رسوخ المحبة









كتبه/ ياسر عبد التواب


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فمتى رسخت المحبة الحقيقية وعمقت جذورها، كان الله هو الغاية، وآثره المرء على كل شيء، وضحى من أجله بكل شيء؛ لأنه يجد من حلاوة الإيمان، ولذة اليقين، وحسن الصلة بالله ما تصغر، بل تحقر جميع اللذائذ في جانبها.

روى البخاري ومسلم عن أنس -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لاَ يُحِبُّهُ إِلاَّ لِلَّهِ وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ أَنْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ).

فإذا رسخ الإيمان في القلب وتحقق به وجدت حلاوته وطعمه، والمؤمن يحب الإيمان أشد من أن يحب الماء البارد على الظمأ، والخروج منه عنده أشد من التحريق بالنيران, وحلاوة الإيمان لا تخرج من القلب إذا دخلت فيه.

قال ابن القيم -رحمه الله-: "فإن للإيمان فرحة ولذة في القلب، فمن لم يجدها فهو فاقد الإيمان أو ناقصه، وهو من القسم الذين قال الله -عز وجل- فيهم: (قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ) (الحجرات:14).

فالكفار، والذين أضاعوا دين الله وتاهوا في لذاتهم وترفهم، فهم وإن بنوا القصور وشيدوها وازدهرت لهم الدنيا؛ فإنهم في الحقيقة في جحيم، حتى قال بعض السلف: "لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف".

أما المؤمنون فقد نعموا بمناجاة الله وذكره، وكانوا مع قضاء الله وقدره، فإن أصابتهم الضراء صبروا، وإن أصابتهم السراء شكروا، فكانوا في أنعم ما يكون، بخلاف أصحاب الدنيا فإنهم كما وصفهم الله بقوله: (فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ) (التوبة:58).

قال عبد الله بن وهب -رحمه الله-: "كل ملذوذ إنما له لذة واحدة إلا العبادة فإن لها ثلاث لذات إذا كنت فيها وإذا تذكرتها وإذا أعطيت أجرها".

وهذا من علامة صحة النفس، وسلامة القلب، فإنه لا كمال لإنسان إلا بمعرفة جمال الله وجلاله، واستشعار بره وإحسانه، ورؤية آلائه ونعمائه، وشهود رحمته وحكمته.

قال -تعالى-: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ) (البقرة:165)، فهؤلاء أهل الشرك أحبوا أولياءهم وبذلوا لهم، وأهل الإيمان أحبوا الله تعالى وأخلصوا له، لكن محبة المؤمنين فاقت محبة الكافرين؛ لأنها محبة بنيت على حقائق لا على أوهام وترهات؛ فنالت البركات والخيرات، واستحق أهلها ذلك المدح العظيم.