الدولة العثمانية بين منطق القوة وقوة المنطق











ماجد الدرويش






فاجأنا فخامة رئيس الجمهورية بهجومه غير المبرر وغير المتوقع على الدولة العثمانية وهو يتكلم بمناسبة مئوية دولة لبنان الكبير، وتكفي المناسبة لبيان الفرق بين الدولتين، بين دولة ورثت العالم الإسلامي وراثة طبيعية، وأقامت سلطانها على مدى خمسة قرون ونيف، كانت فيها القوة العظمى الـمُهابة في كل مكان، وبين دولة عمرها حتى عام 2020 الذي لم يحلَّ بعد مئة سنة، قضتها في صراعات داخلية بين مكوناتها، جعلتها أشبه بنظام فاشل عاجز لا يملك مقومات الدولة.

ونحن هنا لا نكتب لنبرئ الدولة العثمانية من أخطاء وقعت فيها أدت إلى انهيارها وخسارتها الحرب مرتين، ولكننا نتكلم عن نظام ساد في العصر العثماني شهد له القريب والبعيد أنه كان نظاما عادلا، استطاع أن يلبي حاجات شعبه المتنوع عرقيا وقوميا، وحتى دينيا، دون أن يشعر طرف أنه مغبون أو مظلوم.

وخير دليل على ذلك (فرمان القدس) الذي أصدره السلطان سليم الأول بعيد استلامه زمام العالم الإسلامي بعد معركة مرج دابق مع المماليك في مصر سنة 923هـ - 1517م، يومها دخلت القدس الشريف ضمنا بدورها تحت إدارة العثمانيين.

فقد حفظ هذا الفرمان لكل الرعايا من المسيحيين واليهود حقوقَهم الدينية، وأَمَّن لهم بكل مذاهبهم وطوائفهم حق ممارسة الشعائر بدون أية عوائق. وقد حدد في هذا الفرمان الذي سَطَّره قاضي القدس بخطه كل حقوقهم وطُرُق حماية هذه الحقوق ومنع أي تجاوز لها. وجعل الإشراف العام على كل المشاهد والطوائف المسيحية الأخرى إلى بطريرك الأرمن.

وهذا الفرمان موجود في «خزينة أوراق» البطريركية الأرمنية في القدس الشريف. وقد قام (سركيز قاراقو) الأرمني بنسخه عن الأصل الموجود في مكتبة البطريركية الأرمنية في القدس. كما نشره البروفسور أحمد آقندوز في كتابه (الوثائق تنطق بالحقائق) عن النسخة الخطية التي كتبت زمن السلطان سليم الأول والمحفوظة في الأرشيف العثماني.

ولم يكن هذا وقفًا على القدس وحدها لقدسيتها ومكانتها، بل امتدت هذه الرعاية والعناية إلى غيرها من الأماكن. فها هو السلطان سليم الأول نفسه يصدر فرمانا مشابهًا لرهبان «دير سانت كترين» في سيناء المصرية في أواخر شهر جمادى الآخر سنة 923 هـ - 1517م يعطيهم الحقوق نفسها التي منحها للبطريركية الأرمنية وللحبش والأقباط السريان في القدس.

هكذا كانت معاملة الدولة العثمانية لغير المسلمين منذ البداية، ولم تتغير حتى مع التدخلات الروسية والأوروبية في شؤون الدولة العثمانية، وبخاصة زمن السلطان عبد العزيز وولده السلطان محمود، فإنه بسبب الخلافات الداخلية في الدولة العثمانية، والتي تُوِّجَت زمن السلطان عبد العزيز (بالواقعة الخيرية) التي تم القضاء فيها على الانكشارية، أصبحت تركيا مكشوفة عسكريا، مما اطمع الروس بمهاجمتها، وبدأت من العام 1827 الحروب الروسية والعثمانية، وكانت روسيا قد جندت مجموعات من الأرمن داخل الدولة العثمانية لمساعدتها في حربها، كما ضغطت الدول الأوروبية لأجل إعطاء المسيحيين امتيازات أكثر، كل هذا تلقته السلطنة بالقبول، وقامت بالإصلاحات التي أرست قوانين العدالة الاجتماعية، ونال نصارى لبنان متصرفيتهم. ويكفي التذكير بأن تطبيق نظام المتصرفية في جبل لبنان بدأ في العام 1861 بحاكم أرمني هو داود باشا ممثلا للسلطنة العثمانية، وانتهى بحاكم أرمني في العام 1914 هو أوهانس باشا. بل إن مسلمي السلطنة كانوا يرون أن الدولة قد ميزت غير المسلمين أكثر من اللازم.

ففي بحثه عن جذور الأزمات التي وقعت فيها الدولة العثمانية عموما، اعتبر مصطفى كامل في كتابه (المسألة الشرقية) أن حماية العثمانيين لحقوق الأقليات «أكبر سبب لكل ما لحق الدولة العلية من الضرر والإجحاف، وأصلا لكل ما حل بها من المصائب والبلايا»، معتبرًا أن «مسألة اختلاف الدين في الدولة العلية؛ التي هي نتيجة الاعتدال الديني والعدل والإنصاف؛ كانت ولا تزال الداء الدفين الذي يهدد حياة الدولة من وقت إلى آخر؛ فتدخل الدول الأوروبية في شؤون الدولة العلية باسم المسيحيين المحكومين بها، ومضايقة أوروبا للدولة باسم هؤلاء المسيحيين، واضطرابات الدولة تقوم باسم هؤلاء المسيحيين، والإنذارات التي توجه للدولة باسم هؤلاء المسيحيين، بل وأغلب الحروب التي جرت مع الدولة جرت باسم هؤلاء المسيحيين».

هذا الكلام من رجل الدولة والسياسة المشهور مصطفى كامل يعطينا فكرة عن مدى التميز الذي نعم به النصارى في ظل الدولة العثمانية، ولعل ما قاله البطريرك إلياس الحويك بعيد خلع السلطان عبد الحميد الثاني من قبل الاتحاديين سنة 1909يبين بصدق مدى الأمان الذي تمتع المسيحيون، وبخاصة الموارنة، به في ظل الدولة العثمانية. قال غبطة البطريرك حويك: «لقد عاش لبنان وعاشت طائفتنا المارونية بألف خير وطمأنينة في عهد السلطان عبد الحميد الثاني، ولا نعرف ماذا تخبئ لنا الأيام بعده».

نعم .. ثم بعد السلطان عبد الحميد استلم زمام الحكم (الاتحاديون) رجال الانكليز والإفرنسيين، وكانوا السبب الأكبر في سقوط الدولة العثمانية، وعانى كل المواطنين من حكمهم، وما عاناه المسلمون أكثر مما عاناه غيرهم، ولكنه لم يصل إلى مستوى الإرهاب الذي مارسه الانتداب بشقيه الإفرنسي والإنكليزي في المنطقة. هل فعل العثمانيون ما فعله الإفرنسيون في الجزائر؟ كما يبدو أن فخامته لم يسمع بحادثة دهس الدبابات الإفرنسية لأطفال طرابلس في ساحة التل في 13 تشرين الثاني من عام 1943م.

لا أريد أن أغوص كثيرا في التاريخ، وإلا وصلنا إلى الحروب الصليبية ومحاكم التفتيش، ولكنني أريد أن أقول: يا فخامة الرئيس، ما هي المصلحة الوطنية التي تترتب على هذا الخطاب الطائفي والفئوي؟ هل يحقق هذا الخطاب الوحدة الوطنية التي جعلتها هدفا أساس في خطاب القسم؟

إن الدولة العثمانية في كثير من محطاتها لم تكن مثالية ولكنها لم تكن إرهابية، ولم تفرط بحق أحد من مواطنيها.

وإن الرجوع إلى التاريخ يجب أن يكون للعبرة ولبناء الجسور نحو مستقبل أفضل، لا لجعله سببا لتأجيج أحقاد طائفية عبثية لا تخدم سوى عدونا الصهيوني الجاثم على تراب فلسطين، الذي يطرب لأية حادثة تفرق الناس من حوله.

والقراءات الطائفية الحاقدة للتاريخ لا تؤذي إلا أصحابها، وبخاصة مع التقدم المطرد في الاطلاع على ما تركه الأسلاف من مؤلفات وأصول تاريخية تشهد بأن كثيرين من الناس اليوم يهرفون مما لا يعرفون، ورحم الله الأستاذ الكبير أسد رستم القائل: (إذا ضاعت الأصول ضاعت التواريخ)، فالأصول متوفرة وبكثرة فيا ليت قومي يقرؤون.