الاعتدال في الحب









كتبه/ ياسر عبد التواب

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فكما أمرنا أن نحب الناس فإننا أمرنا أن نقتصد في حبنا للبشر بحيث لا يخرج عن حد الاعتدال الذي هو صفة العقلاء وعنوان المؤمنين؛ ولهذا وردت عدة روايات يعضد بعضها بعضًا للحديث الذي رواه الطبراني في الكبير عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (أَحْبِبْ حَبِيبَكَ هَوْنًا مَا، عَسَى أَنْ يَكُونَ بَغِيضَكَ يَوْمًا مَا، وَأَبْغِضْ بَغِيضَكَ هَوْنًا مَا، عَسَى أَنْ يَكُونَ حَبِيبَكَ يَوْمًا مَا).

أي أحب باعتدال ودون إسراف لا كما يطلق عليه البعض الحب بجنون، أو الحب الأعمى، أو العبادة +والعياذ بالله تعالى-.

قَالَ الْمَنَاوِيُّ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: "إِذْ رُبَّمَا اِنْقَلَبَ ذَلِكَ بِتَغَيُّرِ الزَّمَانِ وَالأَحْوَالِ بُغْضًا فَلا تَكُونُ قَدْ أَسْرَفْت فِي حُبِّهِ فَتَنْدَمَ عَلَيْهِ إِذَا أَبْغَضْته، أَوْ حُبًّا فَلا تَكُونُ قَدْ أَسْرَفْت فِي بُغْضِهِ فَتَسْتَحْيِيَ مِنْهُ إِذَا أَحْبَبْته".

وَلِذَلِكَ قَالَ الشَّاعِرُ:

فَهَوْنُك فِي حُبٍّ وَبُغْضٍ فَرُبَّمَا بَدَا صَاحِبٌ مِنْ جَانِبٍ بَعْدَ جَانِبِ"

ومع الأسف فقد اختزل البعض الحب في الغزل والتشبيب، وإثارة الشهوات المحرمة، ولقد خرجوا به عن كل الحدود، وتخطوا به كل الحواجز؛ فلا حل ولا حرمة؛ ولا خشية، ولا مروءة، ولا عفاف، ولا تأدب؛ بل انفرط العقد عندهم فهم يحبون بلا قيود، ولا تعقل، بل وبلا حقيقة؛ فهم يحبون المرأة في شبابها وجمالها، وينسونها في شيبها وضعفها، وكذا المرأة تحب الرجل في غناه، وشبابه وقوته، وتنساه في ضعفه، وفقره، ومرضه.

إنه حب مختزل في العلاقة بين الرجل والمرأة؛ وحتى مع هذا فهو ناقص بسبب تلك الانتقائية في اختيار أفضل حالات الجنس الآخر -دون غيرها- ليتم بذلك الحب المزعوم.

ولو صدقوا لاستمر ذلك الحب ودام، لكن هيهات... أبى الله أن يتم ما هو ناقص، وأن يكمل ما هو معيب.

أقول هذا في حب الإنسان للإنسان، أما في حب الإنسان لله -تعالى- فهو أعلى أنواع المحبة، وإنما تنشأ هذه المحبة بالفطرة السليمة والشعور بالامتنان لصاحب المنة والفضل، وبمزيج من الإدراكات العقلية والروحية لما لله -تعالى- من صفات وأسماء فهو: رفيق، ورحيم، وودود، وحكيم، وعليم، يعز من يطيعه، ولا ينسى من يحبه؛ يكرم من يلجأ إليه، ويقبل التوبة عن عباده، ويعفو عن السيئات، ويضاعف الحسنات... إن تقربت إليه شبرًا تقرب إليك ذراعًا، وإن أتيته تمشي أتاك هرولة، يعد لك في الجنة نزلاً كلما غدوت أو رحت في طاعته، وقد أعد لعباده الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر من النعيم المقيم في جنة الخلد التي وعدها الله المتقين، ولا يخلف الله -تعالى- الميعاد، وبعمق النظر في ملكوت السموات والأرض، وحسن التدبر لآيات القرآن، وكثرة ذكر الله، واستحضار أسمائه الحسنى، وصفاته العليا يتكون لدى المؤمن تلك البذرة الإيمانية للمحبة.