هل ترك النبي صلى الله عليه وسلم لصيام العشر من ذي الحجة يعني عدم مشروعية صيامها؟
بحمد الله صيام عشر ذي الحجة لا إشكال فيه، وفيها نوعان من الأدلة, دليل عام، ودليل خاص لا يسلم من منازعة لكنها لا تسقطه، فالدليل العام ما جاء في سنن أبي داود وغيره واللفظ له كِتَاب الصَّوْمِ >> بَابٌ فِي صَوْمِ الْعَشْرِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ " يَعْنِي أَيَّامَ الْعَشْرِ ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؟ قَالَ : " وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ ، فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ " قال العلماء, العمل الصالح جنس يندرج تحته الأعمال الصالحة جميعها، ومما يدل على عدم استثناء الصيام منها سؤال الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم وجوابه لهم، فلو كان في الصيام شيء لبينه النبي صلى الله عليه وسلم، ولو أن الصحابة غفلوا عن السؤال لما تأخر النبي صلى الله عليه وسلم في البيان، ومن القواعد المعروفة أن تأخير البيان عن وقت الحاجة محظور شرعا، وملخص ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستثن من الأعمال الصالحة كما في الحديث إلا صورة واحدة من صور الجهاد في سبيل الله هي أفضل من العمل الصالح في هذه العشر، وهي صورة من خرج بماله ونفسه، أنفق ماله في الجهاد في سبيل الله، واستشهد.
وأما الدليل الخاص فحديث هنيدة بن خالد عن أم المؤمنين حفصة رضي الله عنها، أو عن هنيدة عن امرأته أو أمه عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وفي بعض الروايات التصريح بما أبهم في قوله, "بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم"، بأنها أم سلمة رضي الله عنها، وفيه الإخبار أن من الخصال التي لم يكن يدعها رسول الله صلى الله عليه وسلم صيام عشر ذي الحجة، يعارضه حديث عائشة رضي الله عنها الذي رواه مسلم وغيره واللفظ لمسلم بَابُ صَوْمِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ حيث قالت: " " مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَائِمًا فِي الْعَشْرِ قَطُّ ""، ولفظ أبي داود, " " مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَائِمًا الْعَشْرَ قَطُّ "، ولفظ ابن ماجه, " " مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَامَ الْعَشْرَ قَطُّ ""، وفي لفظ لأحمد, " " مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَائِمًا أَيَّامَ الْعَشْرِ قَطُّ "، وفي لفظ للنسائي, {لَمْ يَصُمِ الْعَشْرَ قَطُّ "، فتحصل من هذا أن روايات ألفاظ الحديث على ثلاثة أضرب, ضرب فيه نفي الصيام مطلقا, "لم يصم العشر قط"، وضرب فيه نفي رؤية أم المؤمنين لصيام النبي صلى الله عليه وسلم العشر كلها, أي: يسردها سردا، هذا احتمال، والاحتمال الآخر موافق لمعنى الضرب الأول، أي: لم يصم العشر مطلقا، فاحتمل هذا الضرب لسياق لفظ الحديث معنيان، "ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم صائما العشر قط"، أو, "صام العشر قط"، لكن هذا السياق اللفظي باحتماله المعنيين الحكم معلق بنفي رؤية أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لذلك، ومعلوم أنه كان يتردد على أهل بيته صلوات ربي وسلامه عليه ولكنه لا يبيت إلا عند من كانت الليلة ليلتها، وقد كانت عائشة رضي الله عنها لها ليلة من تسع ثم صار لها ليلتان، ولحفصة او أم سلمة ليلة ليلة من تسع، الضرب الثالث لسياق لفظ حديث عائشة رضي الله عنها, "ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم صائما في العشر قط}، بإضافة حرف الجر (في) المفيد للظرفية، وهو يقيد الضرب الثاني بحيث ينفي أي صيام في العشر، فهل يمكن الجمع، أو يلجأ إلى الترجيح؟
ولا شك أن عقولنا القاصرة التي ترى أقرب من موضع خطواتنا سترى في هذا تناقضا، وستقف عند هذا التناقض الظاهري مكتوفة الأفكار يكتنفها الشك والريب، فالحكاية عن شخص واحد هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، والراويان عنه أقرب الناس إليه إن ثبت الخبر إليهما، واحد يثبت، والآخر ينفي، فكيف سيحل هذا اللغز؟
يقول الله عز وجل: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا}، فهل سنقتدي بالمثبت أو النافي، وهل ثبت الخبران عن المثبت أو النافي؟ وهل هناك ما يقطع عن العقول الحيرة؟ولذا فينبغي توجيه رسالة مهمة للعقل القاصر أن علم الحديث ليس علما جزافيا، ولا دراسته من فضول القول أو العمل، بل هو صرح شامخ بني بتوفيق الله عز وجل الذي قال: {وإنزلنا إليك الذكر}،، أي القرآن، {لتبين للناس ما نزل إليهم}، فهناك أمر نازل تعهد الله عز وجل بحفظه: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}، والذكر يحتاج إلى تبيان، {لتبين للناس ما نزل إليهم}، وحفظ الذكر دون حفظ تبيانه عبث ينزه الله العليم الحكيم عنه، كيف وهو القائل: {هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليه آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة}، والأصل في المتعاطفين أنهما مختلفان, كتاب، وحكمة، وقد أخبر الله عن نبيه صلى الله عليه وسلم فقال: {وما ينطق عن الهوى}، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: {ألا أني أوتيت القرآن ومثله معه}، ولئن كان القرآن الكريم حفظ وكتب في وقت مبكر للإسلام، فقد قيض الله للأحاديث من خدموها من العصر الأول، وإن كان ليس على الدرجة التي نالها القرآن، ولا يعني ذلك هشاشة القواعد والقوانين التي هي لحفظ السنة بل يكفي في بيان قوتها اجتماع القرون الكثيرة التي يستحيل تواطؤها على الغش والخداع على هذه القواعد والقوانين، وبذلك شهد بعض المستشرقين المنصفين حيث يقول: فليفخر المسلمون بعلم حديثهم، أو عبارة نحوا من هذا.
