المتباطئون عن الحج


أكرمني ربي عز وجل بزيارة طَيبة الطيِّبة ومسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما عدت من الزيارة جاءني أحد الإخوة وسألني: أين غبت في الأيام الماضية؟ فقلت: شرفتُ بزيارة مسجد رسول الله والصلاة فيه، فنظر إليَّ بحزن وقال: والله في حياتي كلها ما ذهبت إلى المدينة المنوَّرة، ولا زرت المسجد النبويَّ! فتعجبتُ من حديثه كيف لمثله وقد اقترب عمره من الستين وهو ابن هذا البلد ومن سكان بوابة الحرمين، كيف يَمضي عليه ذلك العمر الطويل ولم تأنس روحه يومًا بزيارة مسجد الحبيب صلى الله عليه وسلم والسلام عليه عند قبره والصلاة في الروضة الشريفة؟! وبينما أنا في وجوم لم أردَّ عليه إذ به يُفاجئني بأعظم من ذلك، حين طلب مني أن أبحث له عن حملة مجانية للحج أو مخفضة ليُسجِّل فيها؛ فهو لم يؤدِّ حجة الفريضة، عندها اشتد عجبي وأسفي، ونظرت إليه وأنا أقول في نفسي: أكاد أجزم أنه قد أُتيحت له فُرَص فيما مضى من عمره لأداء الحج، ولكنه فرَّط وسوَّف، وإلا فإن بينه وبين بيت الله ثمانين كيلو متر، وكان الحج فيما مضى لا يُكلِّف إلا اليسير، والمسير إليه من جدة سهل وليس بعسير.

وآخَر بلَغَ من العمر الخمسين لم يؤدِّ فريضة الحج وهو من أهل هذا البلد، ولديه وظيفة وعمل، لمَّا نصحتُه بأداء الفريضة قبل انقضاء العمر جاءني بعدها يبحث عن حجٍّ بالمجان.

وثالث شابٌّ يَقترب عمره من الثلاثين، موفور المال، مُعافى البدن، سألتُه: هل أدَّيت حجَّة الفريضة؟ فقال: لا، فقلت: الفرصة مُهيَّأة، سارع وسجِّل في إحدى الحملات، فقال: للأسف أنا مسافر للسياحة خارج المملكة في إجازة عيد الأضحى!

هذه أمثلة لآلاف ممن يؤخِّرون فريضة الحج تكاسلًا وتسويفًا وخوفًا من المصاعب والمتاعب، مع قُدرتهم الجسمية والمالية واستطاعتهم.
فما العذر لهم إن جاءت لهم بعد ذلك الأعذار بحق أو انقضى العمر وحلَّ الأجل؟!

وقد ذهب كثير من أهل العلم إلى أن مَن وجب عليه الحج ووجد القدرة والاستطاعة لأداء الفريضة فأخَّرها فإنَّه آثم، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم: «تعجَّلوا إلى الحج، فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له»؛ (رواه أحمد وأبو داود).

وقال صلى الله عليه وسلم: «مَن أراد الحج فليتعجَّل؛ فإنه قد يمرض المريض، وتضلُّ الضالة، وتعرض الحاجة»؛ (رواه أحمد، وابن ماجه، وحسَّنه الألباني).

• وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "لقد هممتُ أن أبعث رجالًا إلى هذه الأمصار، فنَنظر كل من كانت له جِدَة ولم يحجَّ، فيَضربوا عليه الجزية، ما هم بمسلمين.. ما هم بمسلمين"؛ صحَّحه ابن حجر.

قال العلامةُ ابنُ بازٍ رحمه اللهُ: "من قدر على الحج ولم يحجَّ الفريضة، وأخَّره لغير عذر، فقد أتى منكرًا عظيمًا ومعصيةً كبيرةً، فالواجب عليه التوبة إلى الله من ذلك، والبدار بالحج"، وسُئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى: هل وجوب الحج على الفور أم على التراخي؟ فأجاب: "الصحيح أنه واجب على الفَور، وأنه لا يجوز للإنسان الذي استطاع أن يحج بيت الله الحرام أن يؤخره، وهكذا جميع الواجبات الشرعية، إذا لم تقيَّد بزمن أو سبب، فإنها واجبة على الفور".

