تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 4 من 4

الموضوع: حاجة كل مسلم إلى الاعتناء بالسنة

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    46,344

    افتراضي حاجة كل مسلم إلى الاعتناء بالسنة



    حاجة كل مسلم إلى الاعتناء بالسنة (1)

    أهمية السنة









    كتبه/ علاء بكر


    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛


    فمما ينبغي التنبُّه إليه: أن السنة النبوية كما أنها مصدر من مصادر التشريع والأحكام لا يستغنى عنه، فهي كذلك مصدر للتربية والبناء لا غنى عنه.

    ولا أدل على ذلك: مما نحن فيه في مجتمعنا من نقص تربوي وأخلاقي؛ سببه الرئيسي: الابتعاد عن الاستفادة من الجوانب التربوية والأخلاقية في الكتاب والسنة، وبالتالي: فقدُ دورهما المحوري في عملية البناء الاجتماعي والأخلاقي في الأمة.

    وقد نبَّه القرآن الكريم تنبيهًا واضحًا، وبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم بيانًا شافيًا، على دور السنة النبوية وأهمية الأخذ بها، والعمل حتمًا بما فيها، وجاء التحذير كل التحذير من التهاون في الأخذ بها، وترك العمل بمقتضاها، وذلك من أوجه عديدة لا يليق بعدها أن يتأخر المسلم عمدًا أو تكاسلًا في الاعتناء بالسنة النبوية الاعتناء الواجب بها، وهذا باب يطول سرده، ولكن نذكر منه مقتطفات، ففي القرآن الكريم:

    قال تعالى: "وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا"، وقال تعالى: "وما ينطق عن الهوى . إن هو إلا وحي يوحى"، وقال تعالى: "قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم"، وقال تعالى: "من يطع الرسول فقد أطاع الله"، وقال تعالى: "فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيت ويسلموا تسليمًا".

    وتحكيمه صلى الله عليه وسلم: بالتحاكم إلى القرآن الذي أنزل عليه وأمر بتبليغه، قال تعالى: "ومن لم يحكم بما أنزل فأولئك هم الكافرون"، وأيضًا بالتحاكم إلى سنته صلى الله عليه وسلم في حياته، وبعد مماته صلى الله عليه وسلم.

    وفي الحديث المرفوع: "ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه"، وقال تعالى: "وما ينطق عن الهوى . إن هو إلا وحي يوحى"، وقال تعالى: "إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله"، أي: إلى كتابه عز وجل، "ورسوله" أي: إلى سنته صلى الله عليه وسلم "ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون"، وقال تعالى: "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر"، وقال تعالى: "فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم".

    أما في السنة النبوية:

    فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم"، وقال صلى الله عليه وسلم: "كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى". قيل: ومَن يأبى يا رسول الله؟ قال: "من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى"، وقال صلى الله عليه وسلم: "وإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا؛ فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ"، وقال صلى الله عليه وسلم: "ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه"، فسنته صلى الله عليه وسلم هي من الوحي.

    والناس في الأخذ بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، ومما جاء به سنته، على مراتب: فعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيثٍ أصاب أرضًا، فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء؛ فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس فشربوا منها وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك الماء ولا تنبت كلأ؛ فذلك مثل من فقه في دين الله، ونفعه بما بعثني الله به، فعلم وعلم، ومثل مَن لم يرفع بذلك رأسًا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به".

    قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله في شرحه لرياض الصالحين: "فهكذا الناس بالنسبة لما بعث الله به النبي صلى الله عليه وسلم من العلم والهدى، منهم مَن فقه في دين الله، فعلم وعلم، وانتفع الناس بعلمه، وانتفع هو بعلمه، وهذا كمثل الأرض التي أنبتت العشب والكلأ فأكل الناس منها، وأكلت منها مواشيه.

    والقسم الثاني: فقوم حملوا الهدى، ولكن لم يفقهوا في هذا الهدي شيئًا، بمعنى أنهم كانوا رواة العلم والحديث، لكن ليس عندهم فقه، فهؤلاء مثلهم مثل الأرض التي حفظت الماء، واستقى الناس منه وشربوا، لكن الأرض نفسها لم تنبت شيئًا؛ لأن هؤلاء يروون أحاديث وينقلونها، ولكن ليس عندهم فيها فقه وفهم.

    والقسم الثالث: مَن لم يرفع بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من العلم والهدى رأسًا، وأعرض عنه، ولم يبالِ به؛ فهذا لم ينتفع بما جاء به النبي عليه الصلاة والسلام، ولم ينفع غيره، فمثله كمثل الأرض التي ابتلعت الماء ولم تنبت شيئًا".

    وأضاف: "وفي هذا الحديث: دليل على أن من فقه في دين الله، وعلم من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يعمل؛ فإنه خير الأقسام؛ لأنه علم وفقه لينتفع وينفع الناس، ويليه من علم ولم يفقه، يعني روى الحديث وحمله، لكن لم يفقه منه شيئًا، وإنما هو راوية، هذا يأتي في المرتبة الثانية في الفضل بالنسبة لأهل العلم والإيمان. والقسم الثالث: لا خير فيه، رجل أصابه ما أصابه من العلم والهدى الذي جاء به النبي عليه الصلاة والسلام، لكنه لم يرفع به رأسًا، ولم ينتفع به، ولم يعلمه الناس، لكن -والعياذ بالله- كمثل الأرض السبخة التي ابتلعت الماء ولم تنبت شيئًا للناس، ولم يبقَ الماء على سطحها حتى ينتفع الناس به" (راجع: "شرح رياض الصالحين" للشيخ محمد بن صالح العثيمين).



