تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: من أسباب المحبة: التقرب إلى الله بالنوافل

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,478

    افتراضي من أسباب المحبة: التقرب إلى الله بالنوافل



    من أسباب المحبة: التقرب إلى الله بالنوافل (1)









    كتبه/ ياسر برهامي

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

    فما زلنا مع الأسباب الجالبة للمحبة التي ذكرها الإمام ابن القيم -رحمه الله-.

    2. التقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض:

    قال -رحمه الله-: "الثاني: التقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض؛ فإنها توصله إلى درجة المحبوبية بعد المحبة"، ففي هذا السبب الثاني بيان أن حبَّ الله تعالى لعبده يزداد ويعظم بأداء العبد ما افترضه الله -عز وجل-؛ لأنه أحبُّ إلى الله -عز وجل-، ثم يزداد بعد الفرائض بالنوافل.

    وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربه-عز وجل-: (قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ المُؤْمِنِ؛ يَكْرَهُ المَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ) (رواه البخاري)، وهذا الحديث يبين الطريق إلى الولاية، وأصلُ الولاية الإيمان والتقوى كما قال تعالى: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) (يونس: 62-63)، فطريق الولاية الإيمان، ثم أداء الفرائض، ثم المواظبة على النوافل.


    قال الحافظ ابن رجب -رحمه الله- في جامع العلوم والحكم: "وأداء الفرائض أفضل الأعمال، كما قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "أفضل الأعمال أداء ما افترض الله، والورع عما حرم الله، وصدق النية فيما عند الله -عز وجل-".

    وقال عمر بن عبد العزيز في خطبته: "أفضل العبادة أداء الفرائض، واجتناب المحارم"، وذلك لأن الله -عز وجل- إنما افترض على عباده هذه الفرائض ليقربهم منه، ويجب لهم رضوانه ورحمته".

    وقال الحافظ ابن رجب -رحمه الله- أيضًا:

    "فقسَّم أولياءه المقرَّبين إلى قسمين:

    أحدهما: من تقرب إليه بأداء الفرائض، ويشمل ذلك فعل الواجبات وترك المحرمات؛ لأن ذلك كله من فرائض الله التي افترضها على عباده.

    والثاني: من تقرب إليه بعد الفرائض بالنوافل، فظهر بذلك أنه لا طريق يوصل إلى التقرب إلى الله تعالى وولايته ومحبته سوى طاعته التي شرعها على لسان رسوله، فمن ادعى ولاية الله والتقرب إليه ومحبته بغير هذه الطريق تبين أنه كاذب في دعواه".

    وهذا الحديث يدل على أن العبد لا يُحَب من أول إيمانه الحبَّ الكامل التام عند الله -عز وجل-؛ لأنه قال: (وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ)، فهو يحب منه أداء الفرائض، ثم يحب منه أداء النوافل والمداومة عليها، فكان قبل هذه الدرجة محبوبًا لأجل صفات معينة، وأما أن يحب اللهُ عبدَه الحبَّ الكاملَ المُطلقَ فإنه يحصل بعد المداومة على النوافل بعد التقرب إلى الله -عز وجل- بالفرائض، حتى يصيرَ بصرُ العبدِ ويدُه ورجلُه لله وبالله، فمعنى: (كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ) أن سمعه وبصره جُعل لله -عز وجل-، وأصبح العبد مخلصًا تام الإخلاص لا يحرِّكُ ساكنًا من ذلك إلا بالله، فلا يفعل ولا يترك إلا لله -عز وجل-، وهو مستعين بالله، فهو يستعين بحول الله وقوته في تصريف هذه الجوارح في مرضات الله، وليس أنه يحل فيه الرب -عز وجل- أو يتَّحد به، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا؛ فإجماع أهل الإسلام أن الله -سبحانه وتعالى- فوق عرشه، بائن من خلقه، لا يحل في مخلوقاته، ولا تحل مخلوقاته فيه، وإنما معنى الحديث: لله إخلاصًا وبالله استعانة، ولا يزال هناك سائل ومسئول، ومُستعيذ ومُستعاذ به، (وَإِنْ سَأَلَنِي لأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ).

    قال الحافظ ابن رجب -رحمه الله-: "قوله: (فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا).

