يقول ابن القيم : «هي نور يقذفه الله في القلب، يفرق
به بين الحق والباطل، والصادق والكاذب،..

نور يقذفه الله في القلب، يرى به حقيقة ما أخبرت به الرسل كأنه يشاهده رأي عين،
فيتحقق مع ذلك انتفاعه بما دعت إليه الرسل وتضرره بمخالفتهم،

ويقول ابن القيم: قوله تعالى [واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار] «أي البصائر في دين الله عز وجل،
فبالبصائر يدرك الحق ويعرف،
وبالقوة يتمكن من تبليغه وتنفيذه والدعوة إليه،
فهذه الطبقة كان لها قوة الحفظ والفهم في الدين والبصر بالتأويل،

ففجرت من النصوص أنهار العلوم، واستنبطت منها كنوزها،
ورزقت فيها فهما خاصا،
كما قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -
وقد سئل: هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء دون الناس؟
فقال:» لا، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة!
إلا فهما يؤتيه الله عبدا في كتابه «. فهذا الفهم هو بمنزلة الكلأ والعشب الكثير الذي أنبتته الأرض»
درجات البصيرة:
قال ابن القيم - البصيرة ثلاث درجات:
1 - البصيرة في الأسماء والصفات: وهي أن لا يتأثر إيمانك بشبهة
تعارض ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، بل تكون
الشبه المعارضة لذلك عندك بمنزلة الشبه والشكوك في وجود الله، فكلاهما سواء في البلاء عند أهل البصائر.
2 - البصيرة في الأمر والنهي: وهي تجريده عن المعارضة بتأويل أو تقليد
أو هوى، فلا يقوم بقلبه شبهة تعارض العلم بأمر الله ونهيه، ولا شهوة تمنع من
تنفيذه وامتثاله والأخذ به، ولا تقليد يريحه عن بذل الجهد في تلقي الأحكام من
مشكاة النصوص.
3 - البصيرة في الوعد والوعيد: وهي أن تشهد قيام الله على كل نفس بما
كسبت في الخير والشر عاجلا وآجلا في دار العمل ودار الجزاء، وأن ذلك هو
موجب إلهيته وربوبيته وعدله وحكمته، فإن الشك في ذلك شك في إلهيته وربوبيته
بل شك في وجوده، فإنه يستحيل عليه خلاف ذلك، ولا يليق أن ينسب إليه
تعطيل الخليقة وإرسالها هملا وتركها سدى، تعالى الله عن هذا الحسبان علوا كبيرا
******

فصاحب البصيرة قد بلغ من المعرفة العقلية، والنظر الفكري، والحكمة الثاقبة حداً يصل إلى درجة المشاهد المحسوس
فالبصيرة تدل على المعرفة الراسخة التي تؤدي إلى التمييز بين الحق والباطل، والصواب والخطأ، والرشاد والغي
و البصيرة في الدين التي من عرفها ورزقها وذاقها فإنه يسير في حياته على هدى من ربه، لا تختلط عليه الأمور، ولا تتشابه، يعرف الحق، أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
بعض الناس لا يرى الحق حقاً ولا يرى الباطل باطلاً، ولا يرى المعروف معروفاً، ولا يرى المنكر منكراً؛ لأن بصيرته قد طمست فيرى الحرام حلالاً، والحلال حراماً، والمنكر معروفاً، وهكذا يرى الحق باطلاًً والباطل حقاً، قد انعكست فطرته، وانطمست بصيرته،
والله خلق خلقه في ظلمة، فألقى عليهم من نوره، فمن أصابه من ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه ضل.
***********

البصيرة للقلب بمنزلة البصر للعين، يبصر بها المعلومات، والحقائق كما هي، فهي عين القلب، كما أن البصر عين البدن. وأمّا منزلتها في الدين فإن كمال الإنسان يرجع إلى أصلين اثنين:
الأول: هو معرفة الحق الذي جاء به الرسول ﷺ
والثاني: هو العمل بهذا الحق، والناس إنما ينسفِلون، ويهبطون إما بسبب جهلهم بالحق، وإما بسبب ترك العمل به.وبهذا تتفاوت مراتبهم، ودرجاتهم في الدنيا، والآخرة.
فالبصيرة: هي الأمر الكاشف الذي يعرف الإنسان به ربه - تبارك، وتعالى - معرفةً صحيحة، ويعرف به الطريق الموصل إليه، وهو ما شرعه على ألسُن رسلهِ - عليهم الصلاة، والسلام - وبه يعرف الدار التي يصير الناس إليها

