آثار العولمة على الإيمان بالغيبيات
تمهيد:



يستمرّ النظام الرأسمالي الغربي في تطوير أساليب جديدة بين الحين والآخر في غزوه الفكري لفرض هيمنة الرأسمالية على العالم، وإقصاء أي توجهات أخرى ما دامت تعتبر عقبةً في تحقيق أهدافها؛ فكان نشر ثقافة “العولمة” من أعظم ما تهدف إليه الرأسمالية؛ لا سيما وأن لهذا المصطلح ظاهرًا إصلاحيًّا وأنه معقِد السلام العالمي، وهي في حقيقتها تدميرٌ للهويات، وطمس للثقافات، وفرض لثقافة الرأسمالية فقط.
وفي ظلّ هيمنة النمط الغربي وتلميعه إعلاميًّا قد ننغمس في حضارتهم دون أن نشعر بمدى خطورة هذا الانغماس وهذا الاستمرار في استيراد نمط حياتهم وقيَمهم ومبادئهم وثقافاتهم، فكان من الواجب تسليط الضوء على آثارها العظيمة الخطر.
سنقف في هذا المقال على الآثار التي خلّفتها العولمة في عقائد المسلمين حول الإيمان بالغيب، وقد عرّف العلماء الإيمان بالغيب بأنه الإيمان بـ”كلّ ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم مما لا تهتدي إليه العقول؛ من أشراط الساعة، وعذاب القبر، والحشر، والنشر، والصراط، والميزان، والجنة والنار”([1])، وهو من أجلّ المقامات على الإطلاق([2])، مما يبيّن لنا أهميّة منزلة الإيمان بالغيب في عقائد المسلمين.
1- أثر العولمة على الإيمان بالله:
إنّ مما يتمّ تصديره إلينا من قبل الحضارة الغربيّة عقيدة أهل الكفر والإلحاد، وذلك يكون من خلال الألعاب الإلكترونيّة المنتشرة، حيث يتمّ نشر أفكار كفريّة وإلحادية من خلالها، مثل لعبة Doodle god فإن شعار هذه اللعبة مكوّن من مثلث بداخله العين الماسونية، وتنطلق اللعبة من المقولة الآتية: “أطلق العنان لإلهك الداخلي وأنشئ الكون”، ومن هنا فإن فكرتها قائمة على تجسيد اللاعب ليكون هو (الإله) الذي يقوم بدور خلق الحيوانات والأدوات والعواصف والبراكين، ولا ريب أنَّ ممارسة هذه اللعبة محرّمٌ شرعًا؛ لما فيها من مخاطر كبيرة وتشكيك وانتقاص في حقّ الذات الإلهية وصفاتها، ولما فيها من انتهاك لحرمات الله، وتبديد لما وقر في نفوس الناس من تمجيد لله تعالى.
وكذلك من الألعاب التي تتضمن مادّة إلحادية: لعبة Assassin’s Creed التي تعني عقيدة القتلة، وقد اتّخذ مروّجو اللعبة شعار حرف (A) الذي هو في الوقت ذاته شعار الإلحاد، كما أن اللعبة تحتوي في داخلها على العديد من العبارات التي تروّج لإبطال الدين والإيمان بالمطلق، مثل عبارة: “عندما ينشغل الناس بالحقيقة فتذكر دائمًا أنه لا توجد حقيقة”، ومثل عبارة: “عندما يقيّد الناس بالأخلاق والشرائع تذكر دائمًا أن كل شيء مباح”.
وقد بنِيت هذه اللعبة على تفاصيل ومراحل كثيرة، وفي أحد أجزائها تدور الأحداث حول “تفّاحة عدن” حيث يقصَد بها شيفرة حرية الإرادة، وبالسيطرة عليها تستطيع السيطرة على عقول البشر، تدور المنافسة بين طرفين هم القَتلة وفرسان المعبد، حيث يحرس القتلة التفاحةَ، ويمنعون فرسان الهيكل من الحصول عليها بهدف الحفاظ على حرية إرادة البشر([3]).