    المراد بهذا الكلام: أن من اجتهد بالتقرُّب إلى الله بالفرائض ثم النوافل قرَّبه إليه، ورقَّاه إلى درجة الإحسان، فيصيرُ يعبدُ الله على الحضورِ والمراقبةِ كأنه يراه، فيمتلئُ قلبُه بمعرفة الله تعالى ومحبته وعظمته وخوفه ومهابته وإجلاله والأنس به والشوق إليه، حتى يصيرَ هذا الذي في قلبه مشاهدًا له بعين البصيرة.

    ولا يزال هذا الذي في قلوب المحبِّين المقرَّبين يقوى حتى تمتلئَ قلوبُهم به، فلا يبقى في قلوبهم غيرُه، ولا تستطيع جوارحُهُم أن تنبعثَ إلا بموافقة ما في قلوبهم، ومن كان حالُه هذا؛ قيل فيه: ما بقي في قلبه إلا الله، والمراد: معرفته ومحبته وذكره، وقال بعض العارفين: "احذروه؛ فإنه غيورٌ، لا يُحبُّ أن يرى في قلبِ عبده غيرَه".

    فمتى امتلأ القلب بعظمة الله تعالى محا ذلك من القلب كلَّ ما سواه، ولم يبقَ للعبد شيءٌ من نفسه وهواه، ولا إرادة إلا لما يريدُه منه مولاه، فحينئذٍ لا ينطِقُ العبدُ إلا بذكره، ولا يتحرَّك إلا بأمره، فإن نطق نطق بالله، وإن سمع سمع به، وإن نظر نظر به، وإن بطش بطش به، فهذا هو المراد بقوله: (كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا)، ومن أشار إلى غير هذا فإنما يشير إلى الإلحاد من الحلول أو الاتّحاد، والله ورسوله بريئان منه.

    ومن هنا كان بعضُ السلف ـ كسليمان التيميِّ ـ يرون أنه لا يحسن أن يعصي الله، ووصَّت امرأةٌ من السلف أولادها، فقالت لهم: "تعوَّدوا حبَّ الله وطاعته؛ فإن المتَّقين ألِفوا الطاعة، فاستوحشت جوارحُهم من غيرها، فإن عرض لهم الملعونُ بمعصيةٍ مرَّت المعصيةُ بهم متحشمةً، فهم لها منكرون").


    وما زال الحديث موصولاً عن هذا السبب من الأسباب الجالبة لمحبة الله –عز وجل-.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,478

    افتراضي رد: من أسباب المحبة: التقرب إلى الله بالنوافل

    من أسباب المحبة: التقرب إلى الله بالنوافل (2)









