خلافة سليمان بن عبد الملك
موقع قصة الإسلام

من أفضل خلفاء بني أمية سليمان بن عبد الملك يُعدُّ سليمان بن عبد الملك من أفضل خلفاء بني أمية، فلقد حرص والده على تربيته تربية عالية، وتعليمه أصول الحكم، كما كانت أخلاقه مضربًا للأمثال، ولذلك كانت بطانته من العلماء والحكماء والصالحين، أمثال رجاء بن حيوة وعمر بن عبد العزيز وغيرهما.
فهو سليمان بن عبد الملك بن مروان بن الحكم، أبو أيوب.
وأمه: ولادة بنت العباس، فهو شقيق الوليد، وقد وُلِدَ سليمان بالمدينة إلا أنه نشأ بالشام.
بويع بالخلافة في اليوم الذي مات فيه أخوه الوليد منتصف جمادى الآخرة سنة 96هـ.
تربيته وأخلاقه
كان عبد الملك بن مروان، يعتني بأبنائه عناية فائقة، كما كان حريصًا على تربيتهم تربية إسلامية عربية، وعلى الرغم من مشاغله، إلا أنه كان حريصًا على تعهد أبنائه بين الحين والآخر، فقد روى أبو بكر الصولي: أن عبد الملك جمع بنيه: الوليد وسليمان ومسلمة بين يديه فاستقرأهم القرآن فأجادوا القراءة، ثم استنشدهم الشعر فأجادوا، غير أنهم لم يكملوا أو يحكموا شعر الأعشى، فلامهم على ذلك، ثم قال: لينشدني كل رجل منكم أرقَّ بيت قالته العرب ولا يفحش، هات يا وليد، فقال الوليد:
ما مركب وركوب الخيل يعجبني *** كمركب بين دملوج وخلخال
فقال عبد الملك: وهل يكون من الشعر أرق من هذا؟ هات يا سليمان فقال:
حبـذا رجعـها يديهـا إليهـا *** في يـدي درعها تحـلُّ الإزارا
فقال: لم تصب، هات يا مسلمة، فأنشده قول امرئ القيس:
وما ذرفت عينـاك إلا لتضربني *** بسهميك في أعشـار قلب مُقتَّل
فقال: كذب امرؤ قيس ولم يُصِبْ، إذا ذرفت عيناها بالوجد فما بقي إلا اللقاء، وإنما ينبغي للعاشق أن يغتضي منها الجفاء ويكسوها المودة، ثم قال: أنا مؤجلكم في هذا البيت ثلاثة أيام فمن أتى به فله حكمه، أي مهما طلب أعطيته، فنهضوا من عنده، فبينما سليمان في موكب إذا هو بأعرابي يسوق إبله وهو يقول:
لو ضربوا بالسيف رأسي في مودتها *** لمال يهوي سريعًا نحوها رأسي
فأمر سليمان بالأعرابي فاعتقل، ثم جاء إلى أبيه فقال: قد جئتك بما سألت: فقال: هات، فأنشده البيت فقال: أحسنت، وأني لك هذا، فأخبره خبر الأعرابي فقال: سل حاجتك ولا تنس صاحبك. فقال: يا أمير المؤمنين، إنك عهدت للأمر من بعدك للوليد وإني أحب أن أكون ولي العهد من بعده؛ فأجابه إلى ذلك وبعثه على الحج في سنة إحدى وثمانين، وأطلق له مائة ألف درهم فأعطاها سليمان لذلك الأعرابي الذي قال ذلك البيت من الشعر، فلما مات الوليد بن عبد الملك بايع سليمان أخاه بالخلافة، وكان سليمان أثناء خلافة أخيه الوليد بمنزلة الوزير والمشير بين يديه.
خلافته
كان سليمان بن عبد الملك ورعًا تقيًّا، ويتضح ذلك من خطبه، فلا تكاد تخلو خطبة من خطبه من حثِّ الناس على التقوى والخوف من الله ومدارسة القرآن، وتتضح هذه السيرة الطيبة من هذه الخطبة؛ فعن جابر بن عون الأسدي قال: أوّل ما تكلم به سليمان حين ولي الخلافة أن قال: "الحمد لله الذي ما شاء صنع، وما شاء رفع، وما شاء وضع، ومن شاء أعطى، ومن شاء منع، إن الدنيا دار غرور.
يا عباد الله اتخذوا كتاب الله إمامًا، وارضوا به حكمًا واجعلوه لكم قائدًا، فإنه ناسخ لما قبله، ولن ينسخه كتاب بعده...".
كما اتخذ سليمان بن عبد الملك بطانة من صلحاء الرجال أمثال عمر بن عبد العزيز ورجاء بن حيوة وغيرهما، وقد أثر ذلك في سليمان بن عبد الملك تأثيرًا كبيرًا فقد كان عمر بن عبد العزيز دائم التذكير بمسئوليته نحو رعيته فيروي أن سليمان بن عبد الملك حج بالناس سنة 97هـ وهو خليفة فلما رأى الناس بالموسم قال لعمر بن عبد العزيز: ألا ترى هذا الخلق الذي لا يحصِي عددهم إلا الله، ولا يسع رزقهم غيره، فقال: يا أمير المؤمنين هؤلاء رعيتك اليوم، وهم غدًا خصماؤك عند الله، فبكى سليمان بكاءً شديدًا ثم قال: بالله أستعين.