المهم هنا كيف سيخدمنا علم الحديث في مسألة صيام العشر، بعد دراسة العلماء للمرويات سندا ومتنا للخروج بكيفية الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في صيام العشر تقرر لديهم من القواعد الحديثية أجوبة تفصيلية، وجواب مجمل يكفي كل مسلم، فأما الأجوبة التفصيلية فكانت حول الخلافيات في سند الحديثين ومتنهما، أيهما أصح سندا، ولئن صحا سندا فأيهما يقدم، وأي الألفاظ هو المقدم؟ وتلخص من هذه الأجوبة الجواب المختصر الذي يكفي غير المتخصصين، وهو على النحو الآتي: ثبت بلا نزاع أفضلية صيام عرفة وهو من الأيام التسع أو العشر من قول النبي صلى الله عليه وسلم فنحن متأكدون بثبوت هذا من قوله، وقوله يكفينا ولو لم نعلم من فعله صيام، فأفضلية الصيام في بعض العشر ثابتة بالسنة القولية للنبي صلى الله عليه وسلم وفي هذا تقييد للنفي الذي ثبت عن عائشة رضي الله عنها، وهذا ينسجم مع عموم السنة اللفظية لحديث ابن عباس رضي الله عنه المتقدم في افضلية جنس العمل الصالح في هذه العشر إلا صورة واحدة للجهاد في سبيل الله, {إلا من خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء}، وعليه فيحمل نفي عائشة رضي الله عنها على ترك الفعل، ولا تلازم بين ترك الفعل وبين عدم المشروعية هنا، لثبوت السنة القولية، ولعلة قد تقاس على تركه لصلاة التراويح جماعة, وهي خشية الفرضية أو الوجوب، عن أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : " أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ ، فَحُجُّوا " ، فَقَالَ رَجُلٌ : أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَسَكَتَ حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَوْ قُلْتُ : نَعَمْ لَوَجَبَتْ ، وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ " ، ثُمَّ قَالَ : " ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِم ْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ ، فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ . والشاهد, {ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ}، وعليه, فالصيام في هذه العشر ثابت بالعموم المستفاد من الحض على العمل الصالح، وثابت بالسنة القولية في النص على أفضلية صيام عرفة وهو أحد الأيام العشر، ونفي عائشة رضي الله عنها يكون نفيا لوقوع فعل لا يلزم منه عدم المشروعية بما سبق بيانه، ويكون حديث بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إن ثبت نصا صريحا في سرد صيام التسع والمواظبة على ذلك، وإن لم يثبت فالصيام في العشر ثابت في الجملة على الاستحباب، وإنما يفيد حديث بعض أزوتاج النبي صلى الله عليه وسلم رفع درجة الاستحباب إلى السنية المؤكدة لو ثبت، يبقى التعارض بين أم سلمة وحفصة أو بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وبين عائشة رضي الله عنها، وهو تعارض كما مر بك لا يلغي أصل مشروعية الصيام في العشر أو استحبابه، سواء أكان لبعض العشر أم كان لها كلها دون يوم النحر، ومهما كانت قوة الوجوه في الجمع أو الترجيح فلا تؤثر في أصل المسألة، ومن هذه الوجوه, أن المثبت لشيء تكون عنده زيادة علم فيقدم المثبت على النافي، وقد يكون اتفق مرور النبي صلى الله عليه وسلم معلى من أثبتت وهو صائم، وعلى من نفت وهو مفطر، وهذا قد يبعد مع تكرر موسم العشر لما يقرب من تسع سنوات في الهجرة، ومع تفقد النبي صلى الله عليه وسلم لأهل بشكل يومي، والمهم ثبوت أصل المشروعية والاستحباب بحمد الله، وذلك من فضل الله على الأمة، والحمد لله رب العالمين.