ما سلم حتى ودع

محمد كامل البنا

وظللت أنتظر رمضان في لهفة وخوف، وفرحة وفزع... أما اللهفة والفرحة : فلأني أحس وأنا في رمضان أني إنسان آخر، فيه نشاط ولحياته معنى، ولوجوده كيان، روحه أقوى من جسده، ومعنوياته أدق وأعظم من محسوساته، ولعل مَردَّ ذلك إلى أني تعودت أن أصومه طفلاً صغيراً، وشهدت الاحتفاء بمقدمه احتفاء فخماً فيه الخير الكثير، والسرور الدائم، والفرحة الشاملة حيث كانت الحياة لينة هينة، وحيث كان الناس متضامنين متآخين يعدون العدة لاستقبال هذا الشهر العظيم، شهر القرآن ونبي القرآن... فواله فتنا على تلك الأيام.
وأما الخوف والفزع فلأني منذ أن اعتراني سقم في رمضان قبل الماضي ونزل بساحتي مرض أقعدني عن صيامه ومنعني من قيامه ـ بل حال وبيني وبين ما تعودت أن أستقبله حفيا به ـ مودعاً آملاًَ أن ألقاه مرة أخرى لأصل ما انقطع وأتمم ما بدأ.
منذ تلك الأيام وأنا أخف للقائه وأخشى أن يهل عليَّ هلاله وأنا ضعيف لا أقوى على أداء حقه، والقيام بواجبه.
وقضيت أياماً طوالاً قبل حلوله ينتابني عاملان من خوف وأمل حتى إذا جاء وبدأت أصومه وأنا أرجو أن يعينني الله، ويقويني جسداً وروحاً، وتفضل عليَّ جلت قدرته فمنحن قوة من لدنه، وحباني رحمة من عنده، وأعددت عدتي للترحاب به، والاحتفاء بمقدمه، كما تعودت من أعوام على هذه الصحيفة ولكن سبقني إلى التحية والترحاب اخوان كتاب، وعلماء أفاضل لم يتركوا لي ما أقول، ولا ما أسطر.
وقلت لعل في أيام رمضان فسحة من الوقت أستطيع فيها أن أدلي بدلوي في الدلاء، وألا أقطع عادة تعودتها من زمن بعيد، ولكن سرعان ما رأيت أيامه تمر، ولياليه تكر، كحلم الوسنان أو خلسة المختلس، مرت سراعاً، ومضت تباعاً، حتى لم أكد أشعر أن رمضان بيننا، ولم أكد أهم بتحيته والفرحة بلقائه، حتى رأيته يمر مرور الطيف، ويسلم تسليم الضيف، مع أني لم أمتع خاطري به، ولم تمتلئ نفسي فرحاً بمقامه بيننا، ولعله أسرع هذا العام، ولم يكد يسلم حتى ودع، لأنه غير راض عنا، ولا هانئ بإقامته بيننا، ولم يشعر بأننا أدينا حقه، أو قمنا بواجبه، وأحسنا استقباله أو حتى سنحسن وداعه، ولعل لنا عذراً في كل هذا، فقد تغير الأيام وتبدلت، وتحولت الدنيا وتقلبت، وتطور المجتمع الإسلامي، فلم يصبح ذلك الذي ألفه الناس، أو قرأ عنه القراء، فلقد قلبته المدنية الحديثة ظهراً على عقب، وغيرت كثيراً من عاداته وطباعه، وجاءت الأزمة الاقتصادية التي حلت بالعالم أجمع، ونال منها المجتمع الإسلامي نصيباً كبيراً، فكانت ضغثاً على ابالة، ولم تمكن عديداً من البلاد الإسلامية من أن تنفذ ما اعتادته، وتقوم بما تعودت أن تقوم به في السنين الخوالي فعذراً يا رمضان ثم عذراً، وصحفاً يا رمضان ثم صفحاً، والعفو من شيم الكرام.
يا رمضان:

إني لأحس بالغصة في الحلق وأنا أودعك، وأشعر بالألم يشيع في مناحي نفسي، وأنا أشيعك وأسرح طرفي في تاريخك منذ فرض الله صيامك، وسنِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قيامك، وأذهب بفكري بعيداً إلى ما قبل بعثة نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم، فأرى أنك لم تكن قبل الإسلام إلا شهراً يرمز إلى الرمضاء والحر الشديد، وليس له عند الجاهلية إلا هذا المعنى العادي، فلما جاء الإسلام عظمك وكرمك، وجعلك شيئاً مذكوراً بما وقع فيك من حدث غير مجرى التاريخ، وقلب الإنسان من سائمة تباع وتشرى إلى إنسان له كيان وله كرامة وله شخصية ولحياته معنى، ولوجوده كيان.
ومن هذا الوقت وأنت يا رمضان شهر له قيمة، وله قدسية وله روحانية لا توجد في غيره من الشهور، بل لقد أصبحنا موقنين بأن الصيام فيك غير الصيام في سواك من الشهور، فقد يصوم الإنسان في المحرم وفي رجب في شعبان وفي غير هذه الأيام ولكنه لا يشعر باللذة الروحية ولا بالفرحة الشاملة الغامرة إلا في صيام أيامك، وقيام لياليك أنت وحدك الذي خصك الله بهذه الميزة، وحباك تلك المنزلة تكريماً لقرآنه الذي أنزله فيك، ونبيه الذي بعثه في ليلة من لياليك.
لقد عشت هذه التجربة، وأحسست الفرق بين أيامك وأيام سواك، والبركة التي تحيط بنا وأنت بين ظهرانينا، وصمت في شهور غيرك، وقمت في ليال غير لياليك، فما أحسست صيامي في هذه الآونة إلا إمساكاً عن الطعام والشراب، وقياماً، لبعض النوافل التي نؤديها من وقت إلى آخر...
أما أنت يا رمضان، أما أنت يا شهر القرآن، أما أنت يا شهر الأيتام، فإن لصومك روعة ولقيام لياليك إحساساً غامراً لا يشعر به إلا المؤمنون [الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ] {الأنفال:2} .
أجل يا رمضان، هذه هي منزلتك وتلك مكانتك في نفس كل مسلم يشعر حقاً بالإسلام، ويحس أنه من أتباع نبي الإسلام.
أما الذين يمسكون فيك عن الطعام والشراب، ويلغون في الأعراض، ويتسلون بسير الناس، والحديث عما فعلوا وما عملوا.. أما هؤلاء وأمثالهم فليس لهم من الخير نصيب، ولا على الصيام جزاء وحق فيهم قول الصادق الأمين : >من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه<( ). ويا رمضان إنا لنرجو ألا تكون من هؤلاء بل إنا لنأمل أن نكون من الذين أدوا واجبك حسن الأداء، وقاموا بما تفرضه عليهم الضيافة لعزيز وفد من لدن حكيم عزيز.
وإذا كنت قد رأيت منا تقصيراً أو قصوراً، وشهدت هنات هينات أو غير هينات بل رأيتنا في بعض الأحيان خرجنا عن الطور، ولم نمسك زمام نفوسنا، ولا استطعنا ضبط عواطفنا فكن شفيعاً لنا عند ربك ولا تشتك أفعالنا بل كن كالعهد بك كريماً شيمته الصفح، رحيماً من طبعه الرفق، محضر خير، وشاهد بر عندما يسألك رب العالمين.
يا رمضان إني فيك لطامع، وفي عفو الله العفو الكريم لآمل، وشفيعي في هذا أني أحمل بين ضلوعي قلباً خفاقاً بحب الله وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وحب ما جاء به شرع الله، وحبك يا رمضان يا أفضل شهور العام، ويا من اختصك الله بلية هي خير من ألف شهر تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر سلام هي حتى مطلع الفجر، وتحية لك يا رمضان من الأعماق، وعهد أقطعه قبل رحيلك إن عشت حتى عدت إلينا مرة أخرى لأحاولن أن أقوم بواجبك ما وسعني الجهد، وواتتني الأيام، والله على ما أقول شهيد، وهو أكرم مقصود، وأكرم معبود.