    كتبه/ ياسر برهامي
    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛فما زلنا مع الأسباب الجالبة للمحبة التي ذكرها الإمام ابن القيم -رحمه الله-، وما زلنا مع السبب الثاني وهو التقرب إلى الله بالنوافل، قال ابن القيم –رحمه الله-: "الثاني: التقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض؛ فإنها توصله إلى درجة المحبوبية بعد المحبة".قال ابن القيم -رحمه الله- في "الجواب الكافي": "وقد ضمن الله سبحانه لكلِّ من عمل صالحًا أن يحييَه حياةً طيبةً، وهو صادق الوعد الذي لا يخلف وعده، وأي حياة أطيب مِن حياة مَن اجتمعت همومه كلها وصارت همًّا واحدًا في مرضاة الله؟ ولم يتشعب قلبه، بل أقبل على الله، واجتمعت إرادته وأفكاره ـ التي كانت متقسمة بكل وادٍ منها شعبة ـ على الله، فصار ذكر محبوبه الأعلى وحبه والشوق إلى لقائه والأنس بقربه هو المستولي عليه،وعليه تدور همومه وإرادته وقصوده، بل خطرات قلبه، فإن سكت سكت بالله، وإن نطق نطق بالله، وإن سمع فبه يسمع، وإن أبصر فبه يبصر، وبه يبطش، وبه يمشي، وبه يتحرك، وبه يسكن، وبه يحيا، وبه يموت، وبه يُبعث.كما في صحيح البخاري عنه -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالي أنه قال:(مَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَلا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، فَبِي يَسْمَعُ، وَبِي يُبْصِرُ، وَبِي يَبْطِشُ، وَبِي يَمْشِي، وَلَئِنْ سَأَلَنِي لأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ فِي شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ كَتَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي المُؤْمِنِ؛ يَكْرَهُ المَوْتَ وَأَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ، وَلابُدَّ لَهُ مِنْهُ).فتضمن هذا الحديث الشريف الإلهي، الذي حرام على غليظ الطبع كثيف القلب فهم معناه، والمراد به: حصر أسباب محبته في أمرين: أداء فرائضه، والتقرب إليه بالنوافل.وأخبر سبحانه أن أداء فرائضه أحب ما يتقرب إليه المتقربون، ثم بعدها النوافل، وأن المحب لا يزال يكثر من النوافل حتى يصير محبوبًا لله، فإذا صار محبوبًا لله أوجبت محبة الله له محبة أخرى منه لله فوق المحبة الأولى، فشغلت هذه المحبة قلبه عن الفكرة والاهتمام بغير محبوبه، وملكت عليه روحه، ولم يبق فيه سعة لغير محبوبه البتة، فصار ذكر محبوبه وحبه ومثله الأعلى مالكًا لزمام قلبه، مستوليًا على روحه استيلاء المحبوب علي محبة الصادق في محبته، التي قد اجتمعت قوى حبه كلها له.ولا ريب أن هذا المحب إن سمع سمع بمحبوبه، وإن أبصر أبصر به، وإن بطش بطش به، وإن مشى مشى به، فهو في قلبه ومعه وأنيسه وصاحبه، فالباء ههنا للمصاحبة، وهي مصاحبة لا نظير لها، ولا تدرك بمجرد الإخبار عنها والعلم بها، فالمسألة حالية لا علمية محضة.وخصَّ في الحديث السمع والبصر واليد والرجل بالذِّكر؛ فإن هذه الآلات آلات الإدراك، وآلات السمع والبصر يوردان علي القلب الإرادة والكراهة، ويجلبان إليه الحب والبغض، فيستعمل اليد والرجل، فإذا كان سمع العبد بالله وبصره بالله كان محفوظًا في آلات إدراكه، وكان محفوظًا في حبه وبغضه، فحفظ في بطشه ومشيه.وتأمل كيف اكتفى بذكر السمع والبصر واليد والرجل عن اللسان، فإنه إذا كان إدراك السمع الذي يحصل باختياره تارة وبغير اختياره تارة، وكذلك البصر قد يقع بغير الاختيار فجأة، وكذلك حركة اليد والرجل التي لابد للعبد منها، فكيف بحركة اللسان التي لا تقع إلَّا بقصد واختيار؟ وقد يستغني العبد عنها إلَّا حيث أمر بها، وأيضا فانفعال اللسان عن القلب أتم من انفعال سائر الجوارح؛ فإنه ترجمانه ورسوله.وتأمل كيف حقق تعالى كون العبد به سمعه وبصره وبطشه ومشيه بقوله: (كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا) تحقيقًا لكونه مع عبده، وكون عبده به في إدراكاته بسمعه وبصره وحركاته بيده ورجله.