و الأمور التي تنجلي معها البصيرة في نفوسنا، وقلوبنا، فنكون من أصحاب البصائر؟
الإيمان:
فالإيمان هو الذي يفتح القلب، فيستنير، وتستنير البصيرة، فينتفع ببصره، وينتفع بسمعه، وينتفع بحواسه، وتستجيب فطرته، ويكون الإنسان في حال من التأثر، والاعتبار، والانتفاع بكل ما يشاهده.
بخلاف أصحاب البصائر المطموسة، الذين يمرون على هذه الآيات، وقد انتكست فطرهم فلا ينتفعون بشيء من ذلك، ولا يتأثرون به.
تقوى الله تبارك، وتعالى والله يقول:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا
فهذا الفرقان هو البصيرة التي يفرق الإنسان بها بين الحق، والباطل، وبين معدن الحق، ومعدن الشبهات.
هداية الله للعبد، وتوفيقه:
فالعبد بحاجة إلى أن يسأل ربه دائماً أن يرزقه بصيرةً في الدين، وأن يهدي قلبه، وذلك لا يحصل إلا بمنّ الله وكرمه، وهدايته، وتوفيقه لعبده.
فالعبد بحاجة إلى أن يسأل ربه دائماً: "اللهم رب جبرائيل، وميكائيل، وإسرافيل، فاطر السموات، والأرض، عالم الغيب، والشهادة، اهدني لما اختُلف فيه من الحق بإذنك، فإنك تهدي من تشاء إلى صراطٍ مستقيم".
فيكثر من هذا السؤال، والدعاء، والتضرع.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "ربما طالعت على الآية الواحدة نحو مائة تفسير، ثم أسأل الله الفهم، وأقول: يا معلم آدم، وإبراهيم علمني،، وأقول: يا معلم إبراهيم فهمني"
- الإخلاص سببٌ للخلاص من الفتن بأنواعها، فتن الشبهات، وفتن الشهوات.
قال الله - تبارك، وتعالى -: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ
وفي قراءة متواترة: (إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلِصِينَ).

**************
أمور تضعف البصيرة:

: الكفر بالله - تبارك، وتعالى - :
فهو يطمسها بالكلية فتظلم بصيرته، والله ضرب المثل لهذا بقوله: أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُور
فالكفر ظلمة منقطعة عن نور الله وضلال، لا يرى فيه القلب أقرب علامات الهدى، فهذه بلية، ومصيبة إذا بُلي العبد بها فإنه لا يبصر الطريق إلى الحق بحال من الأحوال.
النفاق:
فزرع النفاق ينبت على ساقيتين، كما ذكر الحافظ ابن القيم - رحمه الله:
الأولى: الكذب، والثانية الرياء، ومخرجهما من عينين - يعني: أن هاتين الساقيتين تخرجان من عينين - الأولى: ضعف البصيرة، والثانية: ضعف العزيمة، فضعف البصيرة يجعل هذا الإنسان يقبل على ما يضره، يرائي الناس، فيضيّع أعماله، ويضيع نصيبه عند الله، ولا يزيده ذلك في قلوب الخلق إلا مقتاً، ولا يزيده من الله - تبارك، وتعالى - إلا بعداً، وهو لا يشعر.
وهكذا حينما تضعف بصيرته فإن عزيمته تكون ضعيفة خامدة، فإذا تمت هذه الأركان الأربعة استحكم نباتُ النفاق، وبنيانه، والله قال عن المنافقين: يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ
اتباع هوى النفوس:
وإذا غلبت نفسه عقله عميت بصيرته، ولم يفرق بين الحسن، والقبيح، وعظم عليه الالتباس، وتردى في هوّة الردى، ومهواة الهلكة،
يقول ابن القيم: فزوبعة الهوى إذا ثارت سفت في عين البصيرة، فخفيت الجادة.
التعصب للباطل،
فإن المتعصب للباطل لربما يكون ذلك سبباً لصرفه عن الحق، وإعراضه عنه، فيكون مشوهاً في عينه، ويكون أرباب الحق في حالٍ من التشويه في نظره، ومقاييسه، ومعاييره، ويكون الباطل في نظره مبررًا، ويُزيَّن له سوء عمله، ويرى أولئك الذين يمثلون الباطل الذي هو من قبيل البدع، والأهواء التي تعود إلى الشبهات، يرى أن هؤلاء على الحق فيدافع عنهم، ويلتمس لهم المعاذير، ويحسِّن أفعالهم، ويحملها على أحسن المحامل، وهكذا إذا كان هؤلاء من أصحاب الشهوات، والجرائم، والذنوب، والمعاصي.