مُلَح وأسرار في الحج والاعتمار


د. زين العابدين كامل


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد ،
ففى هذة الأيام المباركة يتابع المسلمون أحوال حجاج بيت الله الحرام؛ وهم يتوافدون من كل فج عميق إلى الأراضى المقدسة والبقاع الطاهرة.
رحلة إيمانية لبيت الله الحرام، ذلكم البيت الذى تحن له القلوب، وتدمع عنده العيون، وتشتاق إليه الأفئدة والأرواح.
ولا شك أن رحلة الحج من أعظم الرحلات الإيمانية التي يسعد بها المسلم في حياته، وهي رحلة مليئة بكثير من المُلح([1]) والأسرار، و الدروس التربوية.
وفي هذا المقال نسلط الضوء على بعض هذه الدروس والمُلح والأسرار.
1-: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى:
فمن المعلوم أن الحاج يتزود لسفره بالطعام والشراب والكسوة والنفقة ونحو ذلك، وهو يقوم بتحضير حقائب سفره ليحمل فيها ما يحتاج إليه من الأمتعة، وفي هذا درس بليغ، ألا وهو : أن سفر رحلة الحج لا يستغرق إلا عدة أسابيع، ومع ذلك نتزود له وهو أمر مطلوب بلا شك، ولكن أليس من المطلوب أيضًا أن نتزود لسفر الآخرة وهو سفر بعيد، بل وهو أشق من سفر رحلات الدنيا.

ولذا وجب علينا كما أننا نتزود لسفر قريب، أن نتزود بالعمل الصالح لسفر بعيد، وهو السفر ليوم المعاد، فلابد أن نجمع ما استطعنا في حقائبنا من الأعمال الصالحة، كالصلاة والصيام والصدقات، والذكر والقرأن وحسن الخلق وغيرها من أنواع الطاعات والقربات ). قال -تعالى (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) (البقرة:197)

تـزود مـن حـيـاتـك لـلمعـاد وقم لله واعمل خير زاد
أترضى أن تكون رفيق قـوم لهم زاد وأنت بغـير زاد

2- ساعة الوداع والفراق:
إنها ساعة الوداع، ساعة يودع فيها الحاج أسرته وأقاربه، ويودع أحبابه، وأصدقائه، وجيرانه، ويتعانق الجميع، وربما دمعت عيونهم، لأجل فراق لا يتعدى عدة أسابيع، وهي لحظات تذكرنا بفراق يطول زمنه، ألا وهو فراق الموت، حين تلتف الساق بالساق، ولا اجتماع بعدها إلا في الآخرة، فهل استعد كل منا لمثل هذا اليوم؟ وفي الحديث “إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ؛ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلا مِنْ ثَلاثَةٍ: إِلا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ (رواه مسلم).


3- وصول الحاج إلى الميقات:
لقد وقت النبي صلى الله عليه وسلم، مواقيت معينة للإحرام بالحج والعمرة، ففي الصحيحين البخاري ومسلم، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال” وَقَّتَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لأهْلِ المَدِينَةِ ذا الحُلَيْفَةِ، ولِأَهْلِ الشَّأْمِ الجُحْفَةَ، ولِأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ المَنازِلِ، ولِأَهْلِ اليَمَنِ يَلَمْلَمَ، فَهُنَّ لهنَّ، ولِمَن أتَى عليهنَّ مِن غيرِ أهْلِهِنَّ لِمَن كانَ يُرِيدُ الحَجَّ والعُمْرَةَ، فمَن كانَ دُونَهُنَّ، فَمُهَلُّهُ مِن أهْلِهِ، وكَذاكَ حتَّى أهْلُ مَكَّةَ يُهِلُّونَ مِنْها” فهذه مواقيت مكانية، لا يستطيع الحاج والمعتمر أن يتجاوزها دون إحرام، ولو فعل ذلك فعليه دم، ولها كذلك زمن معلوم، وهو وقت الإحرام، قال تعالى { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ } وأمر هذه المواقيت يذكرنا بمواقيت أعمارنا، وهي أعمار حددها الله وكتبها، لا تتقدم ولا تتأخر، كما قال تعالى (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ) (الأعراف:34).