وتأمل كيف قال:(فَبِي يَسْمَعُ، وَبِي يُبْصِرُ، وَبِي يَبْطِشُ)، ولم يقل: فلي يسمع ولي يبصر ولي يبطش، وربما يظن الظانُّ أن اللام أولى بهذا الموضع؛ إذ هي أدل على الغاية ووقوع هذه الأمور لله، وذلك أخص من وقوعها به، وهذا من الوهم والغلط؛ إذ ليست الباء ههنا لمجرد الاستعانة؛ فإن حركات الأبرار والفجار وإدراكاتهم إنما هي بمعونة الله لهم، وإنما الباء ههنا للمصاحبة، أي: إنما يسمع ويبصر ويبطش ويمشي وأنا صاحبه ومعه، كقوله في الحديث الآخر: (أَنَا مَعَ عَبْدِي مَا ذَكَرَنِي وَتَحَرَّكَتْ بِي شَفَتَاهُ) (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني)، وهذه هي المعية الخاصة المذكورة في قوله تعالى: (لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) (التوبة: 40)، وقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهُمَا؟) (رواه البخاري ومسلم)، وقوله تعالى: (وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت: 69)، وقوله: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) (النحل: 128)، وقوله: (وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (الأنفال: 46)، وقوله: (قَالَ كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) (الشعراء: 62)، وقوله تعالى لموسى وهارون: (إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) (طه: 46)، فهذه الباء مقيدة لمعنى هذه المعية دون اللام، ولا يتأتى للعبد الإخلاص والصبر والتوكل ونزوله في منازل العبودية إلاّ بهذه الباء وهذه المعية.فمتى كان العبد بالله هانت عليه المشاق، وانقلبت المخاوف في حقه أمانًا، فبالله يهون كل صعب، ويسهل كل عسير، ويقرب كل بعيد، وبالله تزول الهموم والغموم والأحزان، فلا هم مع الله، ولا غم ولا حزن إلا حيث يفوته معنى هذه الباء، فيصير قلبه حينئذٍ كالحوت؛ إذا فارق الماء يثب وينقلب حتى يعود إليه.ولما حصلت هذه الموافقة من العبد لربه في محابِّه حصلت موافقة الرب لعبده في حوائجه ومطالبه، فقال: (وَلَئِنْ سَأَلَنِي لأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ) أي: كما وافقني في مرادي بامتثال أوامري والتقرب إليَّ بمحابي؛ فأنا أوافقه في رغبته ورهبته فيما يسألني أن أفعله به ويستعيذني أن يناله، وقوَّى أمر هذه الموافقة من الجانبين حتى اقتضى ذلك تردُّد الرب ـ سبحانه ـ في إماتة عبده؛ لأنه يكره الموت، والرب تعالي يكره ما يكرهه عبده ويكره مساءته، فمن هذه الجهة يقتضي أن لا يميته، ولكن مصلحته في إماتته؛ فإنه ما أماته إلا ليحييه، ولا أمرضه إلا ليصحَّه، ولا أفقره إلا ليغنيه، ولا منعه إلا ليعطيه، ولم يخرجه من الجنة في صلب أبيه إلا ليعيده إليها على أحسن أحواله، ولم يقل لأبيه: (اخرج منها) إلا وهو يريد أن يعيده إليها، فهذا هو الحبيب على الحقيقة لا سواه، بل لو كان في كل منبت شعرة من العبد محبة تامة لله لكان بعض ما يستحقه على عبده.
    نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ما الحب إلا للحبيب الأول
    كم منزل في الأرض يألفه الفتى وحنيـنه أبدًا لأول منزل
    فالمحبة رزق يرزقه الله عبدَه، ويوفقه له، ولا يناله كل أحد، وإنما يناله الصادق الذي ذاق حلاوة الإيمان، لكن لابد لهذه المحبة من أوعية ينال فيها هذا الرزق وهذا العطاء، والعبادات هي وعاء تلك المحبة، ولا وعاء غيرها، فينزل العطاء في هذا الوعاء حتى يحصل للإنسان ما يحبه مِن قربِه مِن الله ومحبتِه له، ثم من حب الله -عز وجل- له؛ لأن قصده أن يرضي الله وأن يفعل محبوباته يدل على صدق حبه لله -عز وجل-، وكلما كان محبًّا صادقًا كلما كان مجتهدًا في أداء ما افترض الله -عز وجل- عليه، ثم يداوم على النوافل التي شرعها الله -عز وجل- وبيَّنها على لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم- وفي أفعاله؛ لكي يثبت صدق حبه لله -عز وجل- بفعل محبوباته، حتى يصل إلى درجة المحبوبية بعد أن كان محبًّا.وقد قال الله -عز وجل-: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (آل عمران: 31)، فبيَّن درجة الحب التي يلزم منها الاتباع، ويلزم منهما جميعًا المحبوبية، فبدون العبادات من فريضة ونافلة لن يحصل للإنسان ما يرفع منزلته ويحقق به المحبة، وقد لا يجد الإنسان في بداية أداء الفريضة أو النافلة حلاوة المحبة مباشرةً، لكن عليه أن يواظبَ ويستمرَّ، وأن يديمَ قرع الباب إلى أن يفتح؛ لأنه واقف بباب لا محيد له عنه؛ إذ هو الطريق الموصل إلى الله الذي ينتظر أن يُفتح، فيلج فيه، حتى يصل إلى الدرجات العليا من أعمال القلوب: من الحب والخوف والرجاء والقرب والمحبوبية بعد ذلك، ووسيلته إلى ذلك أداء العبادات من الفرائض مثل: الصلاة والصيام والحج والعمرة، والنوافل منها، والبحث عن أفضلها وأحبها إلى الله -عز وجل- كالنوافل الراتبة وقيام الليل وصيام الأيام والشهور الفاضلة والصدقة والتنفل بالحج والعمرة، وهذه كلها من أفعال البر التي إذا فعلها الإنسان كان صادق الحب، ونزل في أوعيته ما يرزقه الله -عز وجل- به من محبته.
    وللحديث بقية بإذن الله مع بقية الأسباب الجالبة لمحبة الله –عز وجل-.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •