسن أن يهدِمَ؟".


كما نحا هذا المنحى الخُلقيَّ الشاعرُ الجاهلي صخرُ بن عمرو بن الشريد، أخو الخنساء، فأظهَر نُفرةً من الهجاء، حتى إنه رفض أن يهجو هاشمًا ودُريدًا ابني حرملةَ المرِّيين من غطَفان، وهما اللذان قتَلا أخاه معاويةَ، وآثَرَ أن يصون لسانه عن الفُحش، وأن يسموَ بشِعره عن المهاترة والسِّباب، قال قائل لصخرٍ: "اهجُهم، فقال: ما بيني وبينهم أقذعُ من الهجاء، ولو لم أُمسِك عن هجائهم إلا صونًا للساني عن الخَنا لفعلتُ، ثم خاف أن يُظَنَّ به عِيٌّ، فقال:
وعاذلةٍ هبَّت بليلٍ تلومُني
ألا لا تلُوميني، كفى اللوم ما بيا


تقول: ألا تهجو فوارسَ هاشم
وما ليَ إذ أهجوهمُ ثم ما ليا


أبى الشتم أنِّي قد أصابوا كريمتي
وأنْ ليس إهداءُ الخَنا من شِماليا


إذا ما امرؤٌ أهدى لمَيْتٍ تحيةً
فحيَّاك ربُّ العرشِ عنِّي معاويا


وهوَّن وَجْدي أنني لم أقُلْ له:
كذبتَ، ولم أبخَلْ عليه بماليا



وأورد ابن رشيق في العمدة أسماءَ طائفةٍ من الشعراء الذين رغبوا - أنَفةً - عن هجاء غير الأَكْفاء.


رغب الزبرقان بن بدر عن هجاء الحُطيئة، واستعدى عليه عمرَ بن الخطاب، ورغِب سحيم بن وثيل عن الردِّ على الأحوص والأبيرد، ورغِب الفرزدقُ عن ملاحاة الطِّرِمَّاح، وجَرير عن بشَّار، وبشار عن حماد، وأبو تمام عن مخلَد بن بكَّار، والمتنبي عن ابن حجَّاج، وابن هانئ عن شعراء إفريقية.


كما أورد ابنُ رشيق أسماءَ طائفة ممن رغبوا عن الهجاء كله، وأثنى عليهم، فقال: "ومنهم من لا يهجو كفؤًا ولا غيره؛ لِما في الهجو من سوء الأثَر، وقُبح السمعة، كالذي يُحكى عن العجَّاج أنه قيل له: لِمَ لا تهجو؟ فقال: ولمَ أهجو؟ إن لنا أحسابًا تمنَعُنا من أن نَظلِم، وأحلامًا تمنعنا من أن نُظلَم.


وسئل نصيب عن مثل ذلك فقال: إنما الناس أحدُ ثلاثة: رجل لم أعرِضْ لسؤاله فما وجه ذمِّه؟ ورجل سألته فأعطاني، فالمدحُ أَولى به من الهجاء، ورجل سألتُه فحرَمني، فأنا بالهجاء أَولى منه"، وعقَّب ابن رشيق على هذا الكلام مستحسنًا، فقال: "وهذا كلامُ عاقلٍ منصِف، لو أخَذ به الشعراءُ أنفسَهم لاستراحوا واستراح الناس..".


ثم ذكَر أن ممن ترفَّع عن الهجاء في زمانه أبا محمَّد عبدالكريم بن إبراهيم، قال ابن رشيق عنه: "لم يَهْجُ أحدًا قط، ومِن أناشيده في كتابه المشهور، لغيره من الشعراء:
ولستُ بهاجٍ في القرى أهلَ منزل
على زادهم أبكي وأُبكي البواكيا


فإمَّا كرام مُوسِرون أتيتُهم
فحَسبيَ مَن ذو عندهم ما كفانيا


وإما كرام مُعسِرون عذرتُهم
وإما لئامٌ فادَّخرتُ حيائيا



وهذا مثل كلام نصيب المنثور الذي تقدَّم..".


وهكذا نفَرت طائفةٌ من الشعراء العرب في الجاهلية والإسلام من غرَض الهجاء، وحاكمَتْه إلى المعايير الدِّينية الخلقية، فرأَتْ في هجاء البرآء، ومَن لا وجهَ لذمِّهم، ضربًا من السَّفهِ، ولونًا من الظلم والافتراء على الخَلْق، وطرحًا للكلمة في مواطن الخَنا، وفتحًا لباب من أبواب المهاترة والشرِّ، يسمو الشاعر النبيل عن الخوض فيه، ويربأ بالكلمة أن يحدُرَها في هذا الدركِ.