4- التجرد من الثياب عند الإحرام:
فإذا وصل الحاج إلى الميقات تجرد من ثيابه، ولبس ملابس الإحرام المعروفة، التي ليس فيها مباهاة ولا غلو، وهذا التجرد يذكرنا بتجردنا بعد موتنا، سنترك يومها الملابس الغالية، والأموال الطائلة، والبيوت والقصور والسيارات ونحو ذلك، كما قال تعالى {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} (الأنعام:94)

5- غسل الإحرام:
وهو سنة من السنن، فبعد أن تجرد الحاج من ثيابه يغتسل غسل الإحرام، وهذا ما سيحدث لنا بعد موتنا أيضًا، يأتي المغسل ويقوم بتجريدنا من ملابسنا، ويشرع بعدها في تغسيلنا، وهذا الغسل لن نتولاه بأنفسنا كما كان حالانا، ولكن سيتولى غيرنا أمر تغسيلنا، وهو يقلبنا كما يريد، تارة على اليمين وأخرى على اليسار، ونحن ما أضعفنا بين يديه.

6- ارتداء ملابس الإحرام:
من المعلوم أن المحرم يُحرم فى إزار ورداء، ويستحب أن يكونا أبيضين، وذلك بعد الغسل والتطيب، وهذا ما سيكون بعد موتنا، فملابس الإحرام تشبه الكفن الذي سنكفن فيه، فبعد غسل الميت يقوم المغسل بتطيبه، والفرق حينئذ؛ أن الحاج يدعو ربه ويلبي، وأما الميت فلا يستطيع شيئًا على الإطلاق.

7- لبيك اللهم لبيك:
يهل الحاج: “لبيك اللهم لبيك؛ لبيك لا شريك لك لبيك؛ إن الحمد والنعمة لك والملك؛ لا شريك لك.
والمعنى: أى جئت يارب لك وحدك لأصلى لك وحدك وأطوف لك وحدك وأعبدك وحدك، فالتلبية هى شعار الحج وراية التوحيد التى يرفعها الحجاج طوال الحج، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَقُولُونَ: لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، قَالَ: فَيَقُولُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَيْلَكُمْ، قَدْ قَدْ»أى ويلكم ،أفردوه بالعبادة وقفوا عند لا شريك لك فَيَقُولُونَ: إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ، تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ، يَقُولُونَ هَذَا وَهُمْ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ
(رواه مسلم)

وعَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “أَتَانِي جِبْرِيلُ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ مُرْ أَصْحَابَكَ فَلْيَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّلْبِيَةِ فَإِنَّهَا من شعار الْحَج”. (رواه ابن ماجه وابن خزيمة في صحيحيهما والحاكم وقال صحيح الإسناد) وعن ابن عباس أن رجلًا كان مع النبي صلى الله عليه وسلم فوقصته ناقته وهو محرم فمات فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه ولا تمسوه بطيب ولا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا.(صحيح الترغيب والترهيب )، وعن سهل بن سعد الساعدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال “ما من ملب يلبي إلا لبى ما عن يمينه وشماله من حجر أو شجر أو مدر حتى تنقطع الأرض من هاهنا وهاهنا.(صحيح المشكاة ) فلابد أن نعمل دائما، ونلبي أوامر الله تعالى، وأن نستجيب له، وأن نعلم أنه لا راحة إلا في الجنة، وأن نحقق قول الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} (الأنفال:24).ففى كل موطن نقول بلسان حالنا ،لبيك اللهم لبيك.
8- بيت الله الحرام:
يشرع المحرم في التلبية منذ الإحرام و حتى يصل إلى بيت الله الحرام، فيطوف بالبيت، وهنا نتذكر كيف حول الله مكة من أرض جرداء لا ماء فيها ولا زرع، إلى مهوى للأفئدة، يأتى الناس إليها من كل فج عميق، ويأتيها رزقها رغدًا من كل مكان، نتذكر استجابة إبراهيم لأمر الله تعالى، وتسليم هاجر وانقيادها لذلك، كما قال تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام{رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} (إبراهيم:37). يستجيب إبراهيم ويستسلم لأمر الله تعالى.