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    46,344

    افتراضي رد: حاجة كل مسلم إلى الاعتناء بالسنة

    حاجة كل مسلم إلى الاعتناء بالسنة (2)

    الحرص على طلب السنة






    كتبه/ علاء بكر


    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

    فلماذا على المسلم أن يعتني بالسنة النبوية الشريفة؟

    لا بد من تنمية الحرص على طلب السنة النبوية في النفوس؛ فهو المدخل للوصول إلى كنوز وخيرات هذا العِلْم العظيم، والانتفاع بهذه السنة في حياتنا، والذي لو حققناه لانصلح حال الأمة، بل وسادت العالم.

    ومن وسائل تنمية هذا الحرص في الناس، وغرس محبة السنة فيهم: التعرف على أهمية السنة النبوية في حياتنا.

    (إن نصوص سنة نبينا محمدٍ صلى الله عليه لو كانت عند أهل حضارة أخرى؛ لكتبوها في المحافل والمجامع والميادين العامة، ولتغنوا بذكرها ونقشوها في بيوتهم، بل في قلوبهم! إننا نراهم يتغنون بنصوص وحِكَم مفكريهم التي لا تعد شيئًا بالنسبة لحكمة نبينا محمدٍ صلى الله عليه وسلم؛ فيا لله العجب ما أغفلنا عن هذه الطاقة التي منحنا الله إياها، فنتركها ونذهب لدراسة طرق وأساليب توليد الطاقة المعنوية عند الشرق أو الغرب، فصدق علينا قول الله تعالى: "أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير"!

    إن حبَّ السنة ليس دعوى تُقَال باللسان، ويصرَّح بها في الخُطَب والكلمات، وتسطَّر بها الصحف وموجات الأثير، بل هي حقيقة لها علامات ومقاييس وموازين، مَن جاء بها صدق قوله وأقر على دعواه.

    ومِن هذه العلامات:

    1- كثرة قراءتها ومطالعة كتبها.

    2- محاولة حفظها، والحزن والأسف على فوات ذلك.

    3- الفرح بمجالسها ومنتدياتها ولقاءتها.

    4- الشوق إليها إذا طالت الغيبة عنها.

    5- تطبيقها في جميع جوانب الحياة) (راجع: مفاتح تدبر السنة والقوة في الحياة).

    (وهذا يكون بالقراءة عن أخبار السلف في تعظيمهم لحديث النبي صلى الله عليه وسلم، واجتهادهم في خدمته، والأخبار والقصص في هذا المجال كثيرة مشهورة، وكتب السنة والتراجم قد حفلت بالكثير من الأخبار والنماذج الحية التي تبعث في نفس المسلم الهمة لتعظيم السنة والنشاط في كتابتها وحفظها، والعمل بها ونشرها والدعوة إليها.

    ومن الكتب المهمة في هذا المجال: كتاب: (سير أعلام النبلاء) للحافظ الذهبي، وكتاب: (الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع) للخطيب البغدادي، وكتاب: (الرحلة في طلب الحديث للخطيب البغدادي، وكتاب (جامع بيان العلم وفضله) لابن عبد البر.

    فينبغي على كلِّ ناصح لنفسه ألا ينقطع عن القراءة في هذا الجانب لئلا يضعف تعظيمه للسنة، وتضعف قيمتها في قلبه فيزهد فيها ويهجرها، فالقراءة عن أهمية الشيء مفتاح الاهتمام به والحرص عليه) (المصدر السابق).

    ومعلوم أن المسلم مأمور بالتزام ما جاءت به الشريعة الإسلامية من أحكام في الكتاب والسنة، كما أنه مأمور بالاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في كل أحواله، ومعلوم أن أفعال المرء وأقواله لا تخرج عن الأحكام الخمسة في الشريعة: الوجوب أو الاستحباب أو الإباحة أو الكراهة أو التحريم، وهي تعرف من خلال دراسة الكتاب والسنة دراسة مفصلة.

    وعليه فإنك أخي المسلم (لو تأملت أمور حياتك اليومية تجد أنه ما من أمر من الأمور إلا وللقرآن والسنة فيها توجيه وتعليم؛ سواء كان ذلك حركة جوارح أو حركة مشاعر، وفيها يتضح الفرق بين العالم والجاهل. إن حاجتك للعلم تتزامن مع كلِّ حركة من حركاتك اليومية التي تعد بآلاف الحركات أنت فيها إما عالم أو جاهل، عالم مغتبط بعلمك قرير العين بمنة الله عليك أو جاهل غافل تشقى ولا تدري سبب شقائك.

