.............................. ............

الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني

بسم الله الرحمن الرحيم
إياك نعبد، وإياك نستعين، ولك الحمد يا رب العالمين. والصلاة والسلام على سيد المرسلين وآله وصحبه الأكرمين، وبعد:

فإنه وصل السؤال عن الكلام الذي وقعتم عليه للحافظ الذهبي من أن علوم أهل الجنة تسلب عنهم في الجنة، ولا يبقى لهم شعور بشيء منها، فاقشعر جلدي عند الإطلاع على هذا الكلام من مثل هذا الحافظ الذي أفنى عمره في الكتاب والسنة والتراجم لعلماء هذا الشأن. وقد كنت قديما وقفت على شيء من هذا، لكن لفرد شاذ من أفراد الحكماء قاله لا عن دراية ولا رواية، فلم ألمه لجهله بالكتاب والسنة. فيا ليت شعري كيف يجري قلم أحقر عالم من علماء الشريعة. بمثل هذا !
وعجبت ما أدخل هذا الحافظ في مثل هذه المداخل المقفرة المكفهرة التي يتلون الخريت في شعابها وهضابها، ويتحمل هذا الثقل الثقيل، والعبء الجليل!

والحاصل أن الطوائف الإسلامية على
اختلاف مذاهبهم، وتباين طرقهم متفقون على أن عقول أهل الجنة تزداد صفاء وإدراكا لذهاب ما كان يعتريهم من الكدورات الدنيوية، وكيف يسلبون ما هو عندهم من أعظم النعم، وأوفر القسم! وهم في دار فيها ما تشتهيه الأنفس، وتلذ به الأعين، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

فكأن هذا القائل لم يقرأ القرآن الكريم، وما أسهل عليه من تحاور أهل الجنة وأهل النار وتخاصمهم بتلك الحجج التي لا تصدر إلا عن أكمل الناس عقلا، وأوفر الخلائق فهما! وما يذكرونه من حالهم الذي كانوا عليه في أهليهم، بل ما يودونه من إبلاغ الأحياء عنهم ما صاروا فيه من النعم
قال {يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} وورد مثل هذا المعنى في القرآن التي رفع لفظه من المصحف، كما ثبت في الصحاح تركيب
الحديث عن أولئك الشهداء بلفظ:
"بلغوا قومنا أن قد لقب ربنا فرضي عنا وأرضان!"
وكذلك ما ثبت من اجتماع أهل الجنة ومذاكرتهم. مما كانوا فيه في الدنيا، وما صاروا إليه في الجنة كما في الآيات المشتملة على ما في الجنة مما أعده الله لهم حيث يقول:
وفيها في آيات كثيرة، وذكر أن أهلها على
سرر متقابلين، وأنه يطوف عليهم ولدان مخلدون . وثبت أنهم يدخلون الجنة على تلك الصفات من الجمال والشباب، وكمال الخلق، وحسن الهيئة مردا جردا، أبناء ثلاث وثلاثين سنة، وأنهم يخيرون في الجنة ما يشتهون. وكم يعد العاد من الآيات القرآنية، والأحاديث الصحيحة! ولا يتم هذا النعيم ولا بعضه إلا وهم ذو عقول صحيحة بالضرورة العقلية، كما ثبت بالضرورة الدينية.

ومعلوم أنهم إذا كانوا ذوى عقول فمهما وجدت معهم فهي بالإمكان العام والخاص قادرة على كسب ما تحدد لها من العلوم، ذاكرة لما حصل لها منها من قبل هذا ما لا يحتاج إلى بيان، ولا يفتقر إلى برهان. ولو فقدوها لفقدوا الإنسانية الكاملة، وصاروا مشاهن للدواب، وأي نعمة لمن عقل له كما هو مشاهد من المصابين بالجنون في الدنيا! وأي فائدة للمبالغة في نعيم من كان ذاهب العقل. مما ثبت في الكتاب والسنة من أنهم على صفات فوق صفاتهم في الدنيا. بمسافات! لا يقادر قدرها، ولا يحاط بكنهها. وكذلك لا يتم نعيمهم إلا بوجود الحواس الظاهرة والباطنة، ولو فقدوا أحدها لما تنعموا كما ينبغي وكذا لو فقدوا
بعضها لم يكن له شعور بالتنعم الذي وصفه الله- سبحانه-، وبالغ فيه. وأي فائدة لفاقد العقل! وأي شعور له بكونه على صفة كمالية في جماله، ولباسه الحرير والديباج وتحليه بالذهب والجواهر، وأكله من أطيب المأكل، وشربه من أنفس المشروب، وكذا لا نعمه تامة فضلا عن أن يكون فاضلا لمن كان أعمى أو أصم، أو لا يفهم شيئا، أو لا يذكر ما مضى له، ولا يفكر في ما هو فيه.

وإذا تقرر لك هذا علمت أن أهل الجنة لهم العقول الفائقة، والحواس الكاملة إلى حد يتقاصر عنه ما كان لهم من العقول والمشاعر في دار الدنيا، كما كان لهم الهيئة الفائقة هيئة الدنيا شبابا وجمالا، وقوة وفهما، وفكرا وذكرا، وحفظا وسلامة من كل نقص. ولو لم يكن الأمر هكذا لم يكن لهم فائدة. مما بولغ في شأنهم من الصفات، بل يعود ذلك بالنقص لما أثبت لهم منها في الجنة. هذا معلوم بالعقل والشرع، لا يتمارى فيه قط. وأقل حال أن يكون النعيم المحكوم لهم به في الجنة كتابا وسنة ناقصا. والمفروض أنه بالغ في الكمال إلى غاية فوق كل غاية هذا خلف يدافع نصوص الكتاب والسنة مدافعة يفهمها كل من له عقل وإدراك. فيا عجبا كل العجب من التجري على أهل هذه الدار التي هي دار النعيم المقيم على الحقيقة. مما ينغص نعيمهم، ويشوش حالهم، ويكدر صفوهم، ويمحق ما أعده الله لهم!

ومن التجري على الله- سبحانه-، وعلى رسوله. مما يستلزم عدم ثبوت ما أثبته الكتاب والسنة لهم، وتكديره وذهاب أثره، ومحق بركته! وأنت تعلم أن مثل هذا يستلزم الكفر الصراح. فأين هذا القادح الفادح من نعيم دار يعدل موضع سوط أحدهم فيها الدنيا بأسرها، وجميع ما فيها، ومن دار نصيف إحدى زوجاتهم يعدل الدنيا وما فيها، ومن دار لو أشرفت إحدى الجواري المعدة لهم
على أهل الدنيا لفتنتهم أجمعين، كما ثبت في الأحاديث الصحيحة. ومع هذا قد ثبت قرآنا أنهم على سرر متقابلين، وأنه يطوف عليهم ولدان مخلدون، وثبت سنة أنهم يجتمعون ويزاورون . فليت شعري ما فائدة هذا الاجتماع والتزاور لمن لا عقل له، ولا فهم، ولا فكر، ولا ذكر!

والحامل أن التقول. بمثل هذا القول هو أن التقول على الله- سبحانه-. مما لم يقل، وعلى رسله، وعلى شرائعه. مما لم يكن منها. وقد ثبت في القرآن الكريم الحكم على المتقولين . مما هو معلوم لكل من يعرف القرآن، وإذا ثبت أن مثل هذا باطل في الدار الآخرة، فانظر إلى هذه الدار دار الدنيا التي ليست بشيء بالنسبة إلى الدار الآخرة، لو قيل لأحدهم أنه سيكون لك ما تريد من جمال الهيئة وكمالها، ومن النعيم البالغ، ومن الرياسة التامة، ولكن ستصاب بالجنون، أو تفقد جميع المشاعر لقال لا ولا كرامة، دعوني أعش صعلوكا فقيرا شحاذا فهو أطيب لي مما عرضتموه علي، وأحب إلي مما جئتموني به.

خذوا رفدكم لا قدس الله رفدكم ... سأذهب عنه لا علي ولا ليا

وإنما أوردنا لك هذه الأمور ليعلم أن الروح للإنسان إذا كان ساذجا كان كله ساذجا، إذ الروح هو الإنسانية التي يتميز بها صاحبها عن الدواب، وجميع ما ذكرنا من العقل والحواس الباطنة والظاهرة هو له، لا للحم ولا للدم ولا للعظم، فإذا كان الروح ساذجا فلم يبق إلا صورة اللحم والدم، وهو المقصود بقولهم في بيان ماهية الإنسان أنه حيوان ناطق، أي مدرك للمعقولات، وليس ذلك للقالب الذي هو فيه. وكما أن ما ذكرناه وقررناه هو إجماع الطوائف الإسلامية على إخلاف أنواعهم فهو أيضًا إجماع أهل الشرائع كلها كما تحكي ذلك كتب الله- عز وجل- المرسلة على رسله، وتحكيه أيضًا كتبهم المؤلفة من أحبارهم ورهبانهم، فإنه لا خلاف بينهم في المعاد وفي النعيم المعد لأهل الجنة، كما حكاه الكتاب العزيز. وقد أوردنا من ذلك في الحرة الفاخرة في إثبات الدار الآخرة، وفي إرشاد الثقات إلى اتفاق الشرائع على إثبات التوحيد والمعاد والنبوات كثيرا من نصوص التوراة والإنجيل والزبور وسائر كتب نبوات أنبياء الله تعالى، ولم يشذ منهم إلا اليهودي الزنديق موسى بن ميمون، وقد تبرأ منه قدما اليهود، وحرموه أي: أخرجوه من دينهم، بل وكذلك النصارى، وإن لم يكن من أهل ملتهم، فقد صرحوا بخذلانه وزندقته.
قال البصراني في تاريخه : ورأيت كثيرا من يهود بلاد الإفرنج بأنطاكية وطرابلس يلعنونه ويسمونه كافرا انتهى.

قلت: وقد وقع لهذا الملعون من تحريف كثير ما يدل على إلحاده وزندقته، وقد رددت ما حرفه في المؤلفين المذكورين سابقا، وأوضحته بأتم إيضاح وأما يهود عصرنا فصاروا يعظمونه، وذلك لجهلهم بحقيقة الحال، وقد ذكرت لجماعة من أحبارهم بعض تحريفاته فلعنوه وتبرؤوا منه، وكما أن هذا الذي ذكرناه مجمع عليه بين أهل الملل التابعين لأنبيائهم فهو أيضًا مجمع عليه بين المشتغلين بالعقل والنظر كالكلدانيين والصابئين أتباع صاب بن إدريس كما رويناه في حكاية مذاهبهم التي ذهبوا إليها في شأن المعاد، ومنهم اليونان فإنهم جميعهم من عند اسقلنييوس إلى عند جالينوس مصرحة كتبهم. مما للأرواح عليه في دار المعاد، وهكذا المشتغلون بالحكمة الإلهية من أهل الإسلام كالكندي ومن جاء بعده، كالفارابي ومن جاء بعده منهم، كابن سينا فإن كتبهم مصرحة بذلك تصريحا لا شك فيه ولا ريب. وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية والله ولي التوفيق. انتهى