مطاعن المستشرقين ضد الإسلام الحنيف
(الجزء الثاني)
د .بليغ حمدي إسماعيل
كنا قد بدأنا في الحديث عن مطاعن المستشرقين ضد الدين الإسلامي الحنيف، وكيف وجه بعضهم سهامه إلى صدر هذا الدين القوي باتهامات ظنًّا منهم بأنها كفيلة بتقويض هذا الدين الذي تعهد الله- سبحانه وتعالى- بحفظه، وفي السطور التالية نعرض باختصار جهودهم التي شرعوا فيها بعد فشل خطتهم التي بدأوها في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، مع تفنيد هذه المطاعن والشبهات الكاذبة.
لم يألُ المستشرقون جهدًا في حملتهم المسعورة ضد الإسلام والمسلمين، بل دفعهم غرورهم العلمي أن ينكروا وجود الله، ولقد بذلوا جهودًا مضنية في الكيد والنيل من الإسلام والقرآن الكريم بوصفه دستور المسلمين، ويمكننا حصر بعض تلك المطاعن والمزاعم في مسائل وشبهات محددة، هي كالتالي:
- الإسلام ملفق من الديانات السابقة.
- الإسلام يدعو إلى التواكل والسلبية.
- الإسلام يظلم المرأة ويهضم حقوقها.
الشبهة الأولى: الإسلام ملفق من الديانات السابقة
بادر المستشرقون في سلب خصوصية الإسلام وانفراده المتميز المتمثل في القرآن الكريم، وادعوا أنه دين ملفق من كتب سماوية وعقائد دنيوية سابقة. ولنا أن نسأل هل كان معاصرو النبي محمد "صلى الله عليه وسلم" ومعارضوه في غفلة عن هذا وقت بزوغ فجر الإسلام؟ بالطبع كان هؤلاء موجودين، ولكن لم يستطع أحد منهم أن يذكر قرينة واحدة على قولهم هذا، بل لهم نقول: إن الإسلام جاء بتعاليم ومبادئ وقوانين لم تشملها الكتب السماوية السابقة، بالإضافة إلى ما تمتع به القرآن الكريم من مزية فريدة اختص بها وهي الإخبار عن الأمم السابقة، والحديث عن أمور غيبية حدثت بعد ذلك.
الشبهة الثانية: الإسلام يدعو
إلى التواكل والسلبية
لم يجد مستشرقو العصر الحديث من شبهات يلصقونها بالإسلام فادعوا كذبًا أن الإسلام عقيدة تدعو إلى التواكل والسطحية واللامبالاة تجاه المتغيرات الحياتية والمجتمعية، ومن يقرأ القرآن الكريم ويتدبر معانيه وآياته الحكيمة يتأكد أن الإسلام دين يحث على العمل، ويدفع الإنسان نحوه، والمطالع لآيات القرآن يدرك الربط المستدام بين الإيمان والعمل، يقول الله تعالى: {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون} (التوبة: 105).
والقرآن يحث المؤمنين على العمل حتى في أوقات الراحة، وأقصد يوم الجمعة، فيقول الله تعالى في ذلك: {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله} (الجمعة: 10). فأين هذا التواكل الذي يلصقه الملاحدة بالإسلام والمسلمين؟ والسنة النبوية لصاحبها "صلى الله عليه وسلم" تحث على العمل والسعي الدؤوب غير المنقطع من أجل عمارة الأرض، يقول الرسول "صلى الله عليه وسلم" : «إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع ألا تقوم حتى يغرسها فليفعل»، بل نجد الرسول الكريم "صلى الله عليه وسلم" يضرب مثلًا أعلى في الدعوة إلى العمل حيث رفض انقطاع الناس للعبادة في المسجد واعتمادهم على غيرهم في المأكل والمطعم والمشرب والملبس، وامتدح من يعمل ويكد من كسب يده بشرف وأمانة وتقوى ومراقبة من الله تبارك وتعالى.
ولقد خلط أولئك المستشرقون بين التوكل الذي يعني تدبر الأمور والأخذ بالأسباب والتزود بالطاقة الروحية والعبادة، وبين التواكل الذي يعني الكسل وعدم الأخذ بالأسباب والوسائل المعينة، وكلنا يعرف كيف طرد الفاروق عمر بن الخطاب أولئك المتواكلين المنقطعين للعبادة في المسجد معتمدين على غيرهم في رعايتهم وقضاء شؤونهم، وقال عبارته المشهورة: «إن السماء لا تمطر ذهبًا»، واستشهد في ذلك بحديث النبي "صلى الله عليه وسلم" الذي يقول فيه: «لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصًا وتروح بطانًا».
وليس هذا فحسب بل جعل الإسلام العمل المفيد من أسباب الثواب وزيادة الحسنات، وقد ورد في القرآن الكريم العديد من الآيات التي تتعلق بهذه المعاني ومن ذلك قوله تبارك وتعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} (الملك: 15)، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ} (الأعراف: 10)، كما أن السنّة الشريفة تضمنت العديد من النصوص التي تحث على العمل والكسب الحلال مثل قول الرسول "صلى الله عليه وسلم" : «ما أكل أحد طعامًا خيرًا من أن يأكل من عمل يده»، وقوله "صلى الله عليه وسلم" : «من أمسى كالًّا من عمل يده أمسى مغفورًا له».
الشبهة الثالثة: الإسلام يظلم المرأة ويهضم حقوقها
تشير أصابع المستشرقين بالاتهام خفية وعلانية إلى أن الإسلام معاد حقيقي للمرأة، وأنه هضم حقها، وأغفل حقيقتها ودورها التاريخي قبل الإنساني. والمجال غير متسع لعرض وضع المرأة قبل الإسلام، وما كان عليه النكاح من صور أكثر وحشية وهمجية، من نكاح استبضاع، إلى نكاح الرهط، مرورًا بنكاح صواحبات الرايات، انتهاءً بنكاح الشغار والبدل والضغينة.
ولاشك أن موقف المرأة كان صعبًا في ظل التصور الإسلامي لبعض الصحابة، ورغم ذلك شاركت النساء في النضال اليومي للعيش والحياة الاجتماعية والاكتشاف اليومي لطبيعة الإسلام، فكن يعملن بالإضافة إلى اكتشاف أحكام القرآن والإسلام دون تمييز أو تهميش أو إلغاء، وهذا يدل على أن المرأة ليست هي العورة، بل إن العورة هي العورة، وهو ما فصله رسولنا الكريم "صلى الله عليه وسلم" ، فكانت المرأة تغزل وتنسج وتبيع ما تصنعه وسط مرأى ومسمع الجميع، وهذا يؤكد طبيعة المجتمع المدني الذي لا يميز أي فرد عن بقية أعضائه.
ولو أن الإسلام قد قوض مكانة المرأة، وسعى إلى تغييبها حضاريًّا لما سمعنا أسماءً بعينها من نساء الإسلام الصالحات، كالسيدة خديجة، والسيدة صفية، والسيدة فاطمة، وزينب بنت جحش، وأم أيوب الأنصارية، وجهيزة، وأم حكيم، وغيرهن كثيرات. ولابد أن نقر حقيقة تاريخية وهي أن الإسلام أنصف المرأة الإنصاف كله، وأزال عنها ما لحقها من ظلم، وحررها من العبودية واستغلال جسدها، ورفع مكانتها وأعلى منزلتها، في الوقت الذي لم يعترف الغرب بحقوق المرأة إلا في القرن التاسع عشر بعد جهاد طويل.
وعجيب جدًّا أمر هؤلاء الذين يقصرون حقوق المرأة في حجاب رأسها، وارتدائها للبنطال، ومشاركتها العمل وسط الرجال، وذهابها إلى صلاة التراويح، وغيرها من القضايا الجدلية لصرف الأنظار عن سماحة الإسلام وإتاحة الحرية للمرأة في معاملات البيع والشراء، والاحتفاظ بمالها، وقد أجاز لها حق التملك، وساوى بينها وبين الرجل والتاريخ الإسلامي يحفظ أسماء الصحابيات اللاتي جاهدن في سبيل الله مثل الربيع بنت معوذ التي قالت: كنا نغزو مع رسول الله نسقي القوم ونخدمهم ونداوي الجرحى، ونرد القتلى إلى المدينة. هذا بخلاف ما صنعه الإسلام للمرأة من حق الميراث وكانت لا ترث، وكذلك تحريمه لوأد البنات وهن صغيرات.
وأكاد أجزم لهؤلاء الذين يؤكدون خفية وجهرًا أن الإسلام قد قهر المرأة، بأن أبين لهم أن الإسلام منح لها حق الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتدريس، بل مجادلة الملاحدة والمارقين، والكارثة أننا ابتلينا منذ فترة ليست بالقريبة بأناس لا يتدبرون القرآن، ويحرفون كلام رسول الله "صلى الله عليه وسلم" عن مواضعه، فيبذلون قصارى جهدهم في إحداث فتنة حقيقية سلاحهم فيها المرأة.
منقول بتصرف