من دروس يوم التروية: الخلاف شر








ماجد الدرويش






يوم التروية كما هو معلوم، هو اليوم الثامن من ذي الحجة الذي يمضي فيه الحجيج يومهم في منىً فيصلون الصلوات الخمس من الظهر إلى الفجر كل واحدة في وقتها مع قصر الرباعية، وبعد الفجر يتوجهون إلى صعيد عرفات.

إذن مما تعلق بهذا اليوم من أحكام قَصْرُ الصلاة الرباعية. إلا أنه في إحدى حِجَج خلافة أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه، صلى الظهر في يوم التروية في منىً أربعا، مع أنه في حجج سابقة صلى ركعتين، وبلغ ذلك عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، فاسترجع كالمنكر على عثمان فعله، ثم عندما حانت صلاة العصر تهيأ للصلاة مع أمير المؤمنين أربعا، فقال له بعض أصحابه: أتصلي معه – أي أربعا – وقد استرجعت؟ فكان جوابه من أمتع وأروع الأجوبة التي تقال في مثل هذه المواضع: (الخلاف شر).

وفي رواية الشاشي في مسنده تفصيل ذلك، حيث روى بسنده، عَنِ الْأَسْوَدِ النخعي قَالَ: كُنْتُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بِمِنًى، فَلَمَّا صَلَّى عُثْمَانُ بِهَا أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ حِينَ فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ: «صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْمَكَانِ رَكْعَتَيْنِ، وَصَلَّى أَبُو بَكْرٍ رَكْعَتَيْنِ، وَصَلَّى عُمَرُ رَكْعَتَيْنِ» قَالَ: وَأُرَاهُ قَدْ ذَكَرَ مَا كَانَ قَدْ صَلَّى مَعَ عُثْمَانَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ صَلَّى الْيَوْمَ أَرْبَعًا قَالَ الْأَسْوَدُ: قُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَلَا سَلَّمْتَ فِي رَكْعَتَيْنِ وَجَعَلْتَ الرَّكْعَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ بَعْدُ تَسْبِيحًا؟ قَالَ: «الْخِلَافُ شَرٌّ».

نعم، الخلاف أمام الناس في القضايا التي تحتمل وجوها شرٌ، ومخالفة الإمام الذي نثق به وبعلمه ودينه فيما ذهب إليه أيضا شرٌ، والأخطر منه تخالف الأئمة أمام العوام، فإنه يورث بين الأتباع البغضاء والعصبية.

فقد أورد الإمام ابن عبد البر في جامعه، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْر، رضي الله عنهما، قَالَ: «أَنَا وَاللَّهِ مَعَ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالْجُحْفَةِ، وَمَعَهُ رَهْطٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ فِيهِمْ حَبِيبُ بْنُ مَسْلَمَةَ الْفِهْرِيُّ، إِذْ قَالَ عُثْمَانُ، وَذُكِرَ لَهُ التَّمَتُّعُ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ: أَنْ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَخَلِّصُوهُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَلَوْ أَخَّرْتُمْ هَذِهِ الْعُمْرَةَ حَتَّى تَزُورُوا هَذَا الْبَيْتَ زَوْرَتَيْنِ كَانَ أَفْضَلَ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ وَسَّعَ فِيَ الْخَيْرِ.

فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: عَمَدْتَ إِلَى سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرُخْصَةٍ رَخَّصَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلْعِبَادِ بِهَا فِي كِتَابِهِ، تُضَيِّقُ عَلَيْهِمْ فِيهَا وَتَنْهَى عَنْهَا! وَكَانَتْ لِذِي الْحَاجَةِ وَلِنَائِي الدَّارِ!؟ ثُمَّ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ مَعًا.

فَأَقْبَلَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ: وَهَلْ نَهَيْتُ عَنْهَا؟ إِنِّي لَمْ أَنْهَ عَنْهَا، إِنَّمَا كَانَتْ رَأَيًا أَشَرْتُ بِهِ، فَمَنْ شَاءَ أَخَذَ بِهِ وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ.

قَالَ ابن الزبير: فَمَا أَنْسَى قَوْلَ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ مَعَ حَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ: انْظُرْ إِلَى هَذَا كَيْفَ يُخَالِفُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ وَاللَّهِ لَوْ أَمَرَنِي لَضَرَبْتُ عُنُقَهُ.

قَالَ: فَرَفَعَ حَبِيبٌ يَدَهُ فَضَرَبَ بِهَا فِي صَدْرِهِ، وَقَالَ: اسْكُتْ فَضَّ اللَّهُ فَاك،َ فَإِنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمُ بِمَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ».

لذلك عندما سئل ابْن سِيرِينَ عَنْ الْمُتْعَةِ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ، قَالَ: «كَرِهَهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَإِنْ يَكُنْ عِلْمًا فَهُمَا أَعْلَمُ مِنِّي، وَإِنْ يَكُنْ رَأْيًا فَرَأْيُهُمَا أَفْضَلُ».

نعم هما أعلم وأفضل رأيا، هذا والقائل محمد بن سيرين سيد التابعين، ولكنه الأدب الذي يجعل التابع يقف متأدبا مع رأي وعلم أستاذه ومتبوعه، ويتهم رأيه لرأي أستاذه وإمامه.

وهو الأدب الذي يجعل الطالب يقف باحترام أمام اختلاف العلماء قائلا: هم أعلم بما اختلفوا فيه، فلا يتعصب كذلك الشامي الذي أراد قطع رأس علي رضي الله عنه لأنه خالف أمير المؤمنين. وهو غير مدرك لأهمية الخلاف في هذه الموضع، فلو سكت الجميع على ما رآه سيدنا عثمان لحصلت الخشية من اعتبار ذلك أمرا لا يخالف، ولحمل على الوجوب عند من لا يعرفون طبيعة الأحكام، بل هذا الخوف هو الذي دفع سيدنا عثمان رضي الله عنه إلى إتمام الصلاة في منى، لأنه بلغه أن أناسا من الأعراب صلوا قبلُ معه، فرجعوا إلى قومهم قائلين لهم: إن الظهر والعصر ركعتان فقط، هكذا صلينا مع أمير المؤمنين عثمان. فلما بلغه هذا الأمر، فعل ما فعله في الحجة التالية حتى يصحح ما ذهب إليه أولائك الأعراب الذين لا يتعقلون الأحكام.


وهذا التعليل ذكره الإمام أبو نعيم الأصبهاني رحمه الله تعالى في كتابه (تثبيت الإمامة وترتيب الخلافة). ولأهمية كلامه أنقله هنا بحرفيته، قال رحمه الله تعالى في معرض رده على من قدَّم عليا على عثمان رضي الله عنهما:

«فَإِذا طَعَنَ عَلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِمَا كَانَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي ذَرٍّ مِنْ إِتْمَامِ الصَّلَاةِ بِمِنًى وَأَنَّهُ صَلَّاهَا أَرْبَعًا. قِيلَ لَهُ: لو كَانَ إِنْكَارُهمَا خِلَافَ الْحَقِّ، لَمَّا تَابِعَاهَ وَوَافَقَاهُ، فَقِيلَ لَهُمَا فِي ذَلِكَ فَقَالَا: الْخِلَافُ شَرٌّ.

وَقَدْ رَأَى جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ إِتْمَامَ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ مِنْهُمْ: عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَعَنْ أَبِيهَا، وَعُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَسَلْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وَإِنَّ الَّذِي حَمَلَ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى الْإِتْمَامِ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ قَوْمًا مِنَ الْأَعْرَابِ مِمَّنْ شَهِدُوا مَعَهُ الصَّلَاةَ بِمِنًى رَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ فَقَالُوا: الصَّلَاةُ رَكْعَتَانِ، كَذَلِكَ صَلَّيْنَاهَا مَعَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِمِنًى. فَلِأَجْلِ ذَلِكَ صَلَّى أَرْبَعًا ليعلمهم مَا يستنوا بِهِ للْخِلَافَ وَالِاشْتِبَاهَ .

وَكَذَلِكَ فَعَلَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي أَمْرِ الْحَجِّ، نَهَاهُمْ عَنِ التَّمَتُّعِ، وَأَنْ يَجْمَعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مَعَ عِلْمِهِ وَمُشَاهَدَتِهِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَهُمَا. وَكَانَ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ يُخَالِفُهُ وَيَقُولُ: سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَقُّ أَنْ تُتَّبَعَ.

وَتَابَعَهُ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَعَامَّةُ الصَّحَابَةِ عَلَى تَرْكِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِفِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِقَامَتِهِ عَلَى الْإِحْرَامِ حِينَ دَخَلَ مَكَّةَ مَعْتَمِرًا حَتَّى فَرَغَ مِنْ إِقَامَةِ الْمَنَاسِكِ، وَلَمْ يَعُدُّوا ذَلِكَ خِلَافًا مِنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَلَمْ يُظْهِرُوا إِنْكَارًا عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مَوْضِعَ الْإِنْكَارِ لَأَنْكَرُوهُ وَلَمَا تَابَعُوهُ عَلَى رَأْيِهِ». انتهى.

وإنما تابعوه لعلمهم أن هذه القضايا مما يرجع الترجيح فيها إلى رأي الإمام وما تقتضيه المصلحة، وهو ما فهموه من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وقضائه، وهو ما دفع عالما من مثل القرافي المالكي إلى الكتابة في الفرق بين الفتيا والقضاء، وبين تصرفات القاضي والإمام، في كتابه العجاب (الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام)، ولو أن تلك المواقف من النبي صلى الله عليه وسلم مما لا سبيل إلى مخالفته لكان أولائك الصحابة الكرام رضوان الله تعالى عليهم أول الواقفين عندها.

والخلاصة أنه في زماننا ظهر التجرؤ من العوام على العلماء الأعلام، وانقلبت آية ﴿فاسألوا أهل الذكر﴾ ليُسأل أهلُ الفتنة والجهل، ويُهجرَ أهل الذكر. وصار كل من حفظ كليمات يريد أن يتحفنا باجتهاداته المبتورة والمشوهة القائمة على فهم سطحي لجانب بسيط من جوانب المسألة.

فلا غرو بعد ذلك أن تحصل هذه الفوضى العلمية التي نعيشها، ولا أدري إلى كم قرن نحتاج لتعود الأمور إلى نصابها...