و نتذكر يقين هاجر -عليها السلام- لما سألت زوجها: “أَاللَّهُ الَّذِي أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَتْ: إِذَنْ لا يُضَيِّعُنَا” (رواه البخاري).
ونتذكر صبرها على وحشة المكان وقلة الزاد، فلا جليس ولا ونيس، ظلمة بالليل ، ووحشة بالنهار، لكن هذا هو الأنس بالله تعالى والثقة فى وعده وحسن الظن به والتوكل عليه، وهذه من أهم وأعظم أعمال القلوب.
نتذكر هاجر يوم أخذت بالأسباب ساعية بين الصفا والمروة، حتى جاء الفرج من الله تعالى، ونبعت “زمزم” المباركة بقدرة مَن لا يُضيِّع أولياءه.
نتذكر بيت الله الحرام وهو على حاله قبل رفع القواعد، نتذكر إبراهيم عليه السلام-، وهو يرفع قواعد البيت يعاونه ابنه إسماعيل -عليه السلام- {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (البقرة:127).
وسبحان الله نحن نرى البيت الأن بهذة الصورة التى تحار فيها العقول.

ثم يقف الحاج أمام الحجر الأسود يقبله أو يستلمه أو يشير إليه، نتذكر يوم اختلفت العرب أي قبيلة تنال شرف رفعه إلى مكانه حتى جاء النبي -صلى الله عليه وسلم-، ووضع رداءه ووضع الحجر، وحملت كل قبيلة من طرف حتى وضعه النبي -صلى الله عليه وسلم- مكانه.
نتذكر أن الحجر شُرف بتقبيل النبي -صلى الله عليه وسلم- له، فقبلته الأمة من بعده، اتباعًا للنبي- صلى الله عليه وسلم-، وها هو عمر يقبله ويقول: “وَاللَّهِ إِنِّي لأُقَبِّلُكَ وَإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ وَأَنَّكَ لا تَضُرُّ وَلا تَنْفَعُ، وَلَوْلا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَبَّلَكَ؛ مَا قَبَّلْتُكَ” (متفق عليه).
ونتذكر كذلك أبرهة، فلقد قام أبرهة الحبشي حاكم اليمن ببناء كنيسة في صنعاء، وأراد أن يصرف الناس بها عن حجِّ بيت الله الحرام، وأراد أن يحوِّل صنعاء إلى عاصمة دينية يذهب الناس إليها، وبالفعل ذهب بجيشٍ جرارٍ كما نعلم جميعًا، ولكن أهلكه الله تبارك وتعالى بطير أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل، فجعلهم كعصف مأكول، ونزل قول الله تبارك وتعالى في حادث أبرهة:‏ ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ﴾ [سورة الفيل]، ولقد وقع هذا الحدث في عام (571 م)، وهو العام الذى وُلِد فيه النبي صلى الله عليه وسلم.
ونتذكر ونحن نرى ساحة المسجد الحرام، أنه فى هذا الموضع كان الصراع بين الحق والباطل، حين جهر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالدعوة؛ فأوذي في سبيل الله، وهو صابر محتسب، فهنا خنقه عقبة بن أبي معيط، وهنا وضع سلا الجزور على كتفيه وهو ساجد، وهنا عُذب بلال، و خبيب، و قتل ياسر وزوجته، فنعتبر ونقول سبحان الله العظيم.
ثم تتبدل الأحوال ويدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، مكة فاتحًا منتصرًا وحوله الصحابة من المهاجرين والأنصار بين يديه وخلفه وحوله، حتى دخل المسجد الحرام، فأقبل إلى الحجر الأسود فاستمله ثم طاف بالبيت وفي يده قوس، وحول البيت وعليه ثلاثمائة وستون صنمًا، دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَالأَصْنَامُ مَنْصُوبَةٌ حَوْلَ الْكَعْبَةِ فَجَعَلَ يَطْعَنُ بِسِيَةِ قَوْسِهِ فِي عُيُونِهَا وَوُجُوهِهَا وَيَقُولُ {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِل كَانَ زهوقاً} وها هي قريش قد ملأت المسجد صفوفًا ينتظرون ماذا يصنع؟ فقال: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده»، ثم قال: «يا معشر قريش؛ ما ترون أني فاعل بكم؟».
تخيل الآن ما حدث لرسول الله في مكة قبل ذلك، إيذاء بالقول والفعل، وسب وقذف، واتهامات متعددة بالسحر والجنون والكذب وغير ذلك، وحصار على مدى ثلاث سنوات في شعب أبي طالب حتى أكل الصحابة ورق الشجر من شدة الجوع، تذكر تشريد الصحابة وتعذيبهم بل وقتلهم في بعض الأحيان، وكانت النهاية أن خرج منها رسول الله يبكي والدموع تنهمر من عينيه ويقول: «والله لـولا أن أهلك أخـرجـونـي منك مــا خرجت».
ترى ماذا يفعل مع هؤلاء الآن؟ ماذا يفعل مع وحشي بن حرب الذي قتل أسد الله حمزة بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم ؟، ماذا يفعل مع هند بنت عتبة التي بقرت كبد حمزة ([2]) ، حتى قال ابن مسعود: ما رأينا رسول الله باكيًا قط أشد من بكائه على حمزة، وضعه في القبلة ثم وقف على جنازته وانتحب حتى نشج من البكاء. والنشج هو الشهيق.انظر إلى بحر الرحمة وينبوع الحنان والخلق العالي الرفيع.قال: «يا معشر قريش؛ ما ترون أني فاعل بكم؟» قالوا: خيرًا؛ أخٌ كريم وابن أخ كريم. قال: «فإني أقول لكم كما قال يوسف لإخوته: لا تثريب عليكم اليوم؛ اذهبوا فأنتم الطلقاء»
صفحات كثيرة برحلة الحج المباركة، تملأ القلب إيمانًا بالله -تعالى- وتصديقًا بوعده، ومحبة لرسوله -صلى الله عليه وسلم- وصحابته -رضي الله عنهم-.
9- الحج يذكر بيوم الحشر :
لا شك أن مسير الحجاج من منى إلى عرفات، ومن عرفات إلى مزدلفة، ثم إلى منى، وهم يسيرون في وقت واحد وفي اتجاه واحد، والكل قد تجرد من ملابسه الزاهية، لا شك أن هذا المشهد يذكرنا بمشهد يوم القيامة، فلقد شبه الله تعالى مسير الناس يوم القيامة بأنهم يسيرون وكأنهم يتجهون إلى علم أو راية، فقال سبحانه } يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ ٱلْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَىٰ نُصُبٍۢ يُوفِضُونَ}] قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: أي :يقومون من القبور إذا دعاهم الرب تبارك وتعالى لموقف الحساب ينهضون سراعاً كأنهم إلى نصب يوفضون، قال ابن عباس ومجاهد والضحاك :إلى علم يسعون ، وقال أبو العالية ويحيى بن كثير :إلى غاية يسعون إليها.