    قال الإمام أحمد: حاجة الناس إلى العلم أشد من حاجتهم إلى الطعام والشراب؛ ذلك أن الحاجة للطعام والشراب تكون مرة أو مرتين في اليوم بينما حاجتهم للعلم بعد الأنفاس! وصدق الإمام أحمد رحمه الله تعالى، وهو مَن هو في عِلْمه وفقهه، وكثرة قراءته للقرآن الكريم، ولأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم.

    فيا ليتنا نفقه هذه الحقيقة وتسيطر على أفكارنا ومشاعرنا؛ إذ لو حصل ذلك لأمكن وضع نهاية لمشاكلنا التربوية والاجتماعية ولصلحت أحوالنا الخاصة والعامة) (راجع: مفاتح تدبر السنة).

    والسُّنة مفسِّرة ومبيِّنة للقرآن في تطبيقه والعمل به: قال الله تعالى: "وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون"، وقال تعالى: "كما أرسلنا فيكم رسولًا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون".

    (لقد فقه سلفنا الصالح أهمية السنة، وأدركوا عظيم قدرها، فكانوا يبذلون النفس والنفيس والغالي والرخيص في سبيل تحصيلها، ولو كان ذلك كلمات معدودات، والأمثلة والصور والنماذج في هذا المجال كثيرة سطَّرها التاريخ بمدادٍ مِن نور، فبقيت منارات تشرأب إليها الأعناق ويقتدي بها السائرون) (المصدر السابق).

    (وبعد أن تطورت وسائل الكتابة والطباعة، وتطورت وسائل الاتصال تعارف العلماء وطلاب العلم على نسخ معينة بالضبط والإتقان تعرف بأسماء محققيها، لكن يبقى ضرورة المشافهة بها على الشيوخ للتأكد من صحة نطق اللفظ وفهم المعنى، وهذا والحمد لله متيسر في كلِّ حاضرة من حواضر المسلمين اليوم ولا يحتاج إلى رحلة، بل يحتاج إلى حرص وجود وسخاء بالوقت والجهد، وذلك فضل الله يؤتيه مَن يشاء) (المصدر السابق).

    وتتميز السنة بأمورٍ ليست في غيرها، منها:

    - إنها سهلة واضحة ميسَّرة: فقد أوتي النبي صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم؛ لذا فأحاديثه موجزة تجمع المراد في أقل كلمات وأبلغ ألفاظ، فمعظم كلامه (بيِّن واضح يشترك في فهمه العالم والعامي والكبير والصغير والرجل والمرأة؛ عدا نسبة قليلة تحتاج إلى توضيح من جهة ارتباط بعضها ببعض، فتكون مخصصة أو منسوخة أو مقيدة، وأيضًا بعض الكلمات الغريبة تحتاج إلى بيان؛ لعدم فشو استعمالها بين الناس، أما استغلاق السنة على البعض؛ فهو بسبب عدم التدبر وضعف الصلة بها، وقلة بل ندرة القراءة، وعدم إلقاء السمع والتركيز حين سماعها، بل يسمعها بأذنه بينما قلبه في كلِّ وادٍ مِن أو أودية الدنيا يهيم، بعد ذلك يقول: إن فهم السنة أمر صعب، فيؤثر الانشغال بالقيل والقال على سماع السنة وتعطير المجالس بها) (المصدر السابق).

    لذا (فينبغي أن نقرِّب السنة للناس، ونقتصر في بيانها وشرحها على ما تدعو الحاجة إليه، ولو كان الشرح قليلًا؛ لأننا إذا فعلنا ذلك نرسِّخ في أذهانهم أن السنة واضحة سهلة، فيقبلون على قراءتها وتدبرها؛ أما أن نقعد ونهول ونبالغ في شرح بعض العبارات؛ فهذا وإن كان قصد قائله خدمة السنة وحراستها، فإنه قد يؤدي إلى عكس مقصوده) (المصدر السابق).

    - إنها حماية من الانحراف الفكري والسلوكي: مما لا شك فيه أن تربية النشء والأمة على ما ورد في الكتاب والسنة في قضايا التوحيد والفكر، والتربية والسلوك يصحِّح كثيرًا مِن المفاهيم، وينعكس ذلك على سلامة الأمة وأمنها مِن كثيرٍ مِن المشكلات الفكرية والتربوية.

    وهذه كلمة نوجهها (إلى المسئولين عن التربية والتعليم في العالم الإسلامي: إن أردتم الأمن والسلامة من المشكلات الفكرية والتربوية؛ فليس أمامكم إلا القرآن والسنة ببرامج مكثفة، وبيان واضح يمنع الانحراف، فيفهمها وينزلها على غير ما دلَّت عليه. إن التاريخ يشهد أن العلاقة طردية بين العلم -ومنه: التوحيد- وبين الأمن، وقبل شهادة التاريخ شهادة رب العالمين إذ يقول: "الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون"، فمحاولة إبعاد العلوم الشرعية عن مناهج التعليم أو تقليصها مع الإغراق في العلوم الدنيوية بحجة سوق العمل؛ فهذا سيكون على حساب أمن المجتمع واستقراره على المدى البعيد، وبوادر ونذر هذا الخطر بدأنا نذوقها من أقرب الناس إلينا.

    إن العودة الصادقة لتدبر القرآن والسنة بطريقة صحيحة، وبآليات كافية؛ لهو السبيل لتحقيق الأمن المنشود والرخاء المقصود.

