أمور العقيدة في الاعتقاد، وأمور الفقه في العمل لابد أن يكون ثَمَّ إشكال في عِلَلِهَا أو في القناعة بها ولا مَجال في ذلك في الإيمان إلاَّ أن يكون على ظهر التسليم والاستسلام.
وهذا ينبني على مسألة عظيمة من مسائل الاعتقاد والعمل وهي:
أنَّ الدّين قائم على البرهان.
والأمور التي يتعاطاها النّاس ثلاثة:
- أمور عاطفية؛ يعني برهانها العاطفة، الغرائز، يعرف الجوع، يعرف العطش، يعرف الخوف، يعرف الرحمة بعاطفته وفطرته.
- والنوع الثاني برهان عقلي وهي الأمور التي يتعاطاها بعقله فيقيس ويُعَلِّل ونحو ذلك من الأمور العقلية، وهي التي خدمها المنطق بشكل عام.
- والنوع الثالث من البراهين: البراهين الدّينية، والبرهان الدّيني مبني على مقدمة، وهي مقدمة الاستسلام لمصدر التلقي.
ولهذا لا يصحّ أن يُخْلَطَ بين هذه البراهين، فالدّين ليس مصدره العقل وليس مصدره العاطفة، وإنما مصدره نوع من البراهين، وذلك لم يتكلم عليه الفلاسفة ولا المناطقة وهو البرهان الديني المبني على مقدمات دينية بحتة.
وهذه المقدمات الدينية الشرعية في التصديق بها مبنية على براهين متنوعة:
التصديق بوجود الله، استحقاقه للعبادة، التصديق بالرسول صلى الله عليه وسلم، و بالرسل، الآيات التي أوتيها، البراهين، فيما ذكرنا لك كل هذه براهين.
وهذه البراهين عقلية في أولها ودينية في ثانيها؛ يعني أنّنا حين نستسلم سنستسلم للبرهان الذي استسلمت له الأمم التي قبلنا.
فالصحابة رضوان الله عليهم رَأَوا هذه البراهين واستسلموا لها بصدق عن قناعة وعن ديانة، ثُمَّ بعد ذلك تَبِعَهُم من تَبِعَهُم في التسليم لأنهم سلَّموا، ثُمَّ تَبِعَهُم من بعدهم في التسليم لأنَّ من قبلنا سلَّم في كثير من الدلائل.
ويبقى الدليل العام للشريعة في العقيدة وفي الفقه وهو أنه ما كان في كتاب الله - عز وجل - أو في سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهو حق وهو البرهان.
وما قبل هذا البرهان ثَمَّ براهين أُخر لا مجادلة في هذه الملّة -يعني في أتباع الفرق- على صحة هذا البرهان من الكتاب ومن السنة؛ لأنَّ الجميع يُقرّون بهذا البرهان ما جاء في كتاب الله وما جاء في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه حق.
فإنه هو برهان؛ لكن هل هو البرهان الأول أو هو البرهان الثاني؟ هل يُسَلَّط العقل على الكتاب والسنة أم لا يُسَلَّط والعقل تبع؟ ونحو ذلك.
هو جاء من جهة الخلط ما بين أنواع البراهين الثلاثة التي ذكرتها لك.
هذه مقدمات بين يدي المسائل.
العقلانيون خَلَطُوا بين أنواع البراهين الثلاثة، فجعلوا البرهان العقلي والبرهان الديني واحد؛ بل جعلوا البرهان العقلي متسلطا على البرهان الديني، وظنّوا أنه إذا تسلَّط عليه وسُلِّط عليه عُرفت صحة الشرع لأنَّ العقل به عُرف الشرع.
وهذا ليس بصحيح كما سيأتي في رد هذه المقالة.
الطحاوي رحمه الله استحضر القسمين معاً:
استحضر مسائل العقيدة ومسائل الفقه، وجعل هذه الكلمات مناسبة لهذا البحث -بحث الرؤية-.

ولهذا قال (فإنَّهُ مَا سَلِم في دينه إلاَّ مَنْ سَلَّمَ لله عَزَّ وَجَلَّ ولرسُولِه صلى الله عليه وسلم )
يعني أنَّه بدأ من حيث إنَّ الكتاب والسنة هما البرهان، بدأ من هذه، فإذا صدَّقت وأيقنت أنَّ الكتاب والسنة هما الحق المطلق؛ لأنّها من عند الله - عز وجل - -فالسنة وحي-، فإذاً الرجوع في البرهان والدليل سيكون إلى الكتاب والسنة، وإذا كان ثَمَّ شك أو ثَمَّ تردّد فإنّ المرء لا يَسْلَمُ في دينه؛ لأنَّ العقول لأنّ البراهين كما ذكرنا لك ثلاثة:
- برهان عاطفي.
- وبرهان عقلي.
- وبرهان ديني.
والبرهان العاطفي لا ينضبط -فعواطف الناس مختلفة-.
البرهان العقلي لا ينضبط؛ لأنّ القائل حينما قال -وهم العقلانيون من المعتزلة والأشاعرة وجماعات- حينما قالوا: العقل ينبغي أن يُقدّم على الشرع، فالعقل هنا غير منضبط، العقل عقل من؟
هل ثَمَّ عقل واحد أُجْمِعَ عليه في النظر إلى الأشياء؟
لا، في النظر إلى الكونيات ليس ثَمَّ عقل واحد عند الفلاسفة، اختلفوا في النظر إلى الطبيعيات في الأرض.
الذين قدّسوا العقل اختلفوا في مقتضيات ذلك.
اتّفقوا على قاعدة: العقل، لكن عقل من؟ هل اجتمعوا؟
لا، ولذلك اختلف أصحاب المدرسة العقلية إلى أنواع شتّى:
فالجهمية من أصحاب المدرسة العقلية.
والمعتزلة من أصحاب المدرسة العقلية.
والأشاعرة أيضا من أصحاب المدرسة العقلية إلى حد ما، ونحو ذلك.
ولكنهم مختلفون في عقولهم وإدراكاتهم.
إذاً فإذا كان البرهان العاطفي غير منضبط، والبرهان العقلي غير منضبط، فإذاً البرهان الديني يجب أن يبدأ من المستوى أو يبدأ من المقدمة التي هي ثابتة بيقين.
وهذه المقدمة الثابتة بيقين هي الكتاب والسنة؛ لأنَّ الكتاب وحي الله - عز وجل -، وآمنا بذلك عن برهان، وبراهين سبق أن ذكرنا لكم ذلك في الكلام على الإعجاز وبرهان النبوة في الكلام على معجزات وبراهين وآيات الأنبياء.
فإذاً المقدمة التي يُتَّفَقُ عليها ويمكن أن يُجْمَعْ عليها هي التّسليم والاستسلام للكتاب والسنة.
فإذا كان كذلك كان البرهان الذي يصحّ أن يقال إنه يُتَّفَقُ عليه بلا خلاف هو برهان الكتاب والسنة.
ولهذا إذا جاء إشكال في الاعتقاد تُرجِعُهُ إلى التّسليم لله - عز وجل - ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
فالكتاب والسنة برهان صحيح، فإذا لم تُدْرَكْ العلة فإنّ ذلك ليس معناه أنّه خلل في البرهان إنما هو خلل في التلقي، خلل في إيضاح ذلك البرهان، أو لأنّ البرهان الذي هو الدّليل لم يوضح لنا هذه الأسرار.
كذلك في أمور العبادات الصلوات ليش خمس؟ ليش أربع؟ الفجر ثنتين ثلاث، لماذا الحجّ على هذه الصفة؟ لماذا الطهارة على هذه الصفة؟ كل هذه مبنية على مقدمة من التّسليم، وهو التسليم للكتاب والسنة.
فلهذا هذا البحث الذي ذكره الطحاوي في هذه الجمل يسمّيه بعض المعاصرين تسمية حديثة وهي: وحدة مصدر التلقي
فمصدر التّلقي من أهمّ المسائل التي يجب أن يُبْحَثَ فيها، فإذا اختلفت أنت وأناس على شيء، فلا بد أن يكون هناك مرجعية في البرهان حتى تنطلقوا منها.
أيضا مرجعية في التلقي، والأمة -كما قلنا- لا يمكن أن يَصْلُحَ لها إلا أن تتلقّى من الحق المطلق والبرهان المطلق، الذي هو البرهان الديني، الذي هو الكتاب وسنة النبيّ صلى الله عليه وسلم، فما وضح فيهما وما أُبِينَ فيهما وجب اعتقاده والعمل به، وما اشتبه على الفرد -لأنه ليس في الشريعة مُشْتَبَه مطلق كما سيأتي في المسائل- إذا اشتبه على الفرد وجب عليه التسليم.[شرح الطحاوية للشيخ صالح ال الشيخ ]