يتوجّه الحجاج إلى بيت الله الحرام وهم مُحْرِمُون، قد تجردوا من متاع الدنيا التي أَلِفُوها ، فيتذكّرون يوم المحشر، يوم موقفهم أمام الله عز وجل، وقد فقدوا المناصب التي كانوا يعتلونها في الدنيا ، فلا رئاسة ولا وزارة ولا إمارة ولا خدم ولا أعوانَ، ثم هم يقفون في عرفات بكل اللغات واللهجات، في زي واحد، وصعيد واحد، وشعار واحد، وزمان واحد، وطلبهم واحد ،يطلبون من الله المغفرة.
إنه مشهد مهيب؛ يذكر بطواف الناس على الأنبياء يوم القيامة يطلبون منهم الشفاعة، فيذهبون إلى آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى، فجميعهم يعتذر، ثم يأتون محمدًا صلى الله عليه وسلم، فَيَقُولُونَ: يَا مُحَمَّدُ أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ وَخَاتِمُ الأَنْبِيَاءِ، وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلاَ تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ فَأَنْطَلِقُ فَآتِي تَحْتَ العَرْشِ، فَأَقَعُ سَاجِدًا لِرَبِّي عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ مَحَامِدِهِ وَحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ شَيْئًا، لَمْ يَفْتَحْهُ عَلَى أَحَدٍ قَبْلِي، ثُمَّ يُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ سَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ فَأَرْفَعُ رَأْسِي، فَأَقُولُ: أُمَّتِي يَا رَبِّ، أُمَّتِي يَا رَبِّ، أُمَّتِي يَا رَبِّ، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ أَدْخِلْ مِنْ أُمَّتِكَ مَنْ لاَ حِسَابَ عَلَيْهِمْ مِنَ البَابِ الأَيْمَنِ مِنْ أَبْوَابِ الجَنَّةِ،..الحد يث.
10-التربية و الاستسلام والخضوع والانقياد:
لو تدبرنا أمر الحجيج وهم يؤدون مناسك الحج، نراهم يتحركون ككتائب تؤدي ما عليها من تعليمات وأوامر، فيتحركون جميعًا في موعد واحد، ويتمركزن جميعًا في مكان واحد، ولا يستطيعون المخالفة، فاليوم فى منى وغدًا فى عرفات، وعند غروب الشمس لا يصلون المغرب في عرفة، ولكن يٌصلون جميعًا المغرب والعشاء في المشعر الحرام، ثم ينامون، وفى الصباح يتحركون إلى منى ويرمون الجمرات، ويذبحون ويحلقون، ثم يذهبون الى الحرم لطواف الإفاضة والتتحلل ثم العودة الى منى مرة أخرى للمبيت بها، ولا يستطيع الحاج أن يخالف الأوامر والتعليمات ويخشى لو خالف أو شك فى أمر من الأمور، ويسأل هذا وذاك، خوفا من أن يكون خالف التعلميات ،وفى ليلة المزدلفة، تنظر الى مشهد الحجيج وتقول سبحان الله!!؛ المرأة العجوز والرجل الكبير والطفل الرضيع، الكل يفترش الأرض ويلتحف السماء، لا مخيمات ولا تكييفات، ما الذى أجبرهم على ذلك ؟ إنها العبودية، يفعلون ذلك بكل حب، ويتقربون بذلك إلى الله تعالى، حبًا وانقيادًا وخضوعًا.

ويظهر هذا المعنى أيضُا في التقرب إلى الله بالهدي، فإذا نحر المتمتع والقارن هديه، نتذكر ابتلاء إبراهيم -عليه السلام- في ولده وكيف استسلم لأمر ربه وكيف استسلم ابنه؟! (فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) (الصافات:103).
11- عالمية الإسلام:
لا شك أن الحج يجتمع فيه وحدة الزمان {الحج أشهر معلومات} ووحدة المكان (البيت الحرام)، ووحدة الشعائر والمناسك {وليطوفوا بالبيت العتيق}، بل ووحدة المشاعر والعواطف، إنها رسالة الإسلام الخالدة، تتجلى في أزهى صورها في مشهد يوم عرفة، والحجيج واقفون في عرفات بكل اللغات واللهجات والثقافات والمذاهب، وقد اجتمعوا على أمر واحد، بلباس واحد، يعبدون ربًا واحدًا، ويؤمنون بني الرحمة صلى الله عليه وسلم.

