مناجاة أم
الزهرة هراوة
صغيري...
أي حياة تنتظرك؟
وما الذي تنتظره منك الحياة؟
صغيري...
أأكون أنانية إن أحطتك بسياج مكهرب وسور عالٍ لا يمكن لأي كان أن يتخطاه، فلا يعكر صفو حياتك مخلوق؟
أأمنع عنك كل ما يفسد بهجتك، ويحيلها إلى بؤس وشقاء؟
أأقرِّب إليك كل لذائذ الدنيا حتى التخمة؟
أأجعل منك ذلك الولد الذي لا يعرف غير السعادة والبحث عنها، ويظن أنه لا يجدها إلا في اللهو والعبث، وأن كل ما يكدر عيشك عليَّ أن أخفيه عنك؟
أن أخفي عنك الأحداث التي تدور حولك، فلا تعي ما يحدث، بل تصبح لا يهمك ذلك؟
أأجعلك تعيش لأجل نفسك - ونفسك فقط - فلا يهمك الآخرون، وما يحدث لهم طالما أنت سليم معافًى؟
أأكون بذلك الأم المثالية؟!
أم علي يا صغيري أن أضحي بك لأجل الحياة، أن أقدمك قربانًا لها؟
أن أبث في رُوعك كل يوم أنك خُلقت لأجل شيء عظيم، هو إعادة الحياة لهذه الحياة؟
إنني كلما تذكرت أمي أتردد.
ضحَّت بإخوتي للحياة، فما كان إلا الموت خيَّم علينا، وجثم على صدورنا طيلة عقود، ولا يزال.
كأني به يمر بنا هازئًا كل ليلة، وهو يرانا ويرى عبث محاولاتنا.
هو لم يسأم، رغم أن السأم بدأ يتسلل إلينا.
كلما زرعنا الحياة أسرع لاجتثاثها.
كلما أضأنا مصابيحَ الحرية أطفأها.
وكلما وُلدت لنا أقلام حرة، أسرَع لوَأْدِها.
صار الموت هو الذي يحكم.
يتحكم في مصائرنا.
إني أتخيَّله يكاد يقع على قفاه من الضحك علينا.
وكأنه يقول:
ازرعوا ما شئتم اليوم، فلن يرى النورَ زرعُكم.
قدموا ما شئتم للحياة، فلن ترَوْها أبدًا.
إني أتمثله يهمس في أذني كل ليلة: اتركي صغيرك يتلذذ بما يعتقد أنه حياة، اتركيه يلهو بين خرائب الموت، ودياجير الظلام، وإن رفضتِ فلن تحصدي إلا ما حصدَتْه أمُّك.
أمَا رأيتِها قد قدمت أبناءها الواحد تلو الآخر لأجل أن تشرُقَ الشمس فهل شرَقَتْ؟!
خفافيش الظلام كُثر، وكل يوم يزداد عددهم.
وتزداد قوتهم.
ولن يسمحوا للشمس أن تشرُقَ.
ولن يسمحوا للحياة أن تدِبَّ من جديد.
إنك ترهقين نفسك، وترهقين ابنك.
ألا تتعظين من أمك؟
أين إخوتُك؟ أين أهدافهم وطموحاتهم؟
كلها ذهبت أدراجَ الرياح.
كأن أيًّا منهم لم يكن.
لا تكابري! وامنَحي ابنَك جرعةَ يأس من الحياة.
اتركيه يغرِّد كما يغرِّد جيله، يعيش كما يعيش أترابُه.
يحلُمُ أحلام الحُمْلان.
ويعيش حياة النَّعام.
لا تحكي له عن الأُسود؛ فقد كُبِّلت كلها.
قُيِّدت وأدخلت الأقفاص، ولن تخرج منه إلا ذليلةً يسُوسُها أضعف الخَلْق.
ألتفتُ إلى ما يقول.
أخشى أن النور وهمٌ موجود فقط في مخيلتي.
أن أمي مَن اختلقَتْه وجعلتنا نصدِّقها، ونبذل المُهَجَ والأرواح لأجل ما توهمناه حقيقةً.
وأن الأصل هو الظلام، والخفافيش هي التي يجب أن تتحكم فينا، وأن ننصاع لأوامرها، وما نتطلع له إنما هو مجرد ريبٍ وشك توسوس به لنا أنفسُنا الأمَّارة.
أكاد أنثني عما نذَرْتُ نفسي له.
فألوذ بالصمت.
وأعاهد نفسي ألا أتكلم، ألا أنبِسَ ببنتِ شَفَة.
أعاهد نفسي ألا أكون مثل أمي.
التي ضحَّت وضحَّت، وما رأَتْ إلا طيور المنايا تنعِقُ فوق الجُثث.
التي بكت حتى ابيضَّتْ عيناها، وذهب نورُهما، ثم ما فتِئَتْ أن لحقت بهم.
بل أن أكون أكثر.
فقد تعلمت الدرس جيدًا.
أن أكون تلك المرأة التي تحمل صغيرَها بيُمْناها، وسلاحَها بيُسْراها.
وتقول: هلُمَّ أيها الموت! لست أخشاك، ولن يخافَك ابني بعد اليوم.
أنت جبانٌ رِعْديد، تخشى نور الحق وسطوعه.
ترتعد فرائصك كلما ذُكرت أمامك شمسُ الأحرار.
إن كنت تتبجَّح بالخفافيش وكثرة عددها، فاعلَمْ أن هنالك صقورًا سيقضُون عليها.
وإن كنت تسخَرُ مِن الأسود المقيَّدة، فتأكَّد أن الأسود ستظل أسودًا، حتى وإن كانت في غياهب السجون، ولن تُنجِبَ إلا الأسود.
وستنقشع السُّحب الرمادية التي كتمت على أنفاسنا، وتظهر في الأفق شمس الحرية..
فإن كانت دولةُ الظلم ساعة، فدولةُ الحق إلى أن تقومَ الساعة.