لماذا نفترق قبل الأجل؟!









كتبه/ غريب أبو الحسن


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

- تُنسَج العلاقاتُ الوطيدة على مهل، وتنمو وتترعرع مع طول العشرة، وللعلاقات الوطيدة العديد من الأسباب، فهناك علاقات الدم، مثل: الأمومة والأبوة والأخوة، وهناك علاقات النسب مثل الزواج، وهناك علاقات بالرضاعة، وهناك علاقات الجيرة، والتي تكون في بعض الأحيان أوثق وأمتن مِن علاقات بعض القربي، وهناك علاقة الصداقة والتي أيضًا تختلف عن علاقات الزمالة في العمل أو الدراسة، فقد عرف البعض الصديق بأنه هو "الصاحب صادق الود"، وكذلك هو قريب الصفات، أليف الروح، صاحب السر، الناصح الأمين.

- وللعلاقات الوطيدة ميزة عن العلاقات العابرة أو السطحية في أنها: تزيد فيها الحقوق والواجبات؛ فهذه العلاقات تفتح بابًا كبيرًا من المحبة والحرص، والتفقد والرعاية، والمسارعة في مدِّ يد العون والمواساة.

- وستجد أن هذه العلاقات حَثَّ الشرعُ على الحرص عليها، والقيام بواجباتها؛ فأولى الناس ببرك هي أمك، وأنت ومالك ملك لأبيك، والخالة والدة، وأنت مأمور بصلة رحمك على أي حال، وجعل الله ثواب صلة الرحم: سعة الرزق وطول العمر بتقدير الله لذلك سبحانه وتعالى، وللجار حق على المسلم ثابت بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

- وحذَّرت الشريعة من التجاوز في حق أصحاب هذه العلاقات الوطيدة، فحذَّر الشرع من قطيعة الرحم، وجعل الرحم تدعو الله أن يصل مَن وصلها، وأن يقطع مَن قطعها، وقال صلى الله عليه وسلم: "والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن مَن لم يأمن جاره بوائقه".

- ومن عجائب العلاقات الوطيدة: علاقة الحب في الله والتآخي في الله؛ وذلك أن علاقة الحب في الله والتآخي في الله لا تتطلب طول الزمن، ولا كثرة المعاشرة، ولا قُرب المنزل، ولا صلة الدم لتصير وطيدة، بل يكفي فيها أن يكون الحب في الله وأن يكون الالتقاء فيها لله، وأن تكون قائمة على طاعة الله والتعاون على البر والتقوى، فمثل هذه العلاقات تطوي الزمن، وتتجاوز حدود المكان، وربما صارت أقوى من علاقات الدم والمصاهرة، وربما خص الأخ أخاه بالسر الذي يحجبه عن أمه وأبيه، وربما اقتسم الأخ ماله مع أخيه في الله، وربما اقتسم داره معه وتأمل في مؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، وكيف كان الرجل يعرض على أخيه بيته وماله، وغير ذلك.

- فإذا وافق علاقات الأخوة طول العشرة، وكثرة الخلطة في الطاعة؛ ازدادت علاقة الأخوة نموًّا وازدهارًا، فتجد تقارب الأفكار وسرعة التفاهم، وتماثل المفردات، فتجد المتآخين يلتقون بأفكارهم بأسرع طريق، وربما فهم الأخ أخاه قبل أن يتكلم، فتغني الكلمة الواحدة عن الخطب الطوال والشرح المفصَّل.

- ثم يبني بينهم جسرًا متينًا من حسن الظن يجعل كل أخ يحمل كلام أخية على أفضل محمل؛ مما يوفر جهدًا كبيرًا يهدر في غيرها من العلاقات في توضيح مقصود الكلام، وتبرير الألفاظ والكلمات، وتفسير المواقف.

- ثم توجد معاني البر والإحسان والوقوف إلى جانب بعض في لحظات الشدة والضيق، وظهور معاني الإيثار، ولو بهم خصاصة، والسعي لتفريج الكربات وإقالة العثرات.

- ثم التفقد في الغياب والنصيحة عند الخطأ، والتحفيز عند الكسل، والأخذ باليد عند التعثر، ثم يكون اهتمام الأخ بأخيه عند غيابه، فيكون معنى هو مِن أجلِّ هذه المعاني، وهو الدعاء للأخ بظهر الغيب، وهو مِن أرجى الدعاء للقبول، ومِن أنقى صور الحب.

- ولكن قد تحدث من العوارض التي قد تفسد هذه المحبة، وتفرِّق بين المجتمعين، وتتنافر تلك القلوب إن لم ينتبه المتحابان لذلك؛ فدخول الدنيا والتنافس عليها وما يتبعها من الغيبة والنميمة، ثم تسرُّب سوء الظن بين المتحابين والاستجابة لتحريش الشيطان بين المسلمين، ثم تكون هذه الذنوب سببًا للتفريق بين المتحابين، فما تحاب رجلان في الله وفُرِّق بينهما؛ إلا بالذنب يصيبه أحدهما!

- ولا أدري كيف لعاقل أن يفرط في مثل هذه العلاقات التي هي مِن أكبر العون للعبد على سيره نحو الآخرة، وكيف لعاقل أن يفرِّط في مثل هذه العلاقات، وهي التي لا تتكرر كثيرًا؛ أقصد الوطيدة منها، فليس كل يوم نجد مَن يشبهنا، وليس كل يوم نجد مَن تألفه روحنا، وليس كل يوم نجد مَن تتلاقى أفكاره معنا، وليس كل يوم نجد مَن تتكامل مهاراته معنا، فيسد عندنا فاقة، ونسد عنده فاقة.

- تلك العلاقات أولى بأن تحوطها بسياج من الحماية والرعاية، وإن تعرضت لآفة حري بك أن تقاتل لكي تستعيدها، فالأخ الحق هو الذي يسارع في قبول العذر لحرصه على استعادة الألفة والود، والأخ الحق هو مَن يتغاضى عن الخطأ، ويتغافل عنه، ويذكر سابق الإحسان فيتصاغر في نظره الخطأ، والأخ الحق هو الذي يحسن الظن ولا يترك فرجة للشيطان ينفذ منها، والأخ الحق هو الذي لا يقبل وشاية الأشرار، ولا تحريش الشياطين بين المسلمين، فتمسكوا بأحبابكم، وترفقوا بهم، ولا تتعجلوا فراق قد قضاه الله بينكم وبين مَن تحبون.

يا صديقي يا صديقي ما العمل

هل تراني حل بي خطب جلل

كم تغير من خليلٍ ورفيق

وجفاني من أسلت له المُقل

وتناءى الصحب من بعد اللقا

وتفرَّط ما عقدنا من أمل

وتبعثر ما جمعنا من شتات

وتهدم جسرنا والود قَلْ

هل ترى ما ضمنا من عشرة

كان فيئًا من ظلالٍ فاضمحل

أم ترى كانت مواعدنا سراب

ظنه الظمآن ماء لم يُنل

ما نسيت ودنا وقت الصفا

لست من أفلت يديه واستقل

لست من يمضي ولم يعبأ بمن

آنس الروح زمانًا وأطل

إن دنيانا نهايتها فراق

فلماذا نفترق قبل الأجل

ولماذا نفترق بين الدروب

مَن يسافر واحدًا سوف يمل

فاقترب مني ودع عنك الذي

أفسد الود وهبني لم أقل

وتذكر كم تصدينا الصعاب

كان ظهري خلف ظهرك لم يكل


وأعقد الحب على أوثق عرى

في الله كان حبنا ولم يزل

منبر النور من الله العظيم

يجمع الصحب إذا حسن العمل