12- السكينة السكينة:
لَقَدْ بَيَّنَتِ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَةُ كَيْفِيَّةَ إِفَاضَتِهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ عَرَفَاتٍ، فَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ عِنْدَ مُسْلِمٍ: «فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ وَذَهَبَتِ الصُّفْرَةُ قَلِيلًا حَتَّى غَابَ الْقُرْصُ، وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ خَلْفَهُ، وَدَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ شَنَقَ لِلْقَصْوَاءِ الزِّمَامَ، حَتَّى إِنَّ رَأْسَهَا لَيُصِيبُ مَوْرِكَ رَحْلِهِ، وَيَقُولُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى:» أَيُّهَا النَّاسُ، السَّكِينَةَ السَّكِينَةَ «،، يَعْنِي أَنَّهُ يَكُفُّهَا بِزِمَامِهَا عَنْ شِدَّةِ الْمَشْيِ وَيَقُولُ بِيَدِهِ السَّكِينَةَ السَّكِينَةَ؛ أَيْ: يَأْمُرُهُمْ بِالسَّكِينَةِ حَتَّى جَاءَ الْمُزْدَلِفَةَ ، وَجَمَعَ بَيْنَ الصَّلاتَيْنِ، ثُمَّ وَقَفَ بِالْمُزْدَلِفَ ةِ، فَوَقَفَ عَلَى قُزَحَ، وَأَرْدَفَ الْفَضْلَ بْنَ عَبَّاسٍ، وَقَالَ: “هَذَا الْمَوْقِفُ، وَكُلُّ الْمُزْدَلِفَةِ مَوْقِفٌ” ثُمَّ دَفَعَ وَجَعَلَ يَسِيرُ الْعَنَقَ، وَالنَّاسُ يَضْرِبُونَ يَمِينًا وَشِمَالًا، وَهُوَ يَلْتَفِتُ وَيَقُولُ: “السَّكِينَةَ السَّكِينَةَ أَيُّهَا النَّاس”أي الزموا السكينة يعني لا تسرعوا ولا تعجلوا، وقد جاء في حديث أخرجه البخارى “فإن البر ليس بالإيضاع” يعني ليس بالسرعة.


وَالسَّكِينَةُ: هى الرِّفْقُ وَالطُّمَأْنِين َةُ، و السكون والوقار، وقيل: هى الرحمة، وقيل: هى النصر، وقيل: هى ما يسكن به الإنسان وهذا هو المطلوب، السكينة والرفق، لا العجلة، فمن الصفات التي يحبها الشيطان العجلة؛ لأنها توقع الإنسان في كثير من الأخطاء، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (التأني من الرحمن والعجلة من الشيطان) .( رواه البيهقي في شعب الإيمان بإسناد حسن) فعلينا أن نخالف الشيطان في ذلك، ونتبع ما يرضي الرحمن، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس: (إن فيك لخصلتين يحبهما الله؛ الحلم والأناة) (رواه مسلم) ( والعجلة هى فعل الشىء قبل وقته اللائق به )وكانت العرب تكنى العجلة (أم الندامات).
وهكذا تمضي الرحلة وفيها من الدروس والعبر ما يملأ القلب إيمانًا ويقينًا؛ كانت هذة بعض الوقفات السريعة والمُلح الجليلة والدروس العظيمة، حول رحلة الحج.
نسأل الله أن ييسر الأمر لحجاج بيته الحرام وأن يجعل حجهم مبرورًا، وسعيهم مشكورًا، وذنبهم مغفورًا،وأن يردهم إلى أوطانهم سالمين غانمين، ولا ننسى قول النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فى تبوك «لَقَدْ تَرَكْتُمْ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا ما سرتم من مسير وَلَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ وَلَا قَطَعْتُمْ مِنْ واد إلا وهم معكم فيه» ، قالوا: وكيف يكونون معنا فيه يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «نَعَمْ حَبَسَهُمُ الْعُذْرُ»

يَا رَاحِلِينَ إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ لَقَدْ … سِرْتُمْ جُسُومًا وَسِرْنَا نَحْنُ أَرْوَاحَا
إنَّا أَقَمْنَا عَلَى عُذْرٍ وَعَنْ قَدَرٍ … وَمَنْ أَقَامَ عَلَى عُذْرٍ فَقَدْ رَاحَا

([1]) الملح جمع مٌلحة وهو ما يستملح ويستعذب.
([2]) اختلف العلماء في ثبوت تلك القصة، وعلى أي حال فإذا قلنا إن القصة صحيحة فلا يخفى أن هندا ـ رضي الله عنها ـ قد أسلمت وحسن إسلامها، والإسلام يجب ما قبله.