ومن الوسائل التي يتمّ بثّ الكفر والإلحاد من خلالها: الأفلام، فإنّ السماع أقوى مِن مجرد القراءة، ثم الرؤية والمعاينة أقوى مِن مجرد السماع وأطول مِنه بقاء وتشعّبًا في الذاكرة، لذلك تفاعل الناس مع الخبر المرئي أقوى بكثير مِن مجرد قراءته أو السماع عنه، وخذ هذا المشهد الذي لا يتعدّى الدقيقة الواحدة من فيلم المراقبون Watchmen 2009، حيث نجد أحد شخصياته (د. مانهاتن) على كوكب المريخ، أمام جسم كبير ودقيق ومعقّد أشبه بتروس الساعة العملاقة، ليقول في استخفاف غريب بعقل المشاهد العادي: “ربما العالم ليس مخلوقًا، ربما لا شيء مخلوق؛ ساعة بغير صانع”.
وهذه ممارسة مغالطة بصورة مفاجئة وصادمة للفطرة، وذلك عن طريق تقديم إحدى المستحيلات العقلية، وهي فكرة وجود ساعة بغير صانع، وكأنها شيء طبيعي مسلّم به على لسان الرجل([4]).
2- أثر العولمة على الإيمان باليوم الآخر:
إذا ما قرأنا تفسير الفلسفات الغربية لليوم الآخر وعن عذاب القبر ونعيمه، نجد صنفًا آخر ممن استهلك فكرهم من بني جلدتنا؛ فأخذ يرطن بتلك الخرافات بأحرف عربية على صفحات الكتب، فهذا حسن حنفي رائد التراث والتجديد -وهو أحد مَن تشرّب بقراءة تراث الفكر الغربي على اختلاف مراحله بداية بالفيلسوف القديس أوغسطينوس الذي يعتبر من قمم الفلسفة المسيحية في العصر الكنسي، والفيلسوف القديس أنسيلم الذي عاش في القرنين الحادي عشر والثاني عشر، والفيلسوف اللاهوتي القديس الكاثوليكي الإيطالي توما الأكويني الذي عاش في القرن الثالث عشر([5])، إضافة إلى دراسته لفكر الفيلسوف اليهودي الهولندي باروخ سبينوزا أحد أهم فلاسفة ومفكري أوروبا في القرن السابع عشر([6])، مع مؤلفات أخرى- يقول في تجديده: “إنه ليس للعقائد صدق داخلي في ذاتها، بل صدقها هو مدى أثرها في الحياة وتغيير للواقع”([7]).
وبناء على واقعه الذي انطلق منه فهو يرى أن ألفاظًا مثل: الجنة والنار والآخرة والحساب والعقاب والصراط والميزان والحوض كلها ألفاظ يجب تجاوزها؛ لأنها ألفاظ تُجاوز الحس والمشاهدة، ولا يمكن استعمالها لأنها لا تشير إلى واقع، ولا يقبلها كل الناس، ولا تؤدّي دور الإيصال، وأن ألفاظًا مثل الإيديولوجية والتقدم والحركة والتغير والتحرّر والجماهير والعدالة ألفاظ معبِّرة، لها رصيد عند الجماهير خلافًا للألفاظ الدينية([8]).
ويذكر عن عذاب القبر فيقول: “وأما عذاب القبر فلا وجود له بعد الموت، إنما هو موجود في حياتنا الحاضرة، عذاب القبر إذن تصوّر شعبي للظلام والهواء الراكد الساكن، والرائحة العفنة، والوحدة، والعزلة، والوحشة، ويعبر عن تجربة إنسانية فعليّة في الشاهد يسقطها الإنسان على الغائب”([9]).
ويذكر أن كل هذه الغيبيات لا تنفك عن كونها مجازيات تحتاج إلى تأويل([10]).
ولا يعدّ ما سبق غريبًا إذا علمت أنه ينادي بفكرة إلغاء الله سبحانه تعالى، فتجده يقول: “الحديث عن الله نقص في الوعي بالواقع”([11]).