فأين هؤلاء المتباطئون الكُسالى وقد دنَت منازلهم من حرم الله، وتمرُّ من جوار بيوتهم بالليل وهم مُصبحين قوافل الملبِّين؟ أين هم من مسلمين في بلاد تبعد آلاف الأميال عن كعبة الله المشرَّفة تتوق نفوسهم شوقًا لأداء فريضة الحج؟ وأن يكونوا بين جموع ضيوف رب العالمين، ويستنشقوا عبير مكة، وتَكتحل أعينهم برؤية بيت الله الحرام والركن والمقام، ويسكبوا عندها العبرات، لكن لا يجدون لذلك سبيلًا، تمرُّ عليهم السنون تلو السنين، وفي كل عام يرون جموع الحجيج ملبِّين، وفي عرفات واقفين، فيتولون وأعينهم تفيض من الدمع {حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة: 92].

كم ممَّن بلغ بهم الشوق منتهاه لمكة وبيت الله ربما حرَموا أنفسهم من ملذاتها، وضيَّقوا على أنفسهم وأهليهم، وادَّخروا من قوتهم وقوت عيالهم ليَكونوا من الملبين، وبين جموع الطائفين القادمين من كل فج عميق لا ليُسقِطوا الفريضة من على عاتِقهم، ولكن شوقًا إلى بيت الله، وحبًّا ومودَّة لربهم وقربًا.

دنت بيوت الجافين المتباطئين من بيت الله، ولكن نأتْ عنه قلوبهم، ونأت عن المحبِّين المشتاقين ديارهم ولكن دنت أفئدتهم وقلوبهم.
أقول وقد دعا للخيـــر داعٍ *** حننتُ له حنين المُستهــــامِ
حرامٌ أن يلذَّ لي اغتمـــاضٌ *** ولم أرحَل إلى البيت الحرامِ
ولا طافت بيَ الآمال إن لم *** أطُفْ ما بين زمزمَ والمقـــامِ
ولا طابت حياةٌ لي إذا لــم *** أَزُرْ في طيبةٍ خيرَ الأنـــــــامِ
وأُهديهِ السلامَ وأقتضيــه *** رضًا يُدني إلى دار الســـــلامِ

وقريب من قسوة قلوب أولئك المفرطين المتباطئين، قسوة من أدَّى حجة الفريضة ولم يُعاوِد إلى بيت الله المسير برغْم غناه وقُربه.

عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله: إن عبدًا صحَّحت له جسمه، ووسَّعتُ عليه في المعيشة يَمضي عليه خمسة أعوام لا يفد إليَّ لمَحروم»؛ (صححه الألباني).

وللمُحبِّين في حب بيت الله والشوق للمشاعر والشعائر قصص تُروى؛ فقد حج عطاء بن أبي رباح سبعين مرة، وقصد الأسود بن يزيد النخعي مكة ما بين حجٍّ وعمرة أكثر من ثمانين مرة، وفي آخر حجَّة له استلقى سفيان بن عيينة في المشعر الحرام ليلة مُزدلفة، وقال لأصحابه: قد وافيت هذا الموضع سبعين مرة، أقول في كل مرة: اللهمَّ لا تجعلها آخر العهد من هذا المكان، وإني قد استحييت من الله من كثرة ما أسأله ذلك، فرجع فتُوفِّي من سنته، وكان هارون الرشيد يحجُّ عامًا ويَغزو عامًا.


وهكذا سار المُلبُّون الوالهون المُحِبُّون لبيت الله والمشاعر والشعائر، وقوافلهم لم تزل تسير يَحدوها الشوق وتربطها دعوة الخليل: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37].
______________________________ _______________________
الكاتب: عبدالسلام بن محمد الرويحي