وكان عمر بن عبد العزيز ذات يوم في سفر مصاحبًا سليمان بن عبد الملك، فأصابهم السماء برعد وبرق وظلمة وريح شديدة حتى فزعوا لذلك، وجعل عمر بن عبد العزيز يضحك، فقال له سليمان، ما أضحكك يا عمر؟ أما ترى ما نحن فيه؟ فقال له: يا أمير المؤمنين هذه آثار رحمته فيها شدائد ما ترى، فكيف بآثار سخطه وغضبه؟!
وكان محمد بن سيرين يترحم على سليمان بن عبد الملك، ويقول: افتتح خلافته بخير وختمها بخير، افتتحها بإجابة الصلاة لمواقيتها، وختمها باستخلافه عمر بن عبد العزيز.
شبهات وردود حول سليمان بن عبد الملك
لقد ثارت بعض الشبهات حول سليمان عبد الملك منها عزل ولاة الحجاج بن يوسف والتنكيل بهم، انتقامًا منهم ومن الحجاج لا لشيء إلا لأن الحجاج كان قد أيد أخاه الخليفة الوليد بن عبد الملك عندما أراد أن يعزله من ولاية العهد، وأن يولي ابنه عبد العزيز.
وهذه نظرة سطحية للأمور وبعيدة عن الواقع تمامًا، فالأمر لم يكن أمر عواطف أو انتقام شخصي، وإنما هي سياسة عامة للدولة رسمها سليمان بالتعاون والتشاور مع كبار مستشاريه فأي حاكم مكان سليمان كان لا بد أن يغير في الأسلوب والمناخ الذي أشاعه الحجاج وعماله من قسوة وإرهاب بين الرعية أحيانًا، وإذا كان للحجاج مبرراته في انتهاج أسلوبه القاسي، فقد تغيرت الظروف التي ألجأته إلى القسوة، وعَمَّ الهدوء والاستقرار أرجاء الدولة الإسلامية منذ أواخر عهد عبد الملك، فكان من الحكمة أن يتغير أسلوب الحجاج، وأن يستجيب الخليفة لتلك الرغبة العارمة لدى غالبية الناس.
ولعل هذا هو السر في رضاء الناس عن سليمان وثنائهم عليه، يقول الطبري: "كان الناس قد استبشروا بخلافة سليمان، وكانوا يقولون: سليمان مفتاح الخير، ذهب عنهم الحجَّاج، فولي سليمان فأطلق الأسرى وخلَّى أهل السجون، وأحسنَ إلى الناس، واستخلف عمر بن عبد العزيز".
وعندما ندقق النظر في مسألة الولاة الذين قيل إن سليمان بن عبد الملك نكَّل بهم، وقتل بعضهم وهم: موسى بن نصير، وقتيبة بن مسلم، ومحمد بن القاسم الثقفي، سنرى أن سليمان بريء تمامًا من هذه التهمة.
فأما موسى بن نصير، فعندما وصل إلى دمشق حدثت له مساءلة من الخليفة عن بعض المخالفات، وهذا شيء طبيعي، ولكنه مع ذلك ضمَّه إلى كبار مستشاريه، يقول ابن كثير بعد حديثه عن الجيش الذي أرسله سليمان بن عبد الملك لحصار القسطنطينية والجهود التي بُذلت في إعداده: "وذلك كله بمشورة موسى بن نصير حين قدم عليه من المغرب". فهذا يدل على حرص الخليفة على الاستفادة من خبرة قائد عسكري بارز، وفاتح من كبار الفاتحين، فكيف يكون قد نكل به وعذبه؟ وهل يتفق هذا مع ذاك؟
ثم إن المصادر تجمع على أن سليمان بن عبد الملك حين حج سنة 97هـ اصطحب معه موسى بن نصير، وقد مات موسى بالمدينة، فهل كان سيصحبه معه إلى الحج لو كان غاضبًا عليه؟!! ثم إن ابن عبد الحكم يقول: "وكان سليمان قد أمر موسى برفع حوائجه وحوائج من معه"، وهذه العبارة لا تُقال لرجل موضع الغضب والنقمة من الخليفة.