وحين نعِي إلينا خبر وفاة هذا المفكّر ضجّ نقّاد وكتّاب وأساتذة جامعيون؛ يثمِّنون مشروعه واصفين بأنّه التنوير الحقيقي! بل كتب أحدهم أنّه: “من الصعب بل من المستحيل أن نجد نموذجًا ونمطًا فريدًا مثل د. حسن حنفي، سواء في أفكاره أو طرائقه في التعبير عن نفسه وعن الأفكار”([12]).
هذا إنما يدلّ على أثر حضور الفكر الذي دعا إليه بين زملائه ومحبّيه، بل لا تكاد دراسة تخصّ الحداثة تذكَر إلا وقد كان لحسن حنفي نصيب منها([13]).
3- أثر العولمة على الإيمان بالقدر:
في إطار تأثّر المجتمع العربي بالعولمة الغربية يتجلى لنا تأثر الروائي نجيب محفوظ، فهو لا يرى غير العلم منقذًا لهذا العالم الشرقي من شروره([14])، وظلّ يَزْفِر في أدبه مما تعلّمه منهم، فتراه في كتاباته يعبّر عن القَدَر بأنّه: صاحب الجبروت والمستبدّ الذي يصرع ويتآمر ويرمي سهامه على الخَلْق، وهم لا يملكون من الأمر شيئًا، فالمرء يسير في هذه الدنيا بدون إرادة أو فعل اختياري منه، وإنما يوجّهه القدر وينفث سمومه فيه، كلما زاغ بصره أو مال طريقه عنه.
فتجد النقّاد في تقييمهم لرواية “الطريق” قالوا: “تشكّل البناء للرواية على مجرى الأمور التي يتحكّم فيها القدر، وليس نتيجة لتصرّفات بطلها (صابر)؛ إذْ إنّه لم يكن حرّ الإرادة رغم صراعه المرير في سبيل تحقيق الهدف والهروب من المصير، فكان لعبة في يد القدر كما يحلو لبعض الإنجليز تسمية الإنسان في صراعه الخالد مع المصير”([15]).
ففي رواية “كفاح طيبة” يصف القدر بأنّه: “قوى ميتافيزيقية يحلو لها أن تتلاعب بالإنسان وتسخر من فعله، وتسوقه ضحيّة عاجزة إلى مصيره المفروض عليه منذ ميلاده، مهما حاول، كافح وبذل”([16]).
وكذا في غيرها من الروايات التي قيّمها النقّاد، كرواية السراب، ورواية الثلاثية، ورواية رادوبيس، وهمس الجنون، وشر العسل، وغيرها([17]).
بل إنّه يقول في روايته الشهيرة “عبث الأقدار”: “أيها السادة، لو كان القدر كما تقولون لسخف معنى الخلق، واندثرت حكمة الحياة، وهانت كرامة الإنسان، وساوى الاجتهاد الاقتداء، والعمل الكسل، واليقظة النوم، والقوة الضعف، والثورة الخنوع، كلا أيها السادة، إن القدر اعتقاد فاسد لا يخلق بالأقوياء التسليم به”([18]).
وهذا هو المفهوم النتشوي الذي تشربه نجيب وأعاد إنتاجه بهذه الصورة البئيسة، ثم ها هو يكرر المعنى بصورة أخرى قائلا: “الأولى -أيها المعمار ميرابو- أن تعجب بقوَّة الإرادة الهائلة التي هزمت الأقدار وقضت على قضاء القدر”([19]).
وأعمال نجيب محفوظ ذائعة الصيت مع قدم زمانه، لها انتشار مذهل، ورواج واسع في مجتمع عشاق الروايات، بل لا تزال رواياته تتصدر قوائم الـ”بيست سيلر” أو الأكثر مبيعًا، بعدد من المكتبات المصرية، ويقول شادي محمد مسؤول الدعاية بمكتبة تنمية: “إن الكتب الأكثر مبيعًا لمحفوظ خلال الشهور الثلاثة الماضية كانت مجموعة (همس النجوم) التي أصدرتها دار الساقي في بيروت في عام 2018م، وتضم 18 قصة تنشر لأول مرة، وكذلك الثلاثية: (السكرية – قصر الشوق – بين القصرين)، و(أولاد حارتنا، والحرافيش، وقلب الليل) مؤخرًا. وحسب بيان مكتبة دار الشروق -ناشر أعمال الأديب الفائز بجائزة نوبل عام 1988م- فإن أشهر الروايات التي ما زال يطلبها القراء وحققت مبيعات عالية خلال شهر أغسطس رواية (أولاد حارتنا) التي أصدرت الشروق مؤخرًا الطبعة العشرين منها. وتصدرت رواية (خان الخليلي) الصادرة عام 1945م قائمة الكتب الأكثر مبيعًا بمكتبة الكتب خان بالمعادي خلال أغسطس، فيما تصدرت روايات (قصر الشوق، وأفراح القبة، والشيطان يعظ، وثرثرة فوق النيل، وأولاد حارتنا) الكتب الأكثر مبيعًا بمكتبة ألف”([20]).