    إن تغييبَ بعض نصوص القرآن والسنة بحجة علاج المشكلات الفكرية؛ هو سبب في توليد مثل هذه المشكلات؛ فغياب دور نصوص الكتاب والسنة في مناهج التربية والتعليم أو عدم بيان هذه النصوص بيانًا صحيحًا يجعل شبابنا يتقبل أفكار ومفاهيم مغلوطة محرفة، أو يطبقونها تطبيقًا خاطئًا، فيجنون على أنفسهم وأمتهم.

    لقد انتشرت في أيامنا الحالية برامج للتنمية البشرية، والبرمجة اللغوية العصبية، ودورات في التطوير والتغيير كلها صور من الاستيراد الثقافي مأخوذة ومترجمة من الحضارة الغربية.

    (إن التبعية الفكرية للحضارات القوية في العالم انهزامية غير مقبولة مهما كان المبرر والواجهة التي غلف بها والجسر الذي تعبر فوقه إلى ثقافتنا وحضارتنا، (إننا لن نتحرر ماديًّا حتى نتحرر فكريًّا)، (والسبب في وجود هذه الظاهرة عدم التفريق بين الاستيراد الممنوع وبين الانتفاع المشروع بما عند الحضارات الأخرى في أمور الحياة المادية؛ فهذه مسألة يقع الخلط فيها كثيرًا، ولا يوفَّق للبصيرة في هذا الأمر إلا مَن هدي إلى الصراط المستقيم الذي فَرَض على المسلم أن يدعو بالهداية إليه كل يوم سبعة عشر مرة على الأقل).

    ورغم أن هذه الأفكار والمفاهيم (ينتهي إسنادها إلى الحضارة الغربية وهي مقطوعة الإسناد عن القرآن والسنة) (المصدر السابق)، فإنك (حينما تستمع لمدربي البرمجة وهم يشرحون فرضياتها أو يدافعون عنها ويجيبون عما أورد عليها من ملاحظات؛ فإنك تتعجب: كيف يحاول هؤلاء التشبث بمثل هذه الفرضيات والدفاع عنها، مع أن عندهم أضعاف أضعافها من حِكَم وقواعد موجودة في السنة النبوية تظهر لمَن قرأها وتدبرها وأطال الوقوف عند حكمها.

    إن مثل هذا التمسك والاعتداد والفرح بهذه الفرضيات يُقبَل من أولئك الذين لا يعرفون القرآن، ولم يطلعوا على سنة نبينا صلى الله عليه وسلم؛ لأنه منتهى علمهم وهم يحسبون بما قرروه أنهم حازوا سَبْقًا علميًّا، واكتشفوا أدواتٍ لم تكن موجودة في هذا الوجود، فيحسن بالمشتغلين بهذا العلم أن يعطوا من وقتهم القدر الكافي لتدبر السنة والتأمل في مضمونها؛ إذ إنهم لو فعلوا ذلك لوجدوا ضالتهم المنشودة، ولاستغنوا بما عندهم عما عند غيرهم، ولعلموا أن ما يسعون لتحقيقه من تغيير وتطوير موجود في السنة.

    فيا أيها المدرِّبون، ويا أيها المبرمجون: خذوا من السنة النبوية ما تشاءون من المُسَلَّمَات التربوية والقواعد النفسية، فهي معين لا ينضب، وكنز لا يفنى، خذوا واشرحوا واعقدوا الدورات لتطوير الحياة.

    إنها دعوة مفتوحة إلى مَن آتاهم الله العلم بركنيه: الفهم (الذكاء)، والحفظ (الذاكرة)، أن يبينوا للناس القواعد التربوية والمسلَّمات النفسية، ويدربوا الناس عليها، ويبينوا تطبيقاتها في الحياة.

    إن هذه القواعد هي التي تمكَّن بها النبي صلى الله عليه وسلم من تغيير الناس، وتطويرهم من أمة بدوية بدائية إلى أمةٍ ذات حضارة قويمة مكينة، استمرت قرونًا طويلة، ولا تزال تملك تلك الطاقة التي تمكِّنها بعون الله أن تعود إلى ما كانت عليه) (المصدر السابق بتصرفٍ).

    هل وصلت التبعية للغرب أننا صرنا لا نستطيع أن نربي أبنائنا إلا عن طريق مَن تشربوا علوم جامعات الغرب والشرق الفكرية والتربوية المادية التي حَوَت بين جنبيها الغث والسمين؟!

    نعم (إن كان المراد أن هؤلاء جمعوا بين التخصص في القرآن والسنة وتحت لوائهما فحسن، أما إن كانت الأخرى وهو الواقع والمُشَاهَد؛ فلا (المصدر السابق بتصرفٍ).

    - أنها نبراس للعلوم التربوية: (إن السنة النبوية لمَن فَتَح الله تعالى له أبوابها هي المنطلق لإطلاق قدرات الإنسان، وهي الوقود الذي يولِّد الحماس والنشاط، والطاقة والإبداع)، قال تعالى: "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرًا)،

    يقول ابن القيم رحمه الله: (وما ظنك بمَن إذا غاب هديه وما جاء به طرفة عين فسد قلبك، ولكن لا يحس بهذا إلا قلب حي، وما لجرح بميت إيلام! وإذا كانت السعادة معلقة بهديه صلى الله عليه وسلم؛ فيجب على كلِّ مَن أحب نجاة نفسه أن يعرف هديه وسيرته وشأنه، وما يخرج به عن خطة الجاهلين، والناس بين مستقل ومستكثر ومحروم، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء) (مختصر زاد المعاد).