ثم إن الروايات التي تذكر تعذيب سليمان لموسى ونقمته عليه ترجع ذلك إلى سبب يتعلق بالأموال والهدايا التي اصطحبها موسى بن نصير معه من المغرب والأندلس، وأن سليمان كان قد كتب إلى موسى ليتمهل في مسيرته، حتى لا يصل دمشق إلا بعد موت أخيه الوليد -الذي كان مريضًا- وحينئذٍ يكون هو قد أصبح خليفة، وتكون تلك الغنائم من نصيبه، وهذه روايات مدسوسة، ومن الواضح أنها وُضِعَتْ لتنال من الخلفاء الأمويين، وتصورهم على أنهم نهِمون حريصون على المال، يحاولون جمعه بأية طريقة، حتى ولو ضحُّوا في سبيل ذلك بدينهم وخلقهم، وإلا فكيف يعرف سليمان أن أخاه سيموت، فلم يكن الوليد طاعنًا في السن، حتى يكون موته متوقَّعًا، وهَبْ أن الوليد قد شُفِيَ من مرضه، وعلم بما صنع أخوه، فكيف يكون شكل العلاقات بينهما، ثم هل من الممكن أن يكون سليمان الوَرِع التَّقِي متهافتًا على المال إلى حدِّ أن يتمنى من أجله موت أخيه؟
لا يمكن أن يكون سليمان كذلك، فلدينا من الروايات ما يؤكد عفته عن أموال المسلمين، وتوخِّيه العدل في جمعها، فابن عبد الحكم يروي في قصة موسى بن نصير مع سليمان ما يؤكد هذا حيث يقول: "فبينما سليمان يقلِّب تلك الهدايا، إذ انبعث رجل من أصحاب موسى بن نصير، يقال له: عيسى بن عبد الله الطويل، من أهل المدينة، وكان على الغنائم؛ فقال: يا أمير المؤمنين، إن الله قد أغناك بالحلال عن الحرام، وإني صاحب هذه المقاسم، وإن موسى لم يخرج خُمُسًا من جميع ما أتاك به، فغضب سليمان، وقام عن سريره فدخل منزله ثم خرج إلى الناس؛ فقال: نعم، قد أغناني الله بالحلال عن الحرام، وأمر بإدخال ذلك بيت المال".
بل لدينا ما هو أكثر دلالة في تأكيد عفة سليمان بن عبد الملك، وجميع خلفاء بني أمية عن أموال المسلمين، حيث يقول صاحب (أخبار مجموعة): "إن الخلفاء الأمويين كانوا إذا جاءتهم جبايات الأمصار والآفاق يأتيهم مع كل جباية عشرة رجال من وجوه الناس وأجنادها، فلا يدخل بيت المال من الجباية دينار ولا درهم حتى يحلف الوفد بالله الذي لا إله إلا هو ما فيها دينار ولا درهم إلا أُخِذَ بحقه، وإنه فضل أعطيات أهل البلد من المقاتلة".
فهل يكفي ذلك في الدلالة على عفة سليمان وورعه عن أموال المسلمين، وأن ما رُويَ من غضبه على موسى بسبب الأموال والهدايا لم يكن إلا محض اختلاق.
أما قتيبة بن مسلم فقد راح ضحية تسرعه -- يرحمه الله - فلم يأمر سليمان بقتل قتيبة، بل أرسل إليه كتاب توليته على خراسان، ولكنه هو الذي أسرع وأعلن الثورة، وخلع طاعة الخليفة؛ مما أدَّى إلى خروج الجند عليه وقتله.
أما محمد بن القاسم فقد راح ضحية أحقاد شخصية بين والي العراق صالح بن عبد الرحمن، وبين آل الحجَّاج، ولم يثبت أن سليمان أمر بقتل محمد بن القاسم، وإذا كان هناك من مسئولية على سليمان فقد تكون محصورة في السكوت على قتل محمد بن القاسم، وعدم معاقبة قاتليه، وقد يكون له مبرراته في ذلك، ولو كان الأمر يحتاج إلى قصاص لما سكت عنه عمر بن عبد العزيز.
ومن الأكاذيب التي نسبت إلى الخليفة سليمان بن عبد الملك أنه كان نهمًا في الأكل، ومن ذلك ما يرويه المسعودي: "أن سليمان بن عبد الملك قُدِّمَ إليه عشرون خروفًا فأكل أجوافها كلها مع أربعين رقاقة، ثم قُرِّبَ الطعامُ بعد ذلك، فأكل مع ندمائه كأنه لم يأكل شيئًا".
وقد فطن ابن كثير إلى هذه الروايات المدسوسة؛ فقال: وذكروا أن سليمان كان نهمًا في الأكل، وقد نقلوا عنه في ذلك أشياء غريبة".
فالذين رووا هذه الأخبار من أعداء الأمويين، اتخذوا منها نوادر لتسلية خلفاء بني العباس، فلم يكن هؤلاء الأعداء للأمويين يَدَعُون فرصة للنَّيْلِ منهم والتشهير بهم إلا انتهزوها حتى ولو دفعهم ذلك إلى الكذب إرضاءً لخلفاء بني العباس ونيل جوائزهم.
وفاة سليمان بن عبد الملك
توفي سليمان بن عبد الملك في مرج دابق مرابطًا في سبيل الله في شهر صَفَر سنة 99هـ، وبُويِعَ في اليوم نفسه لابن عمه عمر بن عبد العزيز الذي عهد له من بعده