كلّ هذه الأعمال لواحد من أشهر من تأثّر بهذا السيل الجارف، فأخذ ينشر ما تعلّمه في رواياته وكتاباته، فضلّ سعيه وهو يحسب أنّه يحسن صنعًا، فنسأل الله الهداية والثبات، كما نسأله حسن الختام، والحمد لله ربّ العالمين.
ختامًا: يجب التنبه على أن “العولمة” هيمنة غربية بأسلوب ظاهره إصلاح المجتمعات، ولكنه في الحقيقة استعباد للأمم، وجعلها تابعة، ومن أعظم آثار هذه الهيمنة اقتلاع الإيمان والمبادئ والقيم الإسلامية من قلب المسلم؛ وذلك لانغماسه في حضارتهم، فيصبح تابعًا للثقافة الغربية الرأسمالية، فينتشر الإلحاد في المجتمعات الإسلامية، والتشكيك في الغيبيات، التي في مقدمتها الإيمان بالله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــ
(المراجع)

([1]) الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي (1/ 163).
([2]) طريق الهجرتين، لابن القيم (1/ 437).
([3]) مقال: كيف يُروَّج للإلحاد في الرسوم المتحركة والألعاب الإلكترونية؟ للدكتورة سوسن الشاملي.
([4]) الميديا والإلحاد، السينما واللاوعي: الخطاب الشعبي للإلحاد، تأليف: أحمد حسن (ص: 32).
([5]) انظر: نماذج من الفلسفة المسيحية في العصر الوسيط (أوغسطين – أنسيلم – توما الأكويني)، ترجمة وتقديم وتعليق د. حسن حنفي، مكتبة الأنجلو المصرية، ط2، 1978م.
([6]) رسالة في اللاهوت والسياسة، باروخ سبينوزا، ترجمة حسن حنفي، ومراجعة فؤاد زكريا، صدرت هذه الترجمة عن مؤسسة هنداوي عام 2020م.
([7]) التراث والتجديد (ص: 64).
([8]) التراث والتجديد (ص: 119-120).
([9]) من العقيدة إلى الثورة (1/ 83).
([10]) من العقيدة إلى الثورة (1/ 84).
([11]) من العقيدة إلى الثورة (1/ 83).
([12]) https://cutt.us/uKens
([13]) ملامح التجاوز العقدي في مشروع حسن حنفي، بقلم: عائشة حورة، أ. د. مرزوق العمري، الملتقى الدولى الثالث: القراءات الحداثية للعلوم الإسلاميّة -رؤية نقدية- (ص: 1824).
([14]) نجيب محفوظ الثورة والتصوّف، د. مصطفى عبد الغني (ص: 60).
([15]) قضيّة الشكل الفنّي عند نجيب محفوظ، د. نبيل راغب (ص: 282)، نقلًا عن آراء نجيب محفوظ في ضوء العقيدة الإسلامي عرض ونقد، د. إيمان بنت محمد بن عياض العسيري (ص: 423).
([16]) الرؤية والأداة، د. عبد المحسن طه بدر (ص: 194-195).
([17]) انظر: آراء نجيب محفوظ في ضوء العقيدة الإسلامي عرض ونقد، د. إيمان بنت محمد بن عياض العسيري (ص: 418-424).
([18]) عبث الأقدار (ص: 20).
([19]) عبث الأقدار (ص: 42).
([20]) https://q9r.us/wXmwC

https://salafcenter.org/7237/