    إن نشر السنة بين الناس وتدبرهم لها يسهم بشكل كبير في تربية النفوس وتهذيب الأخلاق، ونتيجة لذلك تقل المشاكل والمخالفات والجرائم، ويوجد الجد في الحياة والالتزام في أداء الواجبات دون حاجة إلى أجهزة مراقبة أو حراسة أو إدارات متابعة، فهناك رقابة داخلية تعمل على مدار الساعة، فإذا تحقق هذا؛ فانظر ماذا يترتب عليه من مصالح عظيمة؟!


    وللحديث بقية إن شاء الله.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    46,344

    افتراضي رد: حاجة كل مسلم إلى الاعتناء بالسنة



    حاجة كل مسلم للاعتناء بالسُّنَّة (3)

    من ثمرات تعلُّم السُّنَّة








    كتبه/ علاء بكر


    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

    فإن للسنة النبوية ثمرات وبركات عديدة، يتمتع بها كلُّ مَن اعتنى بالسنة، فمِن ذلك:

    1- نيل ثواب العلم بالسنة:

    إن ثواب طلب السنة والعمل بمقتضاها من الأمور العظيمة، ورد بيان هذا الفضل في الكثير من الأدلة في الكتاب والسنة، منها ما جاء في ثواب تعلم السنة وثواب العمل بها خاصة، ومنها ما جاء في ثواب طلب العلم وثواب العمل به عامة، والسنة بالطبع منها، فمن ذلك:

    - في السنة النبوية: قوله صلى الله عليه وسلم: "نضَّر الله امرءًا سمع منا شيئًا فبلَّغه كما سمعه، فرب مبلغ أوعى من سامع"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "بلغوا عني ولو آية"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "ليبلغ الشاهد الغائب فإن الشاهد عسى أن يبلغ من هو أوعى منه"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين".

    - وفي القرآن الكريم: قوله تعالى: "يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير) (المجادلة: 11)، وقوله تعالى: "قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب" (الزمر: 9)، وقوله تعالى: "قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين" (يوسف: 108).

    - ومن أقوال السلف في ذلك: قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "القلوب أوعية فخيرها أوعاها؛ الناس ثلاثة: فعالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع لا خير فيهم"، وقول أبي قتادة رضي الله عنه: "باب من العلم يحفظه الرجل لصلاح نفسه وصلاح من بعده أفضل من عبادة حول) (الفقيه والمتفقه).

    وعن أبي هريرة وأبي ذر رضي الله عنهما قالا: "باب من العلم نتعلمه أحب إلينا من ألف ركعة تطوع، وباب من العلم نعلمه عُمِل به أو لم يُعمَل به أحب إلينا من ألف ركعة تطوع" (جامع بيان العلم وفضله)، وقال سفيان الثوري: "ما من عمل أفضل من طلب العلم إذا صحت النية" (مفتاح دار السعادة).

    (فمتى عَلِم المسلم أن في السنة ما يحقق له النجاة والحياة الطيبة، ما يجيبه على التساؤلات اليومية التي تمر به، ما يعينه على التعايش مع الواقع الذي يعيش فيه، ما يكشف له الجواب الصحيح في كل موقف يتعرض له، ما يؤمن له المستقبل في الحياة الآخرة؛ فإنه يحرص عليها أشد الحرص، ويقدرها حق قدرها ويوليها اهتمامًا بالغًا، وعناية خاصة).

    (إن وجود هذا الهدف عند كل مسلم من أقوى الدوافع للعناية بالسنة والإقبال عليها، والاشتغال بها والحرص عليها) (راجع: مفاتح تدبر السنة، د. خالد عبد الكريم اللاحم).

    2- الإكثار من ذكر الله تعالى ومناجاته:

    هناك الكثير من الأدعية النبوية والأذكار المطلقة والمقيدة، التي تستغرق أحوال المسلم طوال يومه وليله، بها يناجي العبد ربه ويذكره ليل نهار، وتحوي معانٍ جليلة، ترفع مكانة من حفظها وداوم على ذكر الله تعالى بها، والدعاء بها؛ فلقد كان صلى الله عليه وسلم من أعظم الذاكرين لله تعالى في كل أحواله، والاقتداء به في ذلك مطلوب، قال تعالى: "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله تعالى وذكر الله كثيرًا".

    3- التداوي والشفاء بالسنة:

    والتداوي والشفاء بالسنة على نوعين:

    - تداوٍ وشفاء علمي معنوي من خلال ما حوته السنة النبوية من عقائد صحيحة، وأحكام قويمة، وأخلاق عالية وسلوكيات نبيلة، تجعل المرء طاقة متفجرة تعمل وتعطي ليل نهار.

    - تداوٍ وشفاء حسي بدني من خلال ما حوته السنة النبوية من رقى شرعية، وأدعية لها أثرها العظيم في دفع البلاء وتحقيق الشفاء.

    (إن العيش مع السنة يحوِّل حياتك إلى روضة من رياض الجنة تحس خلالها بالرضى والطمأنينة والسكينة، وتحس بوضوح الرؤية لأمور الحياة، فتنجو من التردد والتذبذب والشك، وتسلم من الانحراف عن الصراط المستقيم) (المصدر السابق، ص 39 -40).

    والأمثلة والتجارب العملية على حصول الشفاء بالسنة على مرِّ العصور لا حصر لها من عهده صلى الله عليه وسلم إلى اليوم، فمن ذلك: ما جاء عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم المسجد فإذا هو برجل من الأنصار يقال له أبو أمامة، فقال: "يا أبا أمامة مالي أراك جالسًا في المسجد في غير وقت الصلاة؟ قال: هموم لزمتني وديون يا رسول الله، فقال: أفلا أعلمك كلامًا إذا أنت إذا قلته أذهب الله همك وقضى عنك دينك؟"، قال: بلى يا رسول الله، قال: "قل إذا أصبحت وإذا أمسيت اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال"، قال: ففعلت ذلك فأذهب الله همي وقضى عني ديني".

    وعن أبي سلمة رضي الله قال: لقد كنت أرى الرؤيا فتمرضني حتى سمعت أبا قتادة يقول: وأنا كنت أرى الرؤيا فتمرضني حنى سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "الرؤيا الحسنة من الله، فإذا رأى أحدكم ما يحب فلا يحدث به إلا مَن يحب، وإذا رأى ما يكره فليتعوذ بالله من شرها ومن شر الشيطان، وليتفل ثلاثًا، ولا يحدث بها أحدًا؛ فإنها لا تضره".

    وكانت بعض الصالحات يضيق صدرها، وتحزن كلما جاءها الحيض أسفًا على فوات الأعمال الصالحة التي كانت تواظب عليها، وخاصة في رمضان، فلما سمعت بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا مرض العبد أو سافر كتب له ما كان يعمل صحيحًا مقيمًا"؛ علمت أنه يكتب لها ثواب نيتها الصادقة حال العذر، ففرحت بذلك وزال عنها ضيق الصدر والهم، وسكنت نفسها، واطمأن قلبها إلى رحمة الله تعالى وسعة فضله. (راجع في ذلك المصدر السابق).

    وحتى تظفر بالعافية والشفاء حال التداوي بالسنة النبوية؛ فعليك:

    - تدبر ما تقرأ منها وتتمعن فيه، وتستحضر في قلبك ما تشير إليه.

    - تكرار قراءة الأحاديث (فلا تكفي القراءة السريعة للحديث، بل قف عنده، وتأمل ما وراء الألفاظ من المعاني العظيمة التي تحول حياتك إلى جنة في الدنيا قبل جنة الآخرة، فكم يشقى الإنسان ويتنكد سنوات من عمره، ثم يجيء حديث واحد فقط لينتشله من الهم والقلق والضيق الذي هو فيه، وعندها يقول: ما أجهلني؛ إذ فرطت في هذا الكنز الذي في متناول يدي! كرر قراءة الحديث، ومتع حواسك بقراءته؛ قلِّبه على جميع الوجوه؛ لتكتشف ما فيه من جواهر ونفائس!) (المصدر السابق).

    (إن هذا أيسر علاج لمعظم الأمراض النفسية لمن قدر عليه وأحس بأهميته، بل هو وقاية منها قبل وقوعها، فحينما يحرص عليها الإنسان في حال الرخاء أو الصحة والنشاط، ينتفع بها حال الشدة أو المرض والفتور. وحينما نربي عليها أطفالنا منذ الصغر؛ فإن ألفاظ السنة ومعانيها ترسخ في قلوبهم، تنمو مع نمو أجسامهم، وتقوى مع قوة عظامهم، فما كثرت في مجتمعنا الأمراض النفسية، وكثرت الانحرافات الخلقية إلا حينما أهملنا هذا الغذاء النافع المفيد، وشغلنا حياتنا باللهو سواء المباح منه أو المحرم) (المصدر السابق، ص 54).

    وتأمل تلك المعاني في حديث النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنهما وكان ما زال غلامًا صغيرًا في مقتبل العمر: "يا غلام، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله. واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف".

    وتأمل تصحيح العقيدة والفهم، ونبذ الخرافات، وأثر ذلك في الاعتقاد والعمل في قوله صلى الله عليه وسلم: "من علَّق تميمة فلا أتم الله له، ومن علق ودعة فلا ودع الله له"، وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "مَن أتى عرافًا أو كاهنًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمدٍ".

    4- التحصن والوقاية بالسنة:

    من ثمرات السنة ما فيها من عموم الخير، فما من خير إلا دلنا عليه صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى عنه: "حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم" (التوبة: 128). ومن هديه ما جاء في الوقاية من الأدواء قبل وقوعها، وعلاجها إن وقعت، وهذا باب طويل، منه: ما ورد في السنة من التعوذات النبوية، نحو "أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق"، و"أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة".


    ومَن جَرَّب هذه الدعوات عرف مقدار نفعها بحسب قوة إيمان قائلها وقوة توكله على الله تعالى؛ فإنها سلاح، والسلاح بضاربه.

    ومنه: الوقاية من السحر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تصبح سبع تمرات عجوة لم يضره ذلك اليوم سم ولا سحر"، ولعل في مؤلفات العلماء حول الطب النبوي وبيان ما فيه من النفع من صور الطب الوقائي ما يكفي ويشفي في الدلالة على هذا الأمر.

    وللحديث بقية إن شاء الله.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    46,344

    افتراضي رد: حاجة كل مسلم إلى الاعتناء بالسنة



    حاجة كل مسلم للاعتناء بالسُّنَّة (4)

    منهاج للمسلم في التعامل مع الأحاديث النبوية










    كتبه/ علاء بكر


    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

    فقد اعتنى المسلمون بالسُّنة النبوية منذ عهده صلى الله عليه وسلم اعتناءً كبيرًا توارثته الأجيال، جيلًا بعد جيل، وأسفر عن عِلْم عظيم انفرد به المسلمون، وهو علم الحديث (أو علم مصطلح الحديث) بفروعه وأدواته، والذي يُعَد مفخرة للأمة الإسلامية لدقته في التحري والضبط، والذي حافظ على وضبط كل ما سجَّلته الأمة الإسلامية -ضبط صدر وضبط كتابة- من هديه صلى الله عليه وسلم؛ ليصير النبي صلى الله عليه وسلم بحقٍّ هو الشخصية الفريدة الوحيدة في التاريخ البشري كله التي حفظ عنها كل أحداث تاريخها وسيرتها قرابة ربع قرن وأكثر، ودونت كل تفاصيل حياتها وأحوالها اليومية ليل نهار، وعرفت أحوالها مع كلِّ مَن تعامل معهم، مع تمييز دقيق لدرجة صحة كل منقول منها من الصحة والضعف بمنهج علمي متكامل سندًا ومتنًا رواية ودراية، يمكن لمَن شاء مِن المسلمين أو غيرهم أن يدرسه ويتبحر فيه، فينتفع به غاية الانتفاع، وهو ما أقرَّ به البعيد والقريب.

    والذي يكشف لكلِّ ذي عينين جهالة أو عمالة مَن يطعن أو يسيء الظن في السُّنة النبوية المدوَّنة المحفوظة؛ خاصة وأن خصائص هذا العلم -علم الحديث- حرمت منها كل الأمم السابقة، ولم تصل البشرية في عصرها الحاضر في نقل أخبارها وأحداثها، وتوثيقها وضبطها ما وصل إليه علماء الحديث عند المسلمين، وهذا من توفيق الله تعالى لهذه الأمة لتحفظ به هدي نبيها صلى الله عليه وسلم؛ خاصة وأن السنة من الوحي "ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه"؛ لذا فإنه ينتفع به كل مسلم في كل زمان ومكان. ولله الحمد والمنة.

    لقد بذل المسلمون الأوائل مِن الصحابة ومَن بعدهم مِن علماء الحديث جهودًا كبيرة في حفظ سنة النبي صلى الله عليه وسلم وضبطها؛ تعظيمًا لها.

    وبذلوا لتحقيق ذلك الغالي والنفيس من الأموال والأوقات بلا كللٍ أو مللٍ، وما زالت أسفارهم ورحلاتهم في طلب أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم مضربًا للأمثال، ونحن نحتاج بالفعل إلى تذكير المسلمين بما حفلت به كتب السنة والتراجم بالكثير من الأخبار والنماذج الرائعة في طلب الحديث وضبطه وحفظه، ما يبعث في النفوس من جديد الهمة لتعظيم السنة من جديد، والعمل بها ونشرها والدعوة إليها، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "بلغني عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث في القصاص لم أسمعه منه، فابتعت بعيرًا فشددت رحلي، ثم سرت إليه شهرًا حتى قَدمِت مصر -أو قال الشام- فأتيت عبد الله بن أنيس، فقلت: حديث بلغني عنك تحدث به سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أسمعه في القصاص خشيت أن أموت قبل أن أسمعه ... الحديث" (راجع: مفاتح تدبر السنة).

    وعن ابن عباس رضي الله عنهما، وكان لما قُبِض النبي صلى الله عليه وسلم ما زال شابًا، قال: "فإن كنت لآتي الرجل في الحديث يبلغني أنه سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجده قائلًا -أي: في القيلولة- فأتوسد ردائي على بابه تسفي الريح على وجهي حتى يخرج".

    وذكر عطاء بن أبي رباح أن أبا أيوب الأنصاري رضي الله عنه سافر إلى عقبة بن عامر رضي الله عنه -وكان وقتها في مصر-؛ ليسأله عن حديث سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يبقَ أحدٌ سمعه مِن رسول الله غيره وغير عقبة، فلما سمعه منه ركب راحلته راجعًا إلى المدينة"، وعن سعيد بن المسيب قال: "إن كنت لأسير ثلاثًا في الحديث الواحد".

