الشيخ عبد الحميد بن باديس - رحمه الله تعالى -وخبر الواحد الصحيح إذا تعارض مع القطعي
أولا / أقوال بن باديس -رحمه الله-:
1.
قال صفحة (54) :"السنة النبوية والقرآن لا يتعارضان: ولهذا يرد خبر الواحدإذا خالف القطعي منالقرآن".اهـ من (مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير).
2.
قال صفحة (142-143) :"المجتهد إذا أفتى مستندا إلى ما يفيدالظن من أخبار الآحاد أو الأقيسة أو النصوص الأخرى الظنية الدلالة، هل هو متبع لغير العلم؟ الجواب: لا، بل هو متبع للعلم، وذلك من وجوه:
الوجه الأول: أن كل دليل يكون ظنيابمفرده-يصير يقينا إذا عرض على كليات الشرع ومقاصده وشهدت له بالصواب. وهذا هو شان المجتهدين في الأدلة الفردية.
الوجه الثاني: أن المجتهد يعتمد في الأخذ بالأدلة الظنية لما له من العلم بالأدلة الشرعية الدالة على اعتبارها.
الوجه الثالث: أن تلك الأدلة بمفردهاتفيد الظن القوي الذي يكون جزما ويسمى-كما تقدم علما، فما اتبع المجتهد إلا العلم ".اهـ من (مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير).
3.
قال صفحة (161) : "والعمومات إذا تكاثرت أفادت القطع، ولهذا جعلنا هذا الطريق من الاستدلال بالحديث الذي هو خبر آحاد وخبر الآحاد من حيث ذاتهيفيد الظنوإن كان صحيحا. وحيث تواردت تلك العمومات وثبت هذا الحديث فقد بلغ الدليل بنصه وقطعيته غاية القوة والبيان".اهـ من (مجالس التذكير من حديث البشير النذير).
4.
صفحة (373) : "لما كان العرب بم يأتهم نذير قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنص الىية وغيرها فهم في فترتهم ناجون لقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً } و {أَن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ }.وغيرهما، وكلها آيات قواطع في نجاة أهلالفترة ولا يستثنى من ذلك إلا من جاء فيهم نص ثابت خاص كعمر بن لحي أول من سيب السوائب وبدل في شريعة إبراهيم وغير وحلل للعرب وحرم. فأبوا النبي صلى الله عليه وسلم ناجيان بعمومهذه الأدلة ولا يعارض تلك القواطع حديثمسلم عن أنس رضي الله عنه [أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم يا رسول الله اين أبي؟ قال: في النار، فلما قفا الرجل دعاه فقال: إن إبي واباك في النار] لأنه خبر آحاد، فلا يعارضالقواطع وهو قابل للتأويل بحمل الأب على العم مجــازا يحسنه المشاكلةاللفظية ومناسبته لجبر خاطر الرجل وذلك من رحمته صلى الله عليه وسلم وكريمأخلاقه".اهـ من (مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير).
ثانيا/ ملخص أَقوال "بن باديس" السابقة:
- يرد خبر الواحدإذا خالف القطعي منالقرآن.
- خبر الآحاد من حيث ذاته يفيد الظنوإن كان صحيحا.
- الأدلة بمفردهاتفيد الظن القوي.
- خبر الآحاد لا يعارضالقواطع ويحمل على التأويل بحمله على المجــاز إن قبل ذلك.
ثالثا/ خلاصة مذهب بن باديس –رحمه الله- في المسألة:
خبر الواحد وإن أفاد الظن القوي وكان صحيحا فلا يعارض القطعي من القرآن، ولذا يرد عند وجود التعارض أو يحمل على التأويل مجازا إن قبل التأويل.
رابعا/ مناقشة هذا القول من وجوه:
ـ الأول/ بن باديس جنح إلى القول برد حديث الآحاد إذا تعارض مع القطعي من القرآن -وإن كان صحيحا-، أو حمله على التأويل مجازا؛ بناء على إفادته الظن القوي لا اليقين عنده. ومعلوم أن " خبر الواحد العدل الذي تتلقاه الأمة بالقبولتصديقًا وعملا به -وأكثر أحاديثالبخاري ومسلم من هذا الباب- فهذايفيد العلم اليقيني عند جماهير الأمة من الأولين والآخرين، فهذا محصل للعلممفيد لليقين، أما السلف فلم يكن بينهم نزاع بل هم متفقون، وأما الخلف فهومذهب الفقهاء الكبار من أصحاب الأئمة الأربعة، والأئمة الأربعة وهذا القسممن الأخبار يوجب العلم عند جمهور العقلاء. وإلى هذا القول ذهبشيخ الإسلامابن تيميةوقرره ونصرهابنالقيموالحافظابن الصلاحوالحافظابن كثيروالحافظابن حجروالحافظالعراقيوهو قولابن حزمواختيارأحمد شاكروهو الصواب. [من كلام العلامة عبد العزيز بن عبد الله الراجحي بتصرف يسير]
ـ الثاني/ الخبر الصحيح لا تناقضه أو تعارضه الأدلة القطعية، فإذا جاء خبر آحاد صحيح كما في مسلم من حديث حماد عن ثابت عن أنس عندما جاء أعرابي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال : أين أبي ؟ فقال : أباك في النار . فعندما أدبر وقد أخذبنفسه ناداه ، وقال له عليه الصلاة والسلام : إن أبي وأباك في النار. الحديث.فهل يسوغ لقائل أن يقول هذا الخبر الصحيح مردود أو يحمل على التأويل مجازا لأنه يعارض قوله تعالى {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا }.الآية؟. وهذا الخبر صحيح في غاية الصحة وهو من أحاديث صحيح مسلم، وأفاد حكما ، فلذا لا يسوغ نصب التعارض مع إمكان الجمع ، فكيف بمن يرد الحديث لمجرد أنه آحاد (ظني) ؟ أو يسلك مسالك أهل الابتداع بتأويله وحمله على المجاز؟ [ينظر "أضواء البيان" للعلامة محمد الأمين الشنقيطي-رحمه الله تعالى-]
ـ ثالثا/ حديث أنس لا يحتاج إلى تأويل، لأن التأويل يصار إليه إذا تعذر حمل الكلام على الحقيقة، ولا تعذّر هنا، فهو يدل على عدم نجاة من بلغته الدعوة من أهل الفترة فلم يؤمن، وكون الرسول –صلى الله عليه وسلم-يخبر بنفسه أنَّ أباه وأبا الرجل في النار دليل كاف لمعرفة أنهما بلغتهما الدعوة فلم يؤمنا.
وعلى احتمال أنَّ أباه –صلى الله عليه وسلم-ممن لم تبلغهم الدعوة من أهل الفترة، فمآله الامتحان كما في حديث الأسود بن سريع، وإخباره صلى الله عليه وسلم عنه أنه في النار دليل أنه ممن لا يجيب، فلا تعارض ولا منافاة إن شاء الله. [ينظر تعليق الشيخ محمود الجزائري على تفسير ابن باديس]
أخيرا أخي الكريم :
ما قررته في التنبيه على مسألة خبر الواحد من أن الشيخ بن باديس –رحمه الله-وافق بقوله ذاك بعض أهل البدع لا إشكال فيه ، وإن قال بذلك بعض أهل السنة –في الجملة-، ولعلك تفهمه –بارك الله فيك- من قولي " ..وغيرهم".
وبما أنني لم أخرج عما قرره أهل العلم من السلف -في ذاك القول-، وأقره وقرره بعض أهل السنة من المعاصرين كالشيخ الفاضل سليمان الخراشي والشيخ محمد علي فركوس (الفتوى رقم: 754، الصنف: فتاوى أصول الفقه والقواعد الفقهية) والشيخ محمود الجزائري (تعليقات على تفسير بن باديس طبعة الرشيد بالجزائر) والشيخ علي الحلبي كما في عليقهضمن كتاب(الدررالغالية في آداب الدعوة و الداعية: ص56)، وغيرهم..
فهذا ما أعتقده وأدين الله به؛ أنَّ الشيخ بن باديس-رحمه الله-أخطأ وغلط في هذه المسألة.
فإن ظهر لك أن هذا هو الصواب –فالحمد لله-وإلاَّ فلننتقل إلى المسائل الأخرى من باب الإفادة والاستفادة ، ولنتذكر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى-كما في (اقتضاء الصراط المستقيم): " أهل التوحيد...وإن حصل بينهم تنازع في شيء مما يسوغ فيه الاجتهاد لم يوجب ذلك لهم تفرقاً ولا اختلافاً بل هم يعلمون أن المصيب منهم له أجران وأن المجتهد المخطئ له أجر على اجتهاده، وخطؤه مغفور له".اهـ
ومع إعجابي بكلامك الأخير ، أنقل لأخي الودود من باب الإحسان كلمة للعلامة ابن الوزير-رحمه الله تعالى- وجدتها أثناء القراءة في أحد الكتب، أختم بها ، وأسأل الله تعالى أن يوفقني-وإياك- للعمل بما تضمنته من حق، قال العلامة ابن الوزير-رحمه الله- كما في (العواصم من القواصم): " وَالقَاصِدُ لِوَجْهِ اللهِ لَا يَخَافُ أَنْ يُنْقَدَعَلَيْهِ خَلَلٌ فِي كَلَامِهِ ، وَلَا يَهابُ أَنْ يُدَلَّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِهِ ، بَل يُحِبُّ الحَقَّ مِنْ حَيْثُ أَتَاهُ ، وَيَقْبَلُ الهُدَى مِمَّن أَهْدَاهُ، بَلْ المُخَاشَنَةُ بِالحَقِّ وَ النَّصِيحَةِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ المُدَاهنَةِ عَلَى الأَقْوَالِ القَبِيحَةِ ، وصَدِيقُكَ مَنْ أَصْدَقَكَ لا َمَنْ صَدّقَك ، وَ في نَوَابِغِ الكَلِمْ و َبدَائِعِ الحِكَم: (عليك بمَن يُنذِر الإبْسَالَ والِإبْلاَسَ وإيّاك ومَن يَقولُ:لَا بَاسْ ولَا تَاسْ)".اهـ بالواسطة.
فجزاك الله خيرا أيها الأخ "الباتني" على سعة صدرك ، وعلوّ أخلاقك وأدبك، وإفادتك. وإن رأيت الانتقال للنقطة الثانية فلا مانع، وحبذا تحديد نقطة النقاش حتى لا يخرج بنا الموضوع إلى مسائل فرعية أو مسائل خارجة عن محل النزاع.
والله ولي التوفيق.