    (وهذه الرحلات كانت قبل تدوين السنة حين كان طلب الحديث يحصل مشافهة، ثم تلتها مرحلة أخرى وهي الرحلة من أجل ضبط الكتب وتصحيحها على الشيوخ، ولا زالت حتى الآن. وبعد أن تطورت وسائل الكتابة والطباعة، وتطورت وسائل الاتصال تعارف العلماء وطلاب العلم على نسخ معينة بالضبط والإتقان تعرف باسم محققيها، لكن يبقى ضرورة المشافهة بها على الشيوخ للتأكد من صحة نطق اللفظ وفهم المعنى، وهذا والحمد لله متيسر في كل حاضرة من حواضر المسلمين اليوم، ولا يحتاج إلى رحلة، بل يحتاج إلى وجود حرص وسخاء بالوقت والجهد، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء)، (إن من يعرف قيمة السنة يرى أنه لو أوتي أضعاف عمره ما أنقضى عجبه من بعضها) (مفاتح تدبر السنة).

    ورغم انتشار الأمية بين العرب في عهد النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقد حرص الصحابة على تدوين وكتابة القرآن الكريم وقت نزوله، وكان هذا بإذن النبي صلى الله عليه وسلم، إلى جانب حفظ الصدر وضبطه الذي يتقنونه، كما حرص بعض الصحابة كذلك على كتابة أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، الذي كان قد نَهَى أولًا عن كتابة الحديث خشية الاختلاط بالقرآن، فلما استقرت الأمور أَذِن في كتابة الحديث، فكان هناك مَن كتب ما سمع مِن الأحاديث.

    مثال ذلك: حديث أبي راشد الحبراني قال: أتيت عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، فقلت له: "حدثنا مما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم فألقى إلى صحيفة، فقال: هذا ما كتب لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فنظرت فيها فإذا فيها إن أبا بكر الصديق قال: يا رسول الله علمني ما أقول إذا أصبحت وإذا أمسيت، فقال: يا أبا بكر قل: اللهم فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة ... الحديث".

    وقد عرف المسلمون الأوائل مدارسة السنة وحفظها ونشرها، وكانوا يستعينون بمدارسه الأحاديث وتكرارها ومراجعتها لئلا تتفلت منهم وتنسى، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "جزأتُ الليل ثلاثة أجزاء: ثلثًا أصلي، وثلثًا أنام، وثلثًا أذكر فيه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وروي مثله عن عمرو بن دينار وسفيان الثوري (الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع).

    وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: "تزاوروا وتدارسوا الحديث، ولا تتركوه يدرس (الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع)، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "كنا نكون عند النبي صلى الله عليه فنسمع منه الحديث، فإذ قمنا تذاكرناه فيما بيننا حتى نحفظه" (المصدر السابق). وعن عطاء قال: "كنا نكون عند جابر بن عبد الله فيحدثنا فإذ خرجنا من عنده تذاكرنا حديثه. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إذا سمعتم مني حديثا فتذاكروه بينكم" (المصدر السابق).

    كما اعتمد المسلمون الأوائل التدرج شيئًا فشيئًا في حفظ وتطبيق السنة، أي: جعل مساحة زمنية كافية للتدريب والتكرار، فعن سفيان: "كنت آتي الأعمش ومنصورًا فأسمع أربعة أحاديث خمسة ثم انصرف كراهة أن تكثر وتفلت. وقال شعبة: كنت آتي قتادة فأسأله عن حديثين فيحدثني، ثم يقول أزيدك؟ فأقول: لا حتى أحفظهما وأتقنهما" (المصدر السابق).

    قال الخطيب البغدادي: "ينبغي له أن يتثبت في الأخذ ولا يكثر، بل يأخذ قليلًا حسب ما يحتمله ويقرب من فهمه، فإن الله تعالى يقول: "وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلًا" (الفقيه والمتفقه).

    ومِن خلال ما ذكرناه؛ فإنه يمكن القول: إن منهاج المسلم في الاعتناء بالسنة النبوية ينبغي أن يقوم على:

    1 - التعرف على درجة صحة الحديث.

    2- ضبط ألفاظ الحديث ومعرفة معانيها وما فيها من الفقه.

    3- العمل بمقتضى الحديث بلا تسويف أو تهاون، والمداومة على ذلك.

    4 - حفظ الحديث.

    5- نشر الحديث بين الناس حسب احتياجهم له.

    وهذا النشر للحديث؛ إما يكون لتعليم الناس حكمًا شرعيًّا أو تقديم نصيحة، أو يكون أمرًا بمعروف أو نهيًا عن منكر، (ومن الأمور المهمة التي ينبغي التنبيه عليها في هذا المقام: أن يكون تبليغ السنة مسندًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم معزوًا إليه قدر الاستطاعة؛ لأن هذا أبلغ في التأثير وأقوى في الحجة، فهناك فرق كبير بين أن تقول: لا تشرب بشمالك، أو أن تقول: هل سمعت يقول النبي صلى الله عليه وسلم كذا ... )، (فالناس في أَمَسِّ الحاجة لأن يسمعوا كلامَ رسول صلى الله عليه وسلم، فأنت بهذه الطريقة تجعله يسلم ويذعن احترامًا للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنك بهذه الطريقة أرسلت له رسالة خفية مفادها: أن الذي يريد ذلك منك هو الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وليس أنت، فيفهم قصدك ومرادك، وأنها ليست مسألة شخصية أو انتقاص له) (راجع مفاتح